السبت ١١ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم رابعة حمو

روايـة حمار في المنـفى / أنـس زاهد

كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم

في البدء صرخ شاعر قديـــم:

لقد ذهب الحمار بأم عمرٍ

فلا رجعت ولا رجع الحمارُ

ومنذ ذلك الزمان يثير الحمـار في ذاكرتنا العربية الدهشة بغيابه وأم عمر. التي لم يعثر للآن سبباً لغيابها. وقد استثارتني موضوعة الحمار في الأدب الحديث بعد أن أُسقط في يدي رواية للكاتب أنس زاهد "حمار في المنفى" (والتي صدرت عن دار نجيب الريس2001). فقمت بجولة سريعة امتطيت بها حمار أنس زاهد وتجولت معه بين رفوف الذاكرة العربية. واتخذت من استقراءاتي لمفردة الحمار الدلالية والنفسية والصوتية دليلاً مع "حمارنا المغترب". حيث وجدت بعد طول تأمل أن هذه المفردة تتألف من ثلاث مقاطع صوتية ذات جرس غريب، ووقع في الأذن عجيب. فصوتيم المقطع "ح" حلقي، يأتي من أقصى الحلق أي يصدر من الأعماق. يتبعه صوتيم "م" الشفوي الذي تنطبق عليه الشفتان مغقلة جوف الفم بأكمله في وضع استعدادي للانفجار والانشطار. ثم الصوتيم الثالث الطويل "آر" يأتي كاستراحة لإخراج كل ما يعتمل الرئة من انحباس الهواء بين الشفتين في وضع انفجاري. مع ملاحظة التشديد على مؤخرة هذه الكلمة "ر"

لندع الفيولوجيا وعلم الأصوات جانباً الآن. ولنفتح أكياس ذاكرتنا لاستحضار بعض مشاهير الحمير الذين مروا في الذاكرة العربية. فقد وجدنا أن الحمار يتمتع بحصانة عميقة ضاربة جذورها في التاريخ العربي. وأنه يحظى بشيء غير يسير من الاهتمام في الشعر والأدب العربي. بل ويتعدى الأمر إلى النصوص الدينية. وجاء في الدراسات الحيوانية أن الحمار وجد لأول مرة في المنطقة التي تسمى حالياً الصومال قبل ما يقارب 12 ألف سنة. وأشعر أنواعه "الحسائي" الذي يستخدم للمشي والجري. ويتمتع بقدرته فائقة على التحمل والصبر.

وقد جاء الحمار في القرآن الكريم في أكثر من موضع: كسورة البقرة، والجمعة، ولقمان، وفاطر، والنحل، والمدثر. إذ أراد الله تعالى أن يبين للإنسان أنعمه عليه. فقال في محكم تنزيله "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة". كما ورد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله فإنه رأى شيطاناً".
وكان الحمار مركباً للرسل والأنبياء عليهم السلام. فقد حمل سيدنا عيسى من جبل الطور إلى القدس. كما أهدى المقوقس حماراً لسيدنا محمد عليه السلام. وحمل الخليفة عمر بن الخطاب لفتح بيت المقدس، واستلام مفاتيح القدس من الصليبيين في العهدة العمرية. وتسمى كثيراً من المشاهير بالحمار كالصحابي "عياض بن حمار"، وحمير بن عدي، ووجدنا قبائل عريقة كقبيلة حمير.

نأتي للأدب العربي، حيث تحدث العقاد عنه كثيراً في كتبه. لكن الحمار كان وافر الحظوة لدى توفيق الحكيم. وخير دليل كتبه المتعددة "حمار الحكيم"، و "كتاب حماري"، و "قال لي الحمار". وكذلك تحدث إبراهيم المازني عن فروسيته من فوق ظهر الحمار.
كما نتذكر حمار الروائي الفلسطيني إميل حبيبي في رائعته "المتشائل" والذي يخبرنا بطله المسمى سعيد أبي النحس المتشائل أنه ولد مرة أخرى بفضله بعد حرب 1948." فمتى كانت البداية؟ كانت البداية حين ولت بفضل حمار، ففي الحوادث كمنوا لنا وأطلقوا الرصاص علينا. فصرعوا والدي رحمه الله، أما أنا فوقع بيني وبينهم حمار سائب فجندلوه فنفق عوضاً عني، إن حياتي التي عشتها في إسرائيل بعد هي فضلة هذه الدابة المسكينة، فكيف عليك أن تقوم حياتي يا أستاذ". المتشائل ص16.

وصلنا إلى الشعر فتتذكر أمير الشعراء أحمد شوقي الذي أفرد باباً شعرياً كاملاً، ومملكة مليئة بالحيوانات الأليفة والمتوحشة. فقرر ملك الغابة في أحد الأيام أن يستوزر الحمار بعد اجتماع حيواني. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان:
لم يشعر الليث إلا ومملكته في دمار
الكلب عند اليمين، والقرد عند اليسار
والقط بين يديه، يلهو بعظمة فأر
فصرخ الليث غاضباً:

أين بطشي واقتداري، وهيبتي واعتباري؟

فجاءه القرد سراً، وقال بعد اعتذار

يا عالي الجباه فينا، كن عالي الأنظار

رأي الرعية فيكم

من رأيكم في الحمار

وكذلك نتذكر حمار الشاعر الغاضب أحمد مطر في لافتاته:

وقفت في زنزانتي
أقلب الأفكار
أنا السجين ها هنا
أم ذلك الحارس بالجوار؟
فقال لي الجدار
إن الذي ترثى له قد جاء باختيار
وجئت بالإجبار
وقبل أن ينهار فيما بيننا
حدثني عن أسد
سجانه حمار

وبعد هذه الجولة "الحمارية" السريعة نصل إلى آخر "الحمير" وهو للحق حمار فيلسوف، حكيم، يفهم بالسياسة والاجتماع ويستمع لأغاني عبد الوهاب، ويرقص قلبه طرباً لمشاعر الحب، وتفيض عينه بالدمع إذا حزن، يروي حالة بني جلدته من "الحمير العرب" الذين حُكم عليهم بالامتطاء من المهد إلى اللحد من حكامهم الذين استحمروهم واستعمروهم. (حيث لا فرق بين الحاء والعين لدى الشعوب المستعمرة والمستحمرة). وجعلوهم يؤلهونهم كالأصنام. فقرر أن ينفض عنه غبار العبودية وأن يتنفس بحرية كخلق الله. لكن أنى له ذلك وهو الحمار العربي الذي دُرِبَ لأن يكون مطية لسادته وحكامه؟ فكانت نهايته فاجعة وأليمة. وذلك باغتياله بكاتم صوت على يد حمار آخر جاسوس. ننتهز هذه الفرصة ونقتبس نتفاً من هذه الرواية التي عادت بنا إلى الأدب الساخر الذي يضرب جذوره في الأدب العربي، وينشط في عصر القمع والاستبداد والإرهاب. وأي قمع واستبداد أكثر من عصرنا‍! ؟

وأي شعب مُسْتَحمَر على وجه البسيطة كشعوبنا العربية‍!؟ وأي مستعمر استحمر شعباًُ كشعوبنا العربية واستباح أرضها وعرضها وكرامتها وتطاول على دينها ورسولها وبقي عاجزاً عن الدفاع حتى ولو بأضعف الإيمان‍ بعد أن كان خير أمة أخرجت للناس!؟ حتى الحمار لم يصمد أمام جلاديه فقرر الانتفاضة والثورة على واقعه. لكنه اختار الاتجاه الخاطئ للحرية. فبدل أن يبقى في وطنه ويدّك أسوار الخوف الذي عشش في رأسه من حكامه الذين يرهبونه، وجعلوه مطية سائغة لهم ولعجزهم. يلجأ إلى السفارة الأمريكية لحل مشاكله. وهو لا يعلم أنها مّنْ تطارده وتعيق حريته وتوفر لأسياده كرابيج القهر والعذاب. وتتفنن في قهره، بالأحمال حيناً التي تنوء عنها الجبال. ومحاصرته في لقمة عيشه في وطنه أو في خارجه فيرحل إلى فرنسا البلد الاستعمارية العجوز التي تدعي الديموقراطية والحرية والأخوة. فيصبح حاله كالمستجير من الرمضاء بالهجيرة. فيلاقي مصيره الفاجع "الموت بكاتم صوت من حمار/ خائن/ عميل".

"لكن الحمار انتفض فجأة، وبحركة في منتهى الرشاقة ألقى ما على ظهره من أحمال وجرى بسرعة نحو سور عال، وكأنه حصان مدرب تدريباً عالياً، فقفز الحمار من فوق السور، وفي لحظة واحدة كان قد استقر داخل الحديقة الكبيرة التي تقع خلف السور. والتي كانت عبارة عن حديقة للسفارة الأمريكية.

رئيس الحرس: إذا كنت تعرف كل شيء فقل لي أين نحن الآن.
الحمار: نحن داخل مبنى السفارة الأمريكية.

الموظف: ماذا تريد؟

الحمار: بصراحة يا سيدي إنني أطالب بحق اللجوء السياسي من سفارتكم.

الموظف: تفضل، السفير يرغب بمقابلتك.

الموظف: الناس في بلادنا لا يستطيعون مقابلة مدير عام بسهولة ولا يستطيعون مناقشة ضابط على كتفه نجمة يتيمة.

الموظف: أنا قلت لك إن الأمريكان شيء والعرب شيء آخر.

فتح السفير الباب ورحب بالحمار ثم رجاه بلطف أن يدخل.
السفير: أنت الآن داخل أراض تحب الحمار وتقدره حق قدره، هل عرفت أن الحزب الديمقراطي الحاكم اتخذ الحمار شعاراً له.
الحمار: معقول؟ في بلادنا الحمار هو رمز الغباء.

السفير: لأن الناس لديكم حمير... آسف أقصد ليسوا أذكياء بالدرجة الكافية، الحمار يا عزيزي عندنا هو رمز للتحمل والطيبة والغباء.

السفير: لماذا تريد اللجوء إلى بلادنا؟

الحمار: بدأت أكتشف فجأة أن جميع حقوقي مصادرة فهربت.

السفير: فكيف عرفت أن حقوقك مصادرة؟

الحمار: خبر صغير في جريدة يقول بأن الأوروبيين اشتروا قطعة أرض كبيرة في فرنسا. وخصصوها لإقامة الحمير المضطهدة في بلاد العالم
الثالث وبلاد أوروبا المتأخرة.

السفير: وقبل ذلك ألم تكن تعرف أن حقوقك مهضومة.

الحمار: لا، وحياتك طول عمري، وأنا أعتقد أن وضع الحمير في العالم
العربي هو مثل وضع حمير أوروبا وأمريكا.

السفير: من قال لك ذلك.

الحمار: لم يقله لي أحد. لقد قرأت ذلك في الجرائد.

السفير: وهل يقرأ الحمير الجرائد.

الحمار: وهل يوجد أحد غير الحمير يقرأ الجرائد العربية؟

السفير: أنا اعتقدت من خلال معيشتي هنا أن الإنسان فقط هو الذي يتعرض للظلم.

الحمار: اعتقاد خاطئ يا سعادة السفير. كل كائن هنا يتعرض للظلم. حتى الجماد لا يسلم من ذلك.

السفير: أعتقد أنك تبالغ.

الحمار: لا والله أنا لا أبالغ. خذ مثلاً الآثار التاريخية في العالم العربي. إنهم لا يفكرون حتى في ترميمها إنهم لم يكتفوا فقط بإضاعة تاريخهم وبالانفصال عنه، ولكنهم أداروا ظهورهم لمعالم التاريخ نفسها.

وبعد نقاش يقرر السفير منحه الجواز الأمريكي. فيرجوه الحمار بنقله إلى ملجأ الحمير المعذبة في فرنسا. فيوافق على طلبه. ويرسل أحداً ليحمله إلى هناك.

وصل حمارنا اللاجئ إلى الأراضي الفرنسية بعد رحلة بحرية طويلة. عانى خلالها شتى أنواع العذاب والخوف. كان ينظر إلى كل الحيوانات بعين الشك والريبة، فبعض أجهزة المخابرات العربية وإن كانت فاشلة جداً مع الأعداء، فإنها فعّالة للغاية مع مواطنيها. وطالما أن الحمار مواطن عربي حاصل على حق اللجوء السياسي إلى أمريكا، فإنه لا بد أن يكون هدفاً لأجهزة المخابرات العربية، خصوصاً بعد الفتوى الصادرة في أكثر من بلد والتي أعلنت إهدار دم الحمار الخائن.

لكن الحمار وصل بسلامة إلى فرنسا، واستقبله موظف تابع لحركات الدفاع عن حقوق الحيوان. ولأنه لاجئ سياسي له وزنه وقيمته، فقد أنهى الموظف إجراءات السفر بسرعة. ثم اصطحبه إلى ملجأ الحمير المعذبة. وفي هذا الملجأ يتعرف ببريجيت التي ستشاطره الغرفة. فيسعد لذلك أيما سعادة. وتستمر سعادته إلى إن يحس باكتئاب حموري بعد ستة أشهر. عانى فيها الغربة والشوق والحنين للوطن. فيقرر الملجأ إن يرسله إلى منتجع ايفيان للترويح عن نفسه. وفي هذا الملجأ يتواجد حمار آخر يلبس نظارات سوداء باستمرار، ويقرأ في جريدة مخرومة. وفي أحد الأيام سمع نزلاء منتجع ايفيان من الحمير صوت لغط وصراخ وعويل ونهيق وبكاء. فوجدت جثة الحمار اللاجئ على الأرض تسيل منها الدماء. ولا زال البحث جارياً عن الحمار الآخر....

كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى