الاثنين ١٢ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
"كراكيب الكلام" ديوانها التاسع:
بقلم عبده وازن

سوزان عليوان شاعرة حاضرة بانكفائها

تجاوزت الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان عتبة الثلاثين وحصيلة نتاجها تسعة دواوين صدر آخرها حديثاً وعنوانه «كراكيب الكلام». الا ان هذه الشاعرة التي عاشت في القاهرة فترة غير قصيرة لا تبدو انها متحمسة للخروج من طور «الهواية» على رغم تجربتها الخاصة. فهي لا تطبع كتبها في أي دار ولا تشارك في أي لقاء شعري وتكاد توجد على هامش الحركة الشعرية العربية. تصدر كتبها على حسابها وتوزعها باليد والبريد، وتتولى أحياناً رسم الاغلفة وبعض التصاوير الداخلية بنفسها. ولعلها، عبر هذه الخصال، تشكل ظاهرة لافتة، خصوصاً انها كرست حياتها للشعر والرسم و «الحلم» أحياناً كما تعرّف عن نفسها. والتكرّس للشعر لم يعن لها يوماً الخروج من شرنقة الذات الى اضواء الاعلام والشهرة. انها دوماً في حال من الانطواء او الانكفاء منصرفة الى حياة تشبه الشعر أكثر مما تشبه الواقع. لكن أداة تواصلها مع العالم هي الموقع الالكتروني الذي تقدم فيه قصائدها ودواوينها والقليل القليل من سيرتها.

ولئن تفتحت سوزان عليوان شعرياً في القاهرة حيث تخرّجت في الجامعة الاميركية وتنقلت منذ اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 بين الاندلس وباريس والقاهرة فهي الآن تعيش في بيروت ما تسميه «خرافة الوطن». هذه الشاعرة الشابة «المقتلعة» لم تشعر يوماً بالانتماء النهائي والمنجز الى ارض واحدة ووطن واحد. وهذا اللاإنتماء يشعر به قارئ كتبها او قصائدها بعامة، فعالمها يكاد يكون مطلقاً وربما أثيرياً، عالم قائم على شفا الذكرى والوهم والتخيل، عالم طفولي مضطرب، حزين وبريء، نقي ومتكدر في الحين عينه. وفي ديوانها الجديد يتوقف عند حياتها التي تسميها «الفراغ» الذي بين شاهد قبرها وشهادة ميلادها. والثلاثون الذي هو عمر «الشقاء» بحسب كافكا، بات أشبه بـ «السور» كما تعبر الشاعرة، بأحجاره التي هي الصور والكلمات والمشاهد المحزوفة والحجرات والمقاهي و «فراغ الاعماق» و «الأب الغائب» و «المرأة المجهولة» التي هي الأم... وتصف الشاعرة «شجرة العائلة العارية» بـ «الهيكل العظمي»... هكذا تكتب الشاعرة عزلتها الوجودية لا الزمنية فحسب مع انها تعترف ان الزمن بذاته هو عقاب قاسٍ. تكتب وكأنها تعرّي ذاكرتها لتصل الى الفراغ الذي يحررها من أي قيد ولتكون «الغريبة» التي لا تشبه احداً كما تقول في احد كتبها السابقة أو «ملاكاً على حافة قمر». والملاك يحضر كثيراً في قصائد سوزان عليوان مرشحاً الطابع الحلمي وربما الفنتازي لعالمها. لكنه ملاك طفولي دوماً، «ملاك صغير متدلٍ من شجرة ميلاد ميتة». هذه الحالة الملائكية ليست دينية صرفاً ولا ميتافيزيقية ولا تشبه حالة الرعب التي يرمز اليها «الملاك» في «مرائي» الشاعر الألماني ريلكه الذي يقول: «كل ملاك رهيب». الملاك في شعر سوزان هو وردة في إناء مكسور او طائر على غصن محروق. إنه الملاك، صنو الشاعرة، يسقط فتسقط هي من «كوكبها الاخضر» الى «صحرائهم». هذا «السقوط» يذكر بسقوط «الامير الصغير» بطل رواية اكزيوبري الشهيرة على الكوكب الغريب. وعالم سوزان عليوان اصلاً ليس غريباً عن عالم هذا «الأمير» المتراوح بين الحلم واليقظة. فهي كانت استوحت من قبل ذلك «الأمير» الذي «أحبت ضحكته واختفى في صفحة اخيرة من رواية». حتى رسوم الشاعرة تذكر برسوم صاحب «الأمير الصغير» في اختزالها وطفوليتها (الناضجة) وعفويتها.

كتبت سوزان عليوان قصيدة عنوانها «أزل» في ديوانها «لا أشبه احداً» تتمنى فيها لو كانت اكبر من أمها لتكون أماً لها. فالأم التي، كما تقول القصيدة، طفلة حزينة تجعلها الشاعرة في مخيلتها طفلة وتجعل من نفسها أماً. هنا ليس من محاولة قتل لرمز الأم بل محاولة خلق جديد لها وفق معادلة جديدة: الابنة هي الأم والأم هي الابنة. وقد لا يكون مستغرباً ان يهيمن الجو الساحر للطفولـــة التي غذتها الحكايــات والقصـــص الخرافية، فالشاعرة تتخيل نفسها مرة «أميرة» نائمة على الارض، لكن الاقزام السبعة «لا أثر لهم في الحجرة».

الديوان الجديد «كراكيب الكلام» لا يختلف كثيراً عن الاعمال السابقة للشاعرة على رغم انه يضم قصيدة واحدة طويلة نسبياً. لكنها قصيدة ذات مقاطع (غير مرقمة) او قائمة بحسب نظرية ت. إس. إليوت على «قصائد قصيرة». فالقصيدة الطويلة في نظر شاعر «الارض الخراب» هي مجموعة قصائد قصيرة. الا ان مقاطع هذه القصيدة يجمعها «خيط» دلالي (مثلما يقال: حقل دلالي) يرسخه «المطر» الذي يشغل القصيدة كلها. وقد تعيد هذه القصيدة الى ذاكرة قارئها قصيدة بدر شاكر السياب «انشودة المطر»، لكن «مطر» سوزان عليوان يستحيل «كابوساً»: «لا شيء / لا شيء سوى المطر... لا شيء سوى المطر». ليس المطر هنا رمزاً للخصب والحياة والانبعاث مقدار ما هو حافز على الحزن والكآبة واللاجدوى. تقول الشاعرة ببراءة طفولية: «ما دام الماء حياة / فلماذا لا يتحوّل المطر / الى بشر وبيوت وبلاد؟» والمطر لديها، اذ يتخلى عن بعده الاسطوري الرمزي يزيد من سأم الكائن ويحدث «دوياً» في الفراغ الذي بين قطرة وأخرى». ولا تني الشاعرة عن تشبيه «الشارع الطويل» الذي لا ينتهي بـ «اليوم الماطر» الذي يحمل الكثير من الضجر والفراغ. ولعل المطر نفسه هو الذي يدفعها الى مثل هذا السؤال: «أين نافذتي ايتها الجدران؟. وهي تدرك تمام الادراك ان ما من أسف بات «يجدي» فـ «الرسائل لم تصل» و «المطر يمحو ملامحنا».

قد يوحي عنوان الديوان التاسع ان الشعر ضرب من «الكركبة» او الرصف الفوضوي للكلام، لكن المقصود هنا ان الشعر هو «إفراغ» للكلام من «كراكيبه الكثيرة». وما يدعو الى مثل هذا «الافراغ» حال القلب الذي هو «وردة ظل» وحال الجسد الذي هو «شجرة غياب وحال الحبر الذي «ليس دماً». هنا تخالف الشاعرة مقولة الشاعر الرومانطيقي الياس ابي شبكة الذي جعل من «الدم» حبراً عندما قال: «إجرح القلب واسقِ شعرك منه...» وإن لم يكن حبر سوزان عليوان دماً فلأنه من رماد وربما من دمع مالح.

في «كراكيب الكلام» تهيمن غيمة من سويداء على القصيدة الطويلة ويبدو شعر سوزان عليوان كأنه يتخلى عن سماته الطفولية الحزينة موغلاً أكثر فأكثر في حال من الوجودية الكئيبة. لكن الشاعرة، على رغم «حدة الألم» ستظل تصدق «ما لا تراه» كما تقول في قصيدة سابقة. فما تراه لا يشجع كثيراً على المضي في التفاؤل والأمل الذي لا خلاص من دونه. سألت الشاعرة نفسها مرة وأجابت: «من أنت؟ مفتاح فقد بابه».

ما أحوجنا الى ان نعيد اكتشاف سوزان عليوان هذه الشاعرة الحاضرة والمنسحبة في آن واحد، الشاعرة التي فرضت اسمها من غير ان تخرجها من عزلتها الجميلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى