الخميس ١٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٢
بقلم علي بدوان

عندما أبقى «البريموس» مُشتعلاً لشرب فنجان القهوة العصملية

(مقطع من نصوص السيرة الذاتية)

أبقى "البريموس" مُشتعلاً لشرب فنجان القهوة العصملية، للعودة السريعة لمدينة حيفا. لكن شعلة البريموس إنطفأت، وجفت القهوة العصملية وبقي "تفلها".

رحل والدي عن دنيا الحياة، وهو يحلم بالعودة الى حيفا الميناء، حيفا الفينري، حيفا ساحة الجرينة، والحليصة، ساحة الخمرة، وحيفا شارع الناصرة، حي الألمانية، ودرج الأنبياء، وشارع الملوك، وشوارع الصنوبر والمتنبي والحريري وابن المقفع وابن سينا ويافا، وشارع ستانتون، ووادي النسناس، ومسجد الإستقلال، وقهوة العجمي أسفل بناء العجمي، وقهوة الراديو في الطابق الأرضي من بناء شبيب في شارع الملوك بحيفا، مقهى المتروبول، وقهوة (تيتي فورا)، والحمام الصغير لأصحابه عائلة كزبر وعائلة رنّو، وحمام الباشا ... ومدرسة السباعي، والمدرسة الإسلامية، وسوق الشوام، والسوق الأبيض، ومصنع الثلج في محطة الكرمل، والمقابر والنوادي والمرافق الحكومية والجمرك والأديرة والأراضي، مثل أرض البلان، أرض الرمل، الزحاليق، والأودية، كوادي السعادة ورُشميا والتينة والسياح، ووادي الصليب، والمحطة، والكنائس، ووادي الجمال، والحارة الشرقية، وكذلك الشواطئ، مثل شاطئ أبو نصور والعزيزية وغيرها من الأماكن. وسينما الأمين، ومنتزه "بستان الانشراح" حيث غنّت فيه ام كلثوم (وحازت على لقبها "كوكب الشرق" انطلاقاً من فلسطين)، وعرض يوسف وهبي وفرقته ابداعهم في التمثيل....

واستذكر هنا، لأقول، في حي (وادي الصليب) في مدينة حيفا، ابصرت شقيقتي الكبرى (أم ايمن)، وشقيقي الأكبر عبد الرحمن (الحج أبو السعيد) نور الحياة. بينما تفتحت عيناي شقيقي محمد على نور الشمس في بلدة (عنبتا) قضاء طولكرم، أثناء خروجنا عائلتنا القسري من حيفا. عائلة والدتي بقيت حتى الآن على أرض الوطن ومدينة حيفا، لكن تداعيات النكبة في حينها، والمآلات التي لاحقت من بقي من ابناء شعبنا في الداخل المحتل عام 1948، دفعت بالجزء الأكبر ممن تبقى في المدينة (ومنهم جدي وجدتي وكل عائلة والدتي) للإنتقال الى حي وادي النسناس.

فارق والدي أصدقاءه، والروح للروح تدري من يناغمها ...كالطير للطير في الإنشاد ميال... وكان منهم صديقه الذي أبقى "البريموس" مُشتعلاً لشرب فنجان القهوة العصملية. وصديق أخر أخذ مفاتيح بيته للعودة السريعة، وسيدة من جيراننا بمدينة حيفا كانت قد سلمت الكوشان لأختها في السيارة وهما في المنفى في لبنان، ظانة أنه، بعد اسبوعين، ستلتقيان في داريهما، فراح الكوشان وبقي المكان.

فارق والدي اصحابه، ورفاقه، وأصدقاء فتوته وشبابه من جيله، فتبعثر الجميع في تغريبة النكبة الكبرى، وضاع عن الأصدقاء الأوفياء، ومنهم زملاء العمل في سكة الحديد في حيفا، وطالما تذكَّرَ لفيف أًحبابه وأصدقائه أمامنا ونحن صغار السن أثناء تحلّقنا حوله وإصغائنا لمروياته الدامغة عن فلسطين، وقد احتفظت ذاكرتني بأسماء بعضاً منهم وفق ماكنت أسمعه من والدي رحمه الله : المرحوم المقدسي عبد الداروجي (من حي الطالبية في القدس الغربية التي تم احتلالها عام 1948) الذي لجأ الى مخيم قلنديا في البداية ومن ثم الى الزرقاء في الأردن. الأستاذ والمدرس في حيفا عبد الرحمن الخمرة. وسعيد الخمرة (أبو خضر). وسعد خماش النابلسي وصاحب محل الخياطة في حيفا والذي جاء بعد النكبة لدمشق وافتتح محلاً للخياطة في الحجاز خلف البريد المركزي. وعبد الجارحي الذي لجأ الى سوريا وأقام في حي الشاغور. والمرحوم نجيب المرعي من بلدة أم الفحم، هو من عائلة طميش محاجنة ومن متعهدي الأراضي الزراعية، والذي كان يستعين بوالدي لإصلاح الآلات الزراعية في مواسم الحصاد في أم الفحم واللجون ومنطقة المثلث في عارة وعرعرة ومصمص وسالم والخضيرة والعفولة، وقد بقي في فلسطين في مدينته أم الفحم. وأبو خليل نفاع صاحب مقهى في حيفا. وشعبان الأسود (الحجّار). وخالد شنكل الصفدي الأصل وصاحب محل الحلاقة في حارة الكنائس.

وحسين ونايف أبو العردات. وأبو شحادة ستيتية. وحسين عبود السكافي أبو محمد صاحب محل (درازة) وتصليح الأحذية في محل يقع في بناية العجمي. وأبو سميح مسعود من قرية (بُرقة) قضاء نابلس والذي كان يقيم في حيفا، وبالجوار من منزلنا، وقد رحل يوم النكبة الى قريته (بُرقة)، وبهجت البيلاني زوج عمتي (آمنة بدوان) اللبناني المُقيم في حيفا، والذي كان يمتلك محلاً في حيفا لصناعة الأحذية الجلدية الأصلية من الجلد الطبيعي، والذي خرج من فلسطين عام النكبة باتجاه مدينة صيدا حيث مدينته وعائلته الكبرى علماً أن جذوره تعود به الى قرية العديسة اللبنانية جنوب مدينة صور والملاصقة لفلسطين. والمرحوم أحمد طاهر أبو عبيد (أبو أسامة الياموني)، ورغم لقبه (الياموني) الذي اشتهر به نسبة لبلدة (اليامون) قضاء جنين، إلاّ أنه من بلدة (عرابة) قضاء جنين أيضاً القريبة من بلدة (اليامون) ... وكان المرحوم أبو أسامة الياموني الصديق المخلص لوالدي، وكما يقولون الصديق من "الروح للروح" وقد أهداه صورته عام 1933 وهو في ريعان الشباب، ومازلنا نحتفظ بها، حيث كتب لوالدي خلف الصورة البيتين التاليين:

أموت وتبقى صورتي لأحبتي
ولفيف عائلتي وأهل داري
اذ ليس للانسان بعد مصيره
غير الرسوم ندوم للأبادي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى