الثلاثاء ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم عبده وازن

«عزلة» النقد الأدبي

كلما شاركت في مؤتمر حول النقد الأدبي استيقنت أكثر فأكثر حال «العزلة» التي يعانيها هذا النقد في العالم العربي. لا أقصد فقط قلة الجمهور الذي يتابع مثل هذه المؤتمرات بل الطابع النخبوي الذي بات يسم الفعل النقدي نفسه، منذ أن تحول عملاً مختبرياً وفناً أو علماً مكتفياً بذاته، وكأنه لا يتوجه إلا الى شريحة ضئيلة من النقاد أنفسهم وطلابهم وبعض القراء المتخصصين.

هذا الانطباع راودني مرة أخرى خلال مشاركتي في ندوة «الخطاب النقدي العربي: الانجازات والأسئلة» التي عقدها قبل أيام «المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وشارك فيها خيرة من النقاد العرب، الأكاديميين و «المحترفين» لئلا أقول «العلميين». وكما في معظم الندوات النقدية كان الجمهور قليلاً، وساد الحوار المفتوح بين النقاد المشاركين أولاً، وبينهم وبين القلة التي حضرت، جو من الاضطراب أو الالتباس ربما، وبدا الجميع شبه غريب عن الجميع، وغدت الآراء والمصطلحات شبه غامضة وشبه متناقضة أحياناً، وكأن كل ناقد يملك رؤية خاصة الى المعايير، تختلف عن رؤية الناقد الآخر. وبدا الانسجام شبه غائب عن المواقف النقدية والأحكام والمقاربات كما لو أن العمل النقدي يبدد النقاد أكثر مما يجمعهم.

يمكن القول بسهولة ان النقد المحترف أو الأكاديمي في العالم العربي يعاني أزمة أو أزمات. لكن هذا القول يظل غير حقيقي ما لم يُرفق بما يثبت وجوه الأزمات وتجلياتها. فالحركة النقدية العربية تعرف أسماء مهمة فرضت نفسها أكاديمياً من خلال ما «أبدعت» من أعمال نقدية قيّمة، منهجاً واختياراً. إلا أن هذه الأسماء لم تستطع أن تكسر حال «العزلة» التي يعانيها النقد وأن تخرج من الجو الأكاديمي الى القراء الذين يكبون على الروايات والدواوين الشعرية وسواها. وحال «العزلة» هذه يشهدها النقد الأدبي في الغرب أيضاً خصوصاً بعدما أغرب هذا النقد في علميّته منغلقاً على نفسه، حتى أصبح يحتاج الى نقد آخر يسمى «نقد النقد» يشرحه ويضيء ألغازه ويقدمه الى قارئه الذي يوصف بالحصيف أصلاً. طبعاً لا يلقى اللوم على النقد العلمي هذا، فهو تطور بسرعة ولم يبق قادراً على انتظار قرائه الذين لم يتمكنوا من مرافقته، فسبقهم أشواطاً. هكذا كان لا بد لهذا النقد من أن يصبح عملاً نخبوياً بامتياز، وأن يتوجه الى نخبة النخبة، فضاقت دائرة التواصل وضاعت «لذة» النص و «التربية على الحماسة» كما يقول الشاعر لويس أراغون واصفاً مهمة النقد، وكذلك «جهد القلب» بحسب الروائي مارسيل بروست في كلامه عن النقد أيضاً.

أوغل النقد في المعميات، نظرياً وتطبيقياً وأضحى بعيداً من متناول القراء، على اختلافهم. وباتت قراءة المدارس النقدية الحديثة وما بعد الحديثة تحتاج الى تخصص أكاديمي. ولم يعد الناقد يهتم بقارئه كثيراً ولا بذائقته، وأسقط من حسابه الوظيفة «الإعلامية» التي يضطلع بها النقد، منصرفاً الى الوظيفة «التحليلية» المغرقة في متاهاتها. لم يعد الناقد يصف ويحكم ويضيء أسرار النص ويخاطب القارئ مباشرة، بل هو يكاد يكتفي بنفسه خارجاً عن أدبية النقد وعن طبيعته المزدوجة، نظراً الى انتماء مادته ووسائله الى الأدب نفسه. وكان لا بد للقرن العشرين الذي انصرم أخيراً أن يكون عصر «التغريب» النقدي، بل العصر الذي شهد فيه النقد أقصى ثوراته العلمية. ولا غرابة أن يتذمّر بعض الروائيين والشعراء، كباراً وعاديين، من الدراسات الحديثة التي تكتب عن أعمالهم، وأن يعلنوا أنهم يملّون قراءتها ولا يفهمون منها شيئاً.

إلا أن نقاداً كثيرين أدركوا الحال النخبوية التي تحاصر أعمالهم، فخرجوا الى الصحافة اليومية والاسبوعية ساعين الى المصالحة مع القارئ الذي كاد ينساهم. وراحوا يكتبون مقالات قصيرة، متكئين على ثقافتهم الشاملة والعميقة، ومستعيدين بعض ملامح النقد الانطباعي و «الحدسي» كي يخاطبوا القارئ مباشرة ويمهدوا له الطريق الى الكتب المهمة والجميلة، ملقين عليها ضوءاً ساطعاً. وبدت مقالات هؤلاء النقاد مختلفة تمام الاختلاف عن ابحاثهم الصعبة والمعقدة، إنها مقالات مكتوبة ببساطة وشفافية. هذا ما فعله تزفتان تودوروف وأمبرتو إيكو وجوليا كريستيفا وفيليب سولرز وسواهم. وهذا ما فعله عندنا نقاد كبار مثل جابر عصفور ومحمد برادة وفيصل دراج وعبدالله الغذامي وسعد البازعي وسواهم، فراحوا يكتبون المقالات في الصحافة بغية توسيع دائرتهم والانفتاح على القراء ومخاطبتهم مباشرة، مقترحين عليهم عناوين وأسماء ومقدّمين لهم أبرز النصوص الإبداعية. والعمل الصحافي لم يحل دون مواصلتهم النقد الاحترافي والأكاديمي، بل هو أعانهم على استمزاج أحوال القارئ اليومي وآرائه، وجعلهم على بيّنة مما يحصل في عالم النشر العربي. وقد اغتنت الصحافة الأدبية بهم وبمقارباتهم النقدية المهمة.

يسهل القول ان النقد العربي يعاني أزمة أو أزمات، وعلى مستويات مختلفة، لكن الكلام على هذه الأزمات لا يجد حلاً لها، ولا يخرج العمل النقدي من مأزقه. وقد يكون النقاد أنفسهم مسؤولين عن بعض وجوه هذا «المأزق»، ولكن رغماً عنهم. ناهيك بما يعاني النقد من ادعاءات و «أمراض» وأخطاء يكمن وراءها نقاد هم أشباه نقاد، نقاد مزيفون أو نقاد يتباهون فقط بحملهم شهادة الدكتوراه.

وإذا كان الأدب بعامة يعاني أزمة في العالم العربي فما تراها تكون حال النقد الأدبي؟

عن الحياة اللندنية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى