الأحد ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٤
قصة قصيرة
بقلم سليمان نزال

زمن الصقور

قالَ خالد الأشقر إبن العشرين ربيعاً:" نلتقي على ضفاف نيلنا يا أصدقاء..و لن أتاخر أكثر من ساعة..سأصلح السقف في البيت"

لم يرد عمران الساخر الشجاع أن يمر الموقف دون تعليق و قال لخالد الذي كان يهم بالإنصراف: إغلقْ كلَّ ثقوب سقف شهوتكَ بإحكام! و إياكَ أن تتعرضَ لتيارات الهواء الباردة بعد أن تستحم!

لم يجب خالد و تابعَ طريقة بخطوات سريعة نحو بيته المحاذي "للنيل"..

لكنه إلتفتَ فجأة و بسرعة إلى الوراء و ألقى صوب عمران بحصاة..تجنبَ عمران الضربةَ ثم قال:

 " أهي حبكت ..شو صار لو إستنى شوية" و لم يستمع خالد إلى التعليق الأخير..

كان قد مضى على زواج خالد ثلاثة أسابيع..إستخدمَ فيه " حجة" تصليح سقف البيت عشر مرات.. و كنا نعرف أن هذا حقه.. و أن هذا هو الوقت الوحيد و المسموح سرقته من روزنامة المهام النضالية الصعبة.

بعد ساعات يأتي الليل, تُوضع الخطط, يتم توزيع الكمائن و يصبح المبيت في المنزل عسيراً على المطلوبين و المناضلين, لذا إعتدنا أن نقضي كلَّ حاجاتنا اليومية و الشخصية في ساعات النهار الأبيض.. و كنا نتناوبُ على الجلوس خلف حجارة كبيرة قرب المجرور الكبير و غير المسقوف و المكشوف للأوساخ و الجراثيم و مختلف الأمراض الوافدة و المحلية.. و كان هذا المجرور الكريه ذاته محط تندر الشباب و كتعبير عن المرارة و الإستياء أطلقنا عليه إسما يتناقض تماماً مع واقع الحال.. إذ دعوناه" بالنيل"..و أين هو بكل مفاسده و حشراته و رائحته المنفرة من النيل العظيم؟

هذا كان نيلنا بكل مشاكله التاريخية المزمنة..نيلنا الذي طالبنا بسقفه و إصلاحه و تنظيفه من القاذورات ألف مرة..و كم من عريضة إحتجاج قدمناها للمسؤولين..و كم من شكوى إرتطمت بجدار اللامبالاة..

أما الذين يملكون السلطة و المال و الإمكانات في المنظمة, فقد تجاهلوا الموضوع .. و أكدوا أن لا حاجة لوجودنا قرب هذا ال"نيل" المتسخ بعد الإنتهاء من مفاوضات الحل النهائي..

بقي" النيلُ" على حاله ينتظرُ يداً تصلحه.. و ظلَّ محطة إنتظار و مراقبة لتحركات الأعداء.. و لعل فائدته كانت تكمن في أن رائحته تزكم أنف العدو..فلا يدنو من مرابضنا..إلا بمساعدة أوساخه و توابعه..

بعد إسبوع واحد فقط تزوج عمران, صاحب التعليقات اللاذعة, من قريبته.. أقمنا له حفلاً جميلاً متواضعاً..و ساهمتُ أنا بعد إلحاح من الشباب في رقصة"طل سلاحي من جراحي"

كان عمران أمهرنا في إصابة الأهداف و كان خبيراً في صنع العبوات الناسفة..و لم يكن بمقدورنا الإستغناء عنه..أكثر من ثلاثة أيام.. كما أنه كان يحمل في رأسه خطة لإصلاح" النيل" و تقويم حالة جريانه البطيئة و المعرقلة..

يوم زفافه..كنا كعادتنا نقف بجوار المجرور النيلي..و كانت هذه فرصة لخالد الأشقر كي يردَّ..فرأيناه يدور حول نفسه بحركات أشبه بالرقص و يصيح:

أنظروا إلى الماء الأسود في المجرور..تأكدوا من المصدر..المصدر واضح.. و أشارَ إلى بيت عمران الساخر الجريء..

قال حسن: نحنُ لا نشاهد أي شيء جديد.. كل شيء على حاله..كما نعرفه..

أجابَ خالد بسرعة: صحيح..أنت على حق..الجديد في الموضوع, تلك النقاط البيضاء تطفو فوق سطح المعاناة السوداء.. و إشارَ إلى المجرور"النيل"

ضحكنا..بعد لحظات كان عمران يقف فوق رؤوسنا.. مرتدياً بدلته الخاكية.

أخذَ ينظر في وجوهنا كأنه يرانا للمرة الأولى..

قالَ بصوت أقرب إلى الهمس: بعد نصف ساعة ستسمعون صوت إنفجار دبابة صهيونية عند مفرق المخيم..

نظرنا إلى بعضنا البعض مدهوشين, غير مصدقين..ثم أخذنا ننظر إلى ساعاتنا..لم ُيعرف عن عمران الكذب و إدعاء البطولة..كان مشهوراً بصدقه..لذا ألقى الصمت فوق رؤوسنا ظلالاً برتقالية..أخذنا نترقب الحدث..

 ما بكم..ألا تصدقون..بعد دقيقتين فقط تسمعون الحكاية؟

  قلتُ لعمران: إين أمضيتَ ليلة الدخلة؟ لم يجبني..

وحده الإنفجار كان يجيب..أخذنا نعانق عمران..البعض كان يصفق..

قال حسن: شكراً على الهدية يا عمران..

بعد دقائق كانت وكالات الأنباء تتناقل خبر العملية البطولية في المكان الذي حدده لنا عمران..

إقتربَ مني عمران..كان يبدو صارماً جاداً..لم يعد ذاك الساخر, وضع يده على كتفي و سأل:

متى نستطيع الإنتظار قرب نهر حقيقي نظيف..لا مفاسد فيه و لا مخاطر و أوبئة؟

قلتُ: قريباً.. و أخذنا نغادر المكان..نحو مهمة جديدة.. و بدأنا نحلم بالوصول..

أما علي الصامت الكبير بيننا و القائد المتواضع فقد هزّ رأسه موافقاً و تقدمنا في المسير.

سليمان نزال


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى