السبت ٢٦ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم بوشعيب الساوري

صورة التحول وأزمة المعنى في رواية «لولو»

«لولو» [1] هي الرواية الأولى في المسيرة الإبداعية للكاتبة السورية عبير اسبر وتلتها رواية منازل الغياب الصادرة سنة 2008، وبعدهما رواية قصقص ورق (رياض الريس 2009).

ويمكن أن نعتبرها رواية الشخصية؛ إذ أولت أهمية لا تضاهى للشخصية الروائية، من خلال شخصية خالد وتحولاتها النفسية والجسدية وأثرها في حبكة الرواية.

وقد أحسنت الكاتبة الاختيار حين جعلت الشخصية الأساسية التي تجري عليها التحولات مراهقة في السابعة عشر من عمرها مطلة على الحياة. ونحن نعلم أن هذه الفترة العمرية هي فترة التمرد على الذات والمحيط، نظرا لما تعرفه من تحولات كبرى على المستوى الجسدي والنفسي للإنسان؛ إذ تشهد تغيرا ملحوظا في ميولاته واختياراته وقناعاته ورؤيته لذاته وللعالم، قبل تكوين شخصيته، كل ذلك ساهم في تشكيل الصورة الكبرى المهيمنة على الرواية وهي صورة التحول كما تتمثلها الشخصية الروائية، وكما يبنيها السرد.
وتبعا لذلك، كان التحول عنصرا بانيا للشخصية الروائية؛ إذ ترصد الرواية تحول خالد من ذات مطمئنة إلى حالها ومتساكنة مع محيطها إلى ذات راغبة في التحول ومتمادية فيه، بفعل متغيرات جديدة عرفها محيطه. إذ تحول من حياة غارقة في البساطة داخل ريف سوري، إلى صخب حياة صنعها غرباء وافدون (أو مجانين كما تسميهم الرواية) لتصوير فيلم حول فلسطين ما قبل هزيمة 1948. وتحول من الطفولة بهدوئها إلى المراهقة بتقلباتها. من وضعية رتيبة إلى وضعية غير عادية في تطورها وتحولها، لأنها منافية لكل ما كان سائدا لدى الشخصية ولدى تصوراتها وكذا لمن يحيط بها، خصوصاً الوالدين والحبيبة الأولى وردة. ليجد نفسه ضحية لهذا التحول الذي تمادى فيه وتحمس له باندفاع المراهق. فيعيش القلق والتمرد على ذاته وعلى محيطه.

التحمس للتحول أو الوعي الساذج

بعد حضور جماعة المجانين والتحاق خالد بهم، سيلحظ أنه أصبح عرضة لتحولات تطال شخصيته؛ لعل أولها عدم الاستقرار في حياته؛ إذ أخذ يبتعد عن عاداته ومهماته اليومية المألوفة واضطلع بأدوار جديدة، وانتقل من العيش وسط الأهل إلى السكن بالفندق، وتغيرت سلوكاته وتصرفاته وتعامله مع الناس، كما طال التحول أيضا لغته ومشاغله.

في البداية يتحمس خالد، باندفاع المراهق وخياله الحالم والمتمرد، للتغيير ويخوض تجربة البحث عن التحول، ويروم البحث عن سبل لتحققه. تغير جعله يتحمل الآخرين: "أعجبته ريم لأنه تغير. احتمل وجود الأستاذ شحود لأنه تغير. أحب حديث كمال وقلة أدبه ولسانه اللاذع لأنه تغير. أصبح تصرف والدته وحواديتها عن الجن والملائكة وكل طبائعها الغريبة، مثار إعجابه لأنه تغير."( ص.41.) لكنه يفشل في بلوغ التحول كما كان يتمثله، وإن كان تحولا، كما ترصد الكاتبة ذلك. وإذا كان خالد قد عاش تجربة مثل هذا التحول الذي لم يؤد به إلى وضع جديد أحسن من وضعها الأول. لكنه فيما بعد يصطدم بمجموعة من الحقائق.
الغير هو من يمارس التغيير على خالد. وبشكل خاص بفعل تأثير جماعة المجانين. فهناك شخصيات تزج بالبطل إلى التحول باتجاه ذات أخرى، شخصيات تقتحم على البطل بساطته ويهزه ويزعزع ذاته ويدخله عالما مليئا بالتوترات النفسية الحادة. تقول الرواية مشخصة هذا التحول: "قبل وصول جماعة المجانين إلى الحصن، لم يكن لخالد أية علاقة بريئة أو غير بريئة بالمرايا وانعكاساتها أو ألوان الشعر وحجوم الشفاه، لكن فجأة اقتحمت مفردات غريبة لغته."(ص.9.) وهو تحول استشعره والداه. تقول: "لقد جنّدوه وضمّوه إلى صفوفهم، بحسب الأب، وطيروا له عقله بحسب الأم."(ص.14.)

ويمكننا أن نرصد هذه التحولات كما يلي:
 التحول في المهمة من فلاح عاطل إلى مرشد ومرافق لمهندسي الديكور للجماعة التي جاءت لتصوير الفيلم،
 الانتقال من السكن مع أهله إلى الإقامة مع جماعة المجانين في الفندق،
 التحول في الاسم من خالد إلى لولو،
 الإقدام على قص شعره،
 ارتداء الشورط مثل جماعة المجانين،
 لم تعد زجاجة البيرة تفارق فمه،
 تحول على مستوى اللغة، وترديده مجموعة من الكلمات المهنية الخاصة بالسينما.

نلاحظ أن كل هذه التحولات شكلية وخارجية؛ فلم ينفذ التحول بعد إلى نفسيته. وسيتحقق ذلك من خلال حواراته مع ريم التي زعزعت قناعاته، ودفعته إلى إعادة اكتشاف ذاته، واكتشاف تقصيره واكتشاف جهله، بعد أن وجد نفسه بدون شهادة (راسب باكالوريا)، بدون موهبة، وغير متابع للحركة الثقافية ولا حلم له. ليصير التحول لعنة تصيبه ويكتوي بنارها.

لعنة التحول أو أزمة الوعي

يتم تلخيصه في الرواية كما يلي: "كان خالد راسب الباكلوريا المغرم بوردة صاحب المتطلبات الممكنة من صيد وسهر وحصاد لمواسم وفيرة.[...] نعم أصبح لولو... راسب الباكالوريا المحب لريم والهاجر لوردة والمتفرج على الحياة."( ص. 50-51.)
ويمكن أن نقول عنه بأنه تحول عاطفي سيؤدي به إلى التعلق بريم المتلاعبة بالرجال كما سيعرف خالد ذلك لاحقا، والوقوع في حبها، والاشمئزاز من حبيبته الأولى وردة. سيدفعه ذلك إلى الخضوع لتوجيهات ريم. فتدفعه أولا إلى القراءة. وثانيا إلى التفكير في ذاته من خلال العبارة السقراطية "اعرف نفسك." ليكتشف عجزه عن فهمها فيعي جهله. كما ستدفعه ثالثا إلى الكتابة فيعجز أيضا. وتدعوه أخيرا إلى أفكار ومواقف أكبر من سنه ومن موقعه ووضعه مثل فكرة قتل الأب. وستزداد صدماته النفسية حين يعلم أنها لا يمكن أن تحبه، خصوصا وأنها تفضل الصداقة على الزواج، فيحس بالفشل في صداقتها. وسيكتشف من خلال اقترابه من كمال الذي نصحه بأن يضع هدفا نصب عينه، فيجد نفسه بدون حلم. وسيتوصل أيضاً من خلال حواراته مع الأستاذ شحود أنه غير متابع لما يجري في العالم.

سيدرك جهله وخيبته أمام الثلاثة الذين يدفعونه إلى التحول: "تذكر ليل خيبته ودموعه المنهمرة بعد محاضرة الأستاذ شحود الممتدة لساعات، وأوراق ريم المشفرة، والآن كتاب كمال."(ص.40.) يحس نفسه مرفوضا كما هو من قِبل شحود وريم وكمال. بعد أن تأكد أن نكاته لم تضحك ريم، ولم يحب كمال أفكاره، ولم يحترمه الأستاذ شحود لما هو عليه حقيقة.(ص.40.) ليعتقد أنهم يكرهونه، خصوصاً الأستاذ شحود وريم وكمال لأنهم يدفعونه إلى التغيير الجذري الداخلي العميق المؤسس؛ أي التغيير الفكري عبر القراءة والمعرفة حتى يتمكن من الاستقلال بذاته وبشخصيته.

ومما زاد حاله سوءا غرابة مواقف وسلوكات جماعة المجانين التي أربكت حساباته وزعزعت قناعاته؛ مثل تفضيل ريم للصداقة على الزواج لأنه عائق أمام حريتها. فيعيش الألم والفراق والحب ومحاكمة الذات والإحساس بالعجز وقلة الحيلة.(ص.34.) سيبدو ذلك على جسمه الذي أصابه النحول.

جعله تغيره يعيش قلقا وتوترا ويضيع كثيرا مما كان له؛ أضاع فرحه وأضاع روحه المرحة وأضاع بساطته وفقد سعادته، خصوصا بعد اكتشافه أنه كان يريد التحول ليس وفق إرادته وإنما انسياقا وراء إرادة الآخرين وتحت سلطتهم.

وهو ما سيدفعه إلى الامتناع عن توديع جماعة المجانين، ورافض تكرار تجربة الاشتغال مع جماعة أخرى جاءت لتصوير مسلسل تلفزيوني، كما لم يتحمس للاشتغال مع البوب الذي جاء لتصوير فيلم فأحس بملله.

صعبت على خالد العودة إلى اهتماماته الأولى وحياته الأولى ما قبل مجيء جماعة المجانين بالاشتغال بالأرض وفق طلب والده، وبعد مفاوضات ومشاورات وقع خلالها تحت تأثير نبوءة الغجرية فوز التي رأت أنه "سيمتهن الحكي، سيتزوج من دون حب، سيسافر ويدور ويدور."(ص.79.) ليخضع لقرار والده بالرحيل عن الريف إلى دمشق من أجل إعادة الباكالوريا هو تحت إلحاح أخته حسنة فيغير المكان.

السرد وتشخيص التحول

اضطلع الشكل الروائي بتشخيص صورة التحول مبرزا التشتت النفسي الذي عاشته شخصية خالد عبر نثر الأحداث وتشتيتها إلى درجة يصعب معها على القارئ المتسرع القبض على خيوط الحكاية.

على المستوى التقني استعملت الرواية تقنية المونولوج الذي يبرز اشتداد توتر شخصية البطل خالد من جراء ما اعتراها من تحولات متسارعة بالإضافة إلى تقنية المشاهد الحوارية التي تبرز كيف تدفع الشخصيات الأخرى خالد للتحول وكيف يحاول فهمه مما يسمح بظهور كثير من التفاصيل الصغيرة المحيطة بشواغل البطل الوجدانية التي تمنح السرد دهشته ومفاجآته تمشيا مع التحولات المتسارعة التي تطال خالد.

خلقت الرواية حوارا ومماثلة مع عدة أشكال سردية كالمثل والحكاية؛ كما هي الحال في حكاية علي بابا والأربعين حرامي وحصول على بابا على الكنز بضربة حظ، مثلما دخلت ريم حياة خالد بضربة حظ وقلبتها رأسا على عقب وأدخلته في تحولات متسارعة.
كما عارضت الرواية ألف ليلة وليلة إذ نجد آثارا لشهرزاد في شخصية ريم من خلال قدرتها العجيبة على استمالة خالد والتلاعب بمشاعره ولتجعله يتحول من موقف إلى آخر.

وأيضا تحاور الرواية المثل من خلال محاولة الغراب تعلم مشية طير آخر فنسي مشيته وفقد وقاره. لتبرز أزمة تحول خالد وصعوبة تماديه في التغير وعجزه عن العودة إلى حاله ما قبل مجيء المجانين. التحول الذي قاده إلى حب ريم، ففقد وجود مرافق في حياته وفقد أمه وإخوته وأصدقاءه القدامى وحبيبته وردة التي تزوجت انتقاما من تحوله.

هكذا استطاعت عبير إسبر تشخيص صورة التحول الذي طال شخصية خالد المراهق على جميع الأصعدة، الاسم والجسد والسلوكات والشكل والنفس والانشغالات، وانعكاسات ذلك التحول على نفسيته وكيف تحمس له في البداية ثم اكتوى بناره في النهاية، بأسلوب سردي رشيق أساسه المونولوج والمشاهد الحوارية، كما خلق حوارا مع نصوص سردية تراثية.


[1عبير اسبر، لولو، دار التكوين، دمشق،الطبعة الثانية، 2009، وسبق أن طبعت سنة 2003 وحصلت على جائزة حنا مينة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى