السبت ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٢

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

مصعب قاسم عزاوي

في العام 1902 نشر الرحالة ك كتاباً بعنوان طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، قارب فيه أس معاناة الناطقين بلسان الضاد في وقته ذاك، مشخصاً إياه بمعاناتهم من مفاعيل الاستبداد والطغاة وتغولهم على كل مفاصل حيوات البشر وأحلامهم وقدراتهم على الإنتاج والعطاء.

واليوم وبعد مرور قرن وعقدين كاملين من الزمان على منشور الرحالة ك، والذي كان الاسم الحركي لشيخ المنورين العرب عبد الرحمن الكواكبي، فإن كل ما طرحه من رؤى وتحليلات ثاقبة وحاذقة صائبة في آن معاً لا تزال صالحة كأدوات لتحليل جوهر أسباب ومعاناة أحفاد الذين كان يعيش في ظهرانيهم، كما لو أن الزمن تقدم، والبشر ارتحلوا وحل محلهم أسلافهم من بعدهم، ودون أن تتغير قيد أنملة أسباب معاناتهم وضناهم وضيق حالهم وانغلاق الآفاق المستقبلية في منظارهم اليومي الكالح المحسور.

والحقيقة أن تغاير أنماط وأنهاج المستبدين بحيوات وقوت وحريات وأحلام وأفواه الناطقين بلسان الضاد، والذي كان في عصر عبد الرحمن الكواكبي ممثلاً باستبداد وطغيان السلطنة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني على كل تفاصيل حيوات رعاياها تحت راية «التنظيمات الجديدة»، والتي كانت في ظاهرها تهدف إلى تطوير نظام الحكم في السلطنة العثمانية، بينما كانت في جوهرها محاولة لحلحلة مشكلة تقهقر السلطنة العثمانية بتعزيز قهر واستلاب رعاياها في الولايات والسناجق العثمانية الطرفية من أجل زيادة واردات السلطنة من ضرائب وجزية وخراج من أجل صرفها نظرياً لتحديث هيكل الدولة الإداري، والأهم من ذلك العسكري، من أجل مجاراة التقدم التقاني الحربي الذي تميزت به الإمبراطوريات المهيمنة آنذاك وخاصة البريطانية والفرنسية والروسية والهنغارية والألمانية، والتي كانت تنظر جميعها إلى السلطنة العثمانية بكونها إمبراطورية «الرجل الأوربي المريض». وهو واقع الاستبداد الذي عاصره الكواكبي مشخصاً بتحويل البشر إلى مسترقين وعبيد وأقنان لا حول لهم ولا قوة في مواجهة عسف آلة السلطة وجلاوزتها ومحتسبيها وبصاصيها ومرتزقتها وحديدها ونارها وأدوات تعذيبها، وعلى رأسها الخازوق الذي كان العلامة الفارقة لإبداعات الجلادين العثمانيين وعملائهم في كل المجتمعات التي تغولوا عليها، ليتحول «الخازوق» رمزاً للترهيب الذي لا يبارح مخيلة كل مقهور مستغل من رعايا الدولة التي لم تكن تمثل له سوى أداة لسرقة الرهط الأكبر من الدخل المحدود لمجتمعات زراعية متهالكة كانت تعمل بتقنيات زراعية قروسطية لم تتطور على امتداد قرون طويلة.

وهو واقع المعاناة والقهر والاستلاب في مناخ من الاستبداد والطغيان الشامل عمقاً وسطحاً في عهد السلطنة العثمانية وفاسديها ومفسديها الذي لم يتغير بعدما «ابتلع» الزعيم الظني للأعراب إبان الحرب العالمية الأولى، وأعني هنا الشريف حسين «السم المدسوس في دسم وألاعيب» البريطانيين عليه، كما وثقتها مراسلات الشريف حسين مع هنري مكماهون المفوض البريطاني الأعلى في مصر آنذاك، والتي وعد بها البريطانيون الأعراب إن تحالفوا معهم وثاروا على السلطنة العثمانية، بالسماح بإقامة دولة أو مملكة عربية شاملة تشمل كل الولايات الناطقة بلسان الضاد، والتي كانت تحت الحكم العثماني آنذاك؛ وهو الوعد الذي نكث به البريطانيون بشكل كلياني، وقاموا بدلاً عنه باستعمار كل الولايات الناطقة بلسان الضاد بعد خسارة السلطنة العثمانية للحرب العالمية الأولى، تحت راية خلبية كان عنوانها العريض «الانتداب»، والذي كان يعني من الناحية النظرية حسب ترتيبات عصبة الأمم آنذاك مرحلة مؤقتة لأجل مساعدة تلك المجتمعات للسير في سلم المدنية والتحضر من أجل تمكنها لاحقاً من حكم نفسها، وهو ما كان «رياءً إمبريالياً مصفىً»، تمحورت أهدافه الخبيثة حول عملية تحويل كل الولايات العربية المستعمرة إلى مصدر شبه مجاني للمواد الأولية التي تحتاجها معامل الرأسمالية الإمبريالية في بريطانيا وفرنسا، ومصدراً لقوة العمل شبه المجانية للعمل في حقول إنتاجية لصالح المستعمرين، وسوقاً مفتوحة على أعنتها لتصريف نتاج المستعمرين الصناعي، في نهج أدى إلى تقهقر كل الصناعات المحلية في المجتمعات المستعمرة لعدم قدرتها على منافسة نتاج المستعمرين الذي لا بد من استهلاكه بقوة الحديد والنار، ومثالها الأنصع كان تراجع صناعة حلج الأقطان في بلاد الشام ووادي الرافدين، مما أرغم المجتمعات العربية المستعمرة إلى النكوص إلى نمط اقتصادي زراعي قروسطي، والعدول عن أي طموحات لتأسيس بنية تحتية وإنتاجية مرتكزة على قدرات تصنيعية حقيقية يمكن أن تمهد الطريق إلى نهوض اقتصادي محتمل لتلك المجتمعات بالشكل الذي نهضت فيه مجتمعات مستعمريهم في القرن الثامن عشر.

وفي ظل الاستعمار الاستيطاني الإمبريالي للمجتمعات العربية لم يتغير واقع الاستبداد الذي كان يعانيه الإنسان المقهور في حياته اليومية وقوته وأحلامه وصحته ومستقبل ذريته عما كان عليه إبان حكم المستبدين العثمانيين الذين عاصرهم وكتب عنهم عبد الرحمن الكواكبي، وإنما تصاعد في حدته وعمق مفاعيله، مع ظهور عنصر إضافي مرعب جديد تمثل في الحدود المصطنعة بين المجتمعات العربية التي تكونت تاريخياً كمجتمعات حية على امتداد عشرات القرون، وكانت مفتوحة على بعضها دون قيود أو حواجز إبان الحكم العثماني، إذ لم يكن هناك أي عائق للانتقال والتبادل التجاري والحضري والفكري بين أي من ولايات وسناجق السلطنة العثمانية، وكان مثالها الطبيعي عبور البضائع والتجارة والبشر وارتحالهم بما يتسق مع احتياجاتهم من الحجاز في شبه الجزيرة العربية إلى وادي الرافدين ومنه إلى بلاد الشام ومنها إلى وادي النيل والمغرب العربي دون أي عوائق تذكر بدءاً من مكة أم القرى مروراً ببغداد والموصل وحلب ودمشق والقدس والقاهرة وصولاً إلى القيروان وطرابلس الغرب وحتى الجزائر بشكل لا يحتاج عبور حدود وتأشيرات دخول وجوازات سفر، والتي كانت اختراعاً أوربياً بامتياز ومستحدثاً وهجيناً على كل المجتمعات العربية.

وقد تكون السمة الأكثر وضوحاً من الناحية التاريخية لعلاقة المستعمرين البريطانيين والفرنسيين بالمجتمعات التي تغولوا عليها تمثلت في حالة الإهمال المنقطع النظير، والتخليف العامد المتعمد، والإجهاض لكل إمكانيات التحضر والتطور الإنتاجي والإداري والتصنيعي، بالإضافة إلى التقسيم الاعتباطي للمجتمعات إلى مناطق نفوذ بين المستعمرين، تحولت لاحقاً إلى دول خلبية كما هو حال الدول العربية الراهنة، وبعض منها تم تخليقه من الفراغ فعلاً بمباضع البريطانيين و الفرنسيين لرشوة العرب الذين احتالوا عليهم لإيهامهم بحصولهم على «شيء ما» مقابل «إذعانهم» لاحتيال «السادة البيض» عليهم، كما كان في حالة إمارة شرق الأردن لترضية الشريف حسين وذريته بعد أن تم ذبه إلى «مزبلة السياسة» آنذاك، وتركه للذواء والاندثار بقوة احتراب الأشقاء المتآمرين على بعضهم البعض بتمويل وتسليح من المستعمرين البريطانيين أنفسهم، مشخصة بصعود آل سعود والوهابيين على حساب أولياء الشريف حسين في شبه الجزيرة العربية كما توضح الوثائق البريطانية التاريخية التي حققها وأصدرها الباحث البريطاني مارك كورتيس.

ونتيجة للتخليف والتجهيل والإهمال المتعمد لكل المجتمعات العربية خلال فترة الاستعمار الاستيطاني لها من قبل المستعمرين البريطانيين والفرنسيين أساساً، والإسبان والبرتغاليين بدرجة أقل في المغرب العربي، لم يكن هناك في حقبة ما بعد استقلال أي من المجتمعات العربية عن مستعمريها وتحولها إلى دول خلبية تمتد حدودها على قياس وأهواء ومصالح المستعمرين من قبل، سوى المؤسسة الأمنية والعسكرية، والتي كانت تعمل خلال فترة الحكم الاستعماري كهراوة وأداة قمعية في يد المستعمرين لتوطيد سلطتهم وضمان حصولهم على الحصة الأكبر من الناتج الاقتصادي لتلك المجتمعات، عبر تخويل تلك المؤسسة العسكرية الأمنية أيضاً بواجب التحقق من كم وكيف جباية واردات الدولة، بغض النظر عن فسادها وإفسادها المقبولين من قبل المفوضين السامين ما دامت تلك المؤسسة تقوم بواجبها في جباية حصة الأسد من ناتج تلك المجتمعات الاقتصادي، وتحويله إلى خزائن المستعمرين لينزحوه من خلال سفنهم إلى عواصمهم الكبرى في باريس ولندن وغيرها من مدن المستعمرين.
وذلك الخواء المجتمعي في حقبة الاستعمار من أي خبرات إدارية ومؤسسات قادرة على القيام بواجب إدارة الدول الخلبية المختلقة في مرحلة ما بعد استقلال المجتمعات العربية، والتي تم تفصيلها دولاً لا بد لها من العمل على شاكلة دول المستعمرين ببرلمانات ووزارات وإدارات محلية لا تتوافر أي خبرات فعلية لتحققها بأي شكل ناضج و مثمر جمعياً جراء التصحير والإهمال «مع سبق الإصرار والترصد» من قبل المستعمرين كما آشرنا أنفاً، أفضى إلى أن الجهة الوحيدة القادرة على التنطع بمهمات إدارة مؤسسات الدولة الحديثة، كانت المؤسسة الأمنية العسكرية لكونها المؤسسة الوحيدة التي كان لها شكل وتنظيم وتأهيل محدود يمكن لعديده «المجادلة» بقدرتهم على تلبية متطلبات «المهمات البيروقراطية» لإدارة الدول العربية المستحدثة والوليدة قيصرياً، وهو ما كان السبب في أن جل حكام وحكومات الدول العربية الناشئة كانوا من المؤسسة العسكرية الأمنية، وهو ما ترتب عنه إجهاض أي إمكانية لنهوض مدني طبيعي في الدول العربية الخديجة، نظراً «للجهل البنيوي العميق» المتأصل في نهج تأهيل «الكوادر العسكرية الأمنية» في تلك الحقبة و حتى اللحظة الراهنة، والذي لا يفقه من وسائل الإدارة سوى «إصدار الأوامر التي لا بد أن تلبى دون نقاش أو حوار في فحواها»، وأن الوسيلة الوحيدة للتعامل مع أي ما قد يرى فيه العسكري نشوزاً من مرؤوسيه هو «الويل والثبور»، والذي لا بد أن يرقى إلى «الإعدام الميداني» لكل من قد تسول له نفسه عدم الانصياع المطلق لإرادات وأوامر رؤسائه، وهو ما تحول لاحقاً إلى مبدأ ناظم لعمل الدول الأمنية العسكرية العربية، التي حولت «الإعدام الميداني» ليصبح إعداماً جمعياً بطيئاً و سرمدياً بأدوات القمع الأمنية التي بز الطغاة العرب كل جلاوزة التاريخ في تفتقاتهم البربرية في استنباطاتها الخارقة الماحقة لفنون مستحدثة في تعذيب الإنسان وتهشيم كينونته البشرية جسدياً و عقلياً و حتى روحياً «لتأديبه وتهذيبه» على محبة المستبدين بأمر وحيوات شعوبهم، والذين اتخذ كل منهم ألقاباً رنانة طنانة بزت ألقاب المستبدين السالفين من سلاطين عثمانيين، ومفوضين إمبرياليين سامين، وبتلاوين فنتازية على مقام «القائد الرمز»، و«القائد المفدى»، و«الزعيم الريس» و«خادم الأمة»، و«المعلم الأول»، و«العالم الأول»، و«قائدنا إلى الأبد»، و«رمز الأمة» وحتى «أبو الكل» في استعارة جاهلة للطغم الأمنية الأمية من مصطلح «الأخ الأكبر» في رواية جورج أرويل 1984.

ونظراً للبنية غير المدنية والقاصرة للمؤسسات العسكرية الأمنية التي أسس لها المستعمرون في سياق تخليقهم للجيوش والمؤسسات العسكرية الأمنية والقمعية العربية إبان مرحلة استعمارهم الاستيطاني للمجتمعات العربية، والتي كان يخالطها دائماً غض نظر عن فسادها وإفسادها المجتمعي إبان الحقبة الاستعمارية مقابل قيامها بواجبها الأسمى في ضبط المجتمعات المستعمرة، وشفط مواردها، وجباية خراجها، مما أفسح الفرصة لنموذج جديد من العلاقة مع المستعمرين عقب رحيلهم في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، جراء تهالك اقتصادات الدول الاستعمارية الآفلة، وخاصة بريطانيا وفرنسا، وحلول الولايات المتحدة كقوة صاعدة، كانت تعمل بكل طاقتها للحلول في موضع تلك القوتين المتقهقرتين، أو تقاسم الأدوار معها، وتمثلت تلك العلاقة باستخدام حاجة المؤسسات القمعية العسكرية الأمنية التي أمسكت بزمام الأمور وتولت مقاليد الحكم في الدول العربية بعيد استقلالها لاستيراد أدواتها القمعية وحديدها ونارها وأسلحتها التي دونها قد يستحيل عليها استدامة هيمنتها على شعوبها، وهو ما أفصح عن نفسه بعلاقة تعايشية جديدة بين الاستعمار القديم الآفل ممثلاً بالقوى الاستعمارية الإمبريالية البريطانية والفرنسية وحتى الإسبانية وصولاً إلى القوى الإمبريالية الصاعدة وخاصة الولايات المتحدة، وبدرجة أقل الاتحاد السوفييتي، والذي كان سلوكه مع دول العالم العربي إمبريالياً بامتياز، وإن كان منمقاً بلبوسات بلاغية لغوية ثوروية وشعبوية لا علاقة لها بالفكر الاشتراكي الذي زعمت قياداته حمله سوى ادعائها بذلك. وكان قوام تلك العلاقة التعايشية يتمثل في تسليح وتدريب الجيوش العربية من قبل القوى الإمبريالية العالمية وتقديم تنازلات لنخب تلك الجيوش هنا وهناك بشطط لفظي أو فعلي يرونه استقلالاً لا قيمة له فعلية في المحصلة الاستراتيجية النهائية، إلى حين تمكن صناع القرار في عواصم المستعمرين السالفين من خلال تمويلهم وألاعيبهم الاستخباراتية وغيرها من تصعيد أي من عملائهم السابقين، أو أي من التقطوا فيه «الانتهازية» الكافية للعمل وفق معادلة جديدة قوامها العمل كوكيل وناطور لمصالح القوة أو القوى الإمبريالية التي تسلحه، وتضمن له الدعم الاستخباراتي لضمان عدم تمكن أي من منافسيه أو حتى شعبه من الانقلاب عليه، وبحيث يتم تصعيد ذاك الناطور «المنتخب المصطفى» إلى مرتبة الرياسة والقيادة، والذي سوف يتم الاستمرار بدعمه وعضده إلى الدرجة القصوى إلى حين انتهاء صلاحيته عندما يخفق بالقيام بدوره على أكمل وجه، والمشخص بحماية ورعاية مصالح مموليه وأولياء نعمته ومصدر حديده وناره وقوته القمعية وتمكينهم من الاستحصال شبه المجاني على الموارد الأولية في المجتمع الذي يتغول عليه، و تحويل أبناء شعبه إلى أقنان يعملون لخدمة إنتاج المواد الأولية التي تحتاجها معامل ومصانع أسياده وأولياء أمره، و فتح أسواق بلده على مصارعيها لتصريف نتاج تلك المعامل فيها دون رقيب أو حسيب على نوعيتها أو حاجة البشر الحقيقية لها. وعندما يخفق ذاك «الناطور» بالقيام بواجبه بالشكل الأمثل تنتهي صلاحيته، ويتم إعلان أسياده «الإمبرياليين القدماء الجدد» بوجوب تغيير نظامه، والذي لا بد أن يتم «بانتخاب» انتهازي جديد من عمق المؤسسة الأمنية العسكرية الأمنية المافيوية ليحل محله، وهو الحال الذي لا يغيب عن أي ناظر لحال كل الدول العربية في مرحلة ما بعد تهشيم العراق في العام 2003، والتآمر البربري على الربيع العربي الموءود في غير موضع من خارطة العالم العربي المتقرح المحسور.

وفي الحقيقة فإن مفاعيل الاستبداد الشامل عمقاً وسطحاً والمتغول على كل تفاصيل المجتمعات العربية يمثل العقبة الكأداء والغمامة الكالحة التي تبز كل الإشكاليات الوجودية الأخرى التي تهدد المجتمعات العربية، أو حتى البشرية بكليتها، وعلى رأسها قد يكون كارثة تسخن كوكب الأرض التي قد تحيله إلى كوكب بور خلال بضعة عقود فحسب؛ إذ أن وبال الاستبداد وفساد وإفساد وشبكات عمل طغاته وجلاديه ومرتزقتهم يتفرع منها ويرتبط بها ارتباط عضوياً كل مشاكل المجتمعات العربية المحسورة؛ فلا يمكن مقاربة معضلات الفقر، والتهميش، والأمية، والهشاشة الاقتصادية، وضعف التنمية، وقصور التعليم العالي، والفساد البيروقراطي، وتهالك الأجهزة القضائية، وتآكل مؤسسات المجتمع المدني، والتمييز تجاه الفئات المستضعفة من نساء وأطفال وشيوخ ومعاقين، وتدمير النظم البيئية، ومظاهر التلوث البيئي، والنظم القانونية البائدة، وإحساس المواطن الاعتيادي بانغلاق الآفاق، وانعدام الأمل بأي مستقبل أفضل، وكارثة هجرة الأدمغة والخبرات الوطنية، ومسألة تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج، ومسألة العدالة الضريبية، وتوطيد عقد اجتماعي مشخصاً بدستور يتوافق عليه جميع المتشاركين في حياض المجتمع المكانية والزمانية؛ و هو ما يعزز من الإلحاحية الضاغطة لواجب مقاربة أس تلك المعضلات وجوهرها المحرك لفعلها في المجتمع مشخصاً بكارثة الاستبداد التي قام بتوصيفها وتشريح مفاعيلها المجتهد عبد الرحمن الكواكبي منذ قرن وعقدين من الزمان، دون أن تفضي هذه السنون الطويلة إلى إمحاء راهنية ومحورية طروحات الكواكبي، ليس لقدراتها الثاقبة في تعرية الاستبداد وحسب، وإنما لأن واقع الاستبداد الذي رأى الكواكبي تغوله على مجتمعات الناطقين بلسان الضاد في عصره، لم يتغير إلا قليلاً على امتداد العقود العجاف المعاصرة من عمر المجتمعات العربية، والتي لا زالت تكابد استبداداً بنموذج قروسطي متخلف بدائي همجي لا يختلف عن وحشية جمال باشا السفاح الذي لا بد أنه كان حاضراً في مخيلة الكواكبي ابن بلاد الشام البار، وهو يُشَرِّحُ الاستبداد والمستبدين وآليات عملهم الداخلية الناظمة لوجودهم الاجتماعي المرضي، فكل المستبدين العرب الراهنين والمعاصرين نموذج مسخ منمق مزوق عن شخصية جمال باشا السفاح الذي بزه كل طغاة العرب المعاصرين في تفتقاتهم البربرية الوحشية لإخفاء وتغييب أضعاف مضاعفة عن ضحايا السفاح العثماني من أبناء المجتمعات التي كان الأخير يتغول عليها في عهد الكواكبي، وأصبحت محكومة من حفنة من الممسوسين برهابهم من انقلاب شعوبهم عليهم، وإحساسهم الفرويدي بتعلق لا يمكن الفكاك منه بارتباطهم العضوي بأسيادهم وأولياء أمرهم من المستعمرين القدماء للمجتمعات العربية، والذين دون صبيب حديدهم ونارهم وأسلحتهم وعتادهم القمعي ودعمهم الاستخباراتي اللامحدود، فإن مصير الطغاة العرب جميعهم كان لا بد أن يكون كمصير المعتوه القذافي أو زين العابدين بن علي المنافق الرعديد، أو حسني مبارك التيس المستعار، حين انتهاء صلاحيتهم واضطرار أسيادهم من المستعمرين القدماء للتخلي عنهم، واستبدالهم ببديل عنهم من نفس طينتهم، ومن نفس الفئة الفاسدة المفسدة الاستبدادية التي خرج منها الطاغية المنتهي الصلاحية، وليتم إعادة إنتاجه بصورة وشخصية جديدة تضمن استدامة قيامه بواجب الفساد والإفساد في مجتمعه، والسهر ناطوراً طيعاً مطيعاً لأوامر أسياده وأولياء نعمته وأصحاب الحل والعقد في ديمومته في العمل في ذاك المنصب الاستبدادي الرفيع.

وقد يكون من الصعب المجادلة بأي نهج صادق صدوق بأن هناك أي مهمة وجودية يمكن أن تقع على خارطة طريق انتشال المجتمعات العربية من واقعها المرضي المؤوف الذي حولها إلى حطام وهشيم اجتماعي يضم طوفاناً من المعذبين المفقرين المهمشين المستعبدين، أسمى و أكثر إلحاحية من مهمة وواجب منافحة الاستبداد والمستبدين بكل ما أوتي المرء به من قوة وعزم حتى لو كان ذلك بمقاومة الانغماس في لج الارتزاق من آلة الاستبداد، وتبرير فساد الذات بأنه حينما يعم الجنون والخَبَثُ فإن الخيار الأوحد هو أن تصبح مجنوناً وفاسداً، كما هم الآخرون، فليس هناك سوى الأنبياء المطهرون القادرون على حمل وزر صالح في قوم ثمود، في نهج أشمل للحفاظ على العقل من التنكس إلى أداة بيولوجية لا تعرف من قدراتها وطاقاتها سوى أهداف الأكل والشراب والتكاثر والمتع الحسية السطحية، و قد يستقيم القول بأنه لا خير في ميدان تشذيب وتهذيب قدرات العقل العاقل الفاعل غير المستقيل في حقل كشف وتعرية آليات عمل الاستبداد والمستبدين من درة عمل المجتهد وشيخ المنورين الناطقين بلسان الضاد الرحالة ك عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، والذي تفضل الزملاء المكرمون في فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن بإعادة تنفيذه بشكل معاصر، وتنقيحه بمراجعة عدة طبعات سالفة له في مطلع القرن العشرين، في محاولة تنويرية لافتة لإعادة تسليط الضوء على هذا العمل الفكري الاستثنائي في أهميته وإلحاحيته وجوهريته لكل عاقل متعقل يؤمن بأن الصبر والمصابرة هي طريق تحقيق التقدم، وأن المعرفة أول الأدوات التي لا بد أن يتحلى بها كل مجتهد يسعى لتحقيق أي تقدم في مستوى حياته اليومية يمكن أن يؤسس لحياة أفضل وأكثر عدالة وكرامة لذريته وأخلافه من بعده في قابل الأيام.

مصعب قاسم عزاوي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى