الأربعاء ٢١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم محمد أبو عبيد

صبرا وشاتيلا.. الذكرى المنسيّة

ذكرى صبرا وشاتيلا في السنوات الأخيرة ليست كسابقاتها، فليتها اعتكفت. إنها تحمل من الأخبار ما قد يحدو برميم ضحاياها إلى الحمد أنهم غادروا قبل معرفة الجرح الذي ألَمّ بوطنهم الجريح، أصلاً، وهو بفعل أبنائها هذه المرة. فالوطن الذي تمنوا أن يصبحوا عليه هو الآن دويلتان بجوار دولة قامت عليه. لعل الضحايا يتذكرون في قبورهم كيف كانت وجهة السلاح الفلسطيني!

الآن الأمر مختلف، فيجوز للفلسطيني، الذي له سلطة وليست له دولة، أن يقيم دويلتين تبغي إحداهما على الأخرى، ولا تفيء إحداهما إلى الهدف الأسمى، ولا تجنحان للسلم وتغليب مقام الوطن. عَلمٌ يتغيّر، واسم يتبعثر: دويلة الضفة الملونة، ودويلة غزة الخضراء. فالمشروع الوطني صيّره البعض دينياً انصياعاً لمرجعيّات خارجية تبحث عن موطئ قدم لها في فلسطين.

عندما كان يُقال فلسطين، كانت المخيلة تتفتق صوراً أبسطها أن للفلسطينيين الشمس والقدس والساحات والبيوت العتيقة، وأن على أرضها ذاك الفتى الربيعي القابض على حجره يرميه على الجندي الممتلئ بأوامر القتل، وأن خارجها تلك التسعينية العاضة بنواجذها على مفتاح العودة، ومُدْنِية على جسدها الثوب الشعبي الذي، وإن صار خرقة بالية، لا تُمحى ألوانه. أما اليوم، إذا قيل فلسطين، قيل ماذا تقصدون؟ الملاصقة للأردن، أم المجاورة مصر؟ ثم قيل نعرفها، فهي التي يعتدي ابنها على نفسه، وهي الآن دويلتان لا وطن، عَلَمان ودستوران. هي حركة باتجاه الانتحار لا صوب الولادة والانبعاث.

لعل من بين الرماد السياسي، ينبعث صوت ليعتذر لضحايا المجزرة، متذكراً كيف ذُبحوا بدم بارد في شهر حار، على أرض أحبوها وأهلها، لجأوا إليها وإليهم تجنباً للذبح حتى يعيشوا في انتظار العودة إلى حيث اقتلعوا. لكن مصيرهم كان الذي راموا تجنبه، فاصطادتهم ميليشيات مسلحة لسانها عربي. وانقضت عليهم كأنهم ليسوا بشراً يستحقون الحياة على أرض بعد أن كانت لهم أرض يستحقون عليها الحياة، فيناجيهم بالقول:

ذُبحتم يا أهل صبرا وشاتيلا بتفنن كأنكم تجارب لفنون القتل وابتكار طرائق لإخراج الجنين من رحم أمه، فتمتد إليه يد من لا يرحم ليرحل الجنين من رحم أمه إلى رحمة ربه، وهي التي تمنتْ مصيرها المشؤوم قبل طفلها كيْ لا تُقتَل مرتين. ما ذنبكم سوى أن قدركم هو النسب إلى فلسطين، فما كان عقابكم مجرد قتل، وفي بعض القتل رحمة، لكنه كان إشباعاً لنزوات السادي.

أعذرونا يا أموات صبرا وشاتيلا الأحياء إنْ تراقصنا مع أغنية طرباً، أو اندمجنا مع فيلم رومانسي أو تمتعت الأعين بكل فاتن، فما هذه إلا ضرورات الحياة. أعذرونا إن أنستنا هموم العيش، أو ملذاته، بعضاً من ذكراكم، فواجبنا على أرضنا أن نفرح قليلاً لعل فيه غيظاً لمن صادروا الفرح، وتِلكم حلاوة العيش: هَمٌّ يصاحبه سرور، وحزن تتخلله ابتسامة.

ستبقى ذكرى الساعة الخامسة من يوم الخميس 16 سيبتمبر 1982 يقظة في نومنا وصحونا، وهي لن تغفر ما دام الآثمون يسرحون كأن أياديهم براء مما اقترفت. فثلاث ليال مرت عليكم كثلاثين عاماً من الرعب والخوف، سُخرت فيها أدوات القتل عليكم فإذ أنتم صرعى كأنكم أعجاز نخل خاوية. لقد لملمنا أشلاءكم في أفئدتنا، وصبرا وشاتيلا صيرناهما اسميْن للأبناء من بعدكم كي تبقى الذكرى حية. لقد حُرِمْتم حتى ميتةً على أرضكم ومواراة جثامينكم في ترابكم. ويبقى لكم حق، هو حق الأرض التي أنشأتكم، وحق السماء التي ظللتكم، وحق التاريخ الذي جعل فلسطين أرضكم، فناموا قريري العين، ناموا بسلام لأنكم ما كنتم تنشدون إلا السلام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى