الثلاثاء ١٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧
بقلم وديع العبيدي

عن التجديد والتجريب والحداثة

القسم الأول:-(مدخل الى دراسة لطفية الدليمي)

شهد النصف الاول من القرن العشرين انتقال فن الشعر من التقنين الصارم في الشكل والمضمون الى الانفتاح والتحلل من القيود والمشارط الحسابية، واقترن ذلك بتغير أو تطور تعريف الشعر من مجرد(كلام موزون مقفى) الى الارتباط بجوهر الشعر والعملية الشعرية. وعلى العكس من الادعاءات التي روَّجها المحافظون ضد الحركة الجديدة يومذاك من استسهال الشعراء لتجاوز فن العروض فقد نبّهوا بذلك الى صعوبة انتاج شعر بدون وزن وقافية، بمعنى آخر أن تقنع الآخرين بأن ما تكتبه ينتمي الى الشعر دون ان تعينك الأوزان والقوافي التي أبدعها الأسلاف في شيء. الشاعر هنا ينتج شعريته، بأدواته الخاصة وخبرته في استثمار قراءاته وتجاربه.

ما أودّ الاشارة اليه هنا هو بقاء القصّ بعيداً عن حمأة الجدل، واستمرار النقاد في اتباع المساطر النقدية الصارمة في تحليل وتصنيف القصص المنتجة، ومن ذلك الحيرة الفنية أزاء تصنيف بعض الكتابات الى روايات أو قصص طويلة، أو تحيّر بعض المحدثين بين القصّ أو (النص). ولما كان من غير الممكن عزل الآثار الثقافية لحركة محددة عن باقي أجزاء أو مجالات الأدب، فان التغير والانفتاح في الفن القصصي حدث متأخراً عن الثورة الشعرية بعقدين أو ثلاثة على الأقل، وما تزال بعد نصف قرن من اكتمال أدوات الاولى في طور التجريب. ان المقصود بالانتقال او الـ (ثورة) القصّـيّة أو السرديّة انما يتجاوز مجرد الاستفادة من الامكانيات التي توفرها فنون التعبير الاخرى كالسنما والمسرح والشعر داخل القصة، أو أساليب التحليل النفسي والعلوم الجنائية وغيرها من المنتجات التقنية الحديثة في بنية السرد.

ان انفتاح القصّ وتحلله من المشارط التقليدية حاجة ملزمة تستجيب لمنطق العصر في الانفتاح على آفاق الحياة التقنية المنفتحة على مصراعيها لكل احتمالات التغيير والمستقبل والتحلل من كل القيود والاعراف التي يمكن ان تشلّ أو تعوِّق حركة التغيّر والتشكّل الجديدة. وما أشار إليه بعض الدارسين من تمازج الفنون وتداخلها مستقبلاً يمكن أن يجد تطبيقه أو تحققه في هذه النقطة. أي أن شخصية القاصّ الحديث سوف تقترب كثيراً أو تتمازج ولا أقول تتماهى مع ذات الشاعر. هل يعني ذلك ان القصيدة سوف تذوب في جسد القصة!. هل ما يتعارف عليه البعض بـ (النصّ ) هو الجنين المولّد من تخاصب الفنون السردية! أم سوف يحتفظ كل فن من الفنون بدرجة من الاستقلالية لتمييز هويته - على الاقل-!.

ان الاجابة على مثل هذه الاسئلة لن تكون بعيدة عن مصير الدولة القومية أو الوطنية في ظل تطبيقات العولمة والانفتاح الاقتصادي! وثمة.. فان حرية حركة رأس المال ينبغي أن لا تنـفصل عن حرية الكلمة والابداع وكل ما يتعلق بها. لأن كلاً من رأس المال والثقافة يكملان شقّي الحياة / المادي والانساني/. وقد أسفر تأخر الثقافي - بل وتبعيته للمادي/ السياسي- خلال العهود السالفة عن إلحاق أضرار بالغة بالانسانية جمعاء!.. ملخصة في التراجع الحضاري الاخلاقي الذي يسود البسيطة وانتشار همجية حضارية لا تقيم وزناً للانسان، مؤثرة عليه الآلة، والمادة على الاخلاق!. هذه المضاهاة لا تمثل خصاصة أو ميزة، وانما تلقي على الممارسة الكتابية مسؤولية جسيمة، تجعل الكاتب في مواجهة العصر والعالم. والكتابة بهذا المنظور تكفّ أن تكون ترفاً أرستقراطياً وانما واجباً أخلاقياً متحضّراً لتشذيب الحياة الانسانية والتطور المادي ودفع عجلة المدنية نحو الامام.

ان النصّ الجديد، الكتابة الجديدة، هي أشبه ما يكون بجهاز الكمبيوتر، أنه الشاشة التي توصلنا الى غايات بعيدة بكل سهولة، وننجز بوساطته كثيراً من مشاغلنا اليومية ونحن نجلس في بيوتنا، ونحصل على التسلية والمتعة المنشودة دون ان نتعرض لحادث دهس أو نشكو من أزمة المرور!. وحرية الابداع في هذا المثال تتمثل بالانترنت؛ الذي يتيح لك ان تسافر في التأريخ والجغرافيا وتمرّ على مختلف الفنون والآداب والعلوم دون ابراز وثيقة شخصية أو محاكم تفتيش!!. ويبقى بعد ذلك أو قبله إحساس القارئ وتذوقه. فيعتبر هذا النصّ شعراً لأن الشعر أقرب الى نفسه، أو يعتبره قصة لأنه وجد فيه شيئاً من حيثيات أيامه وأحلامه!.

لكن السهولة التي قد يتصورها البعض هنا مرهونة بشرط إبداعي صعب، ألا وهو الحرية بمعناها الأوسع غير المؤدلج أو المقنن تحت أية لافتة، الحرية التي تتجاوز الشكل الى المضمون، وتتجاوز الاهداف المعلنة الى طرائق التفكير وآفاق الفكر المنفتح بدون ضوابط أو عسس، ومهما كانت المبررات. الحرية كشرط أسمى للوجود وضرورة لازمة للتطور. فإما أن تكون.. حراً أو لا تكون!!.. ان التطورات أو التغيرات التي ألغت القنانة الجسدية مفهوماً لم تسطع الغاءها واقعاً؛ وإلغاء القنانة الجسدية لم يتبعه بل لم يسبقه إلغاء القنانة الفكرية التي ما تزال تعقل عجلة التطور الانساني. لقد ذهبت قرابين كثيرة على مذبح الفكر وما تزال حرية الفكر هي اليافطة التي يمرّ من تحتها جنود الكلمة، وما يزال جبروت المادة يخترع الوسائل لتشويه الدفاع الانساني. فأضاف الى منتجاته المادية والسلعية، منتجات فكرية تم الترويج لها في الأسواق الثقافية مثل صرعات أو موضات الحداثة وما بعدها ولم يعدم المتسلط الباذخ ان يجد وكلاء لترويج بضاعته. فتحولوا من عرابين الى الهة وزعماء يمارسون سلطتهم في الوسط الثقافي، وكان من أثر هذه الصرعة اتهام التراث الانساني في مختلف عصوره بالاميّة والتخلف؛ والترويج بأن السبيل الوحيد للكتابة العصرية هي اتباع روشتة الحداثة لتنقذ نفسك من كل تهمة!. فكانوا بذلك لا يختلفون عن أية سلطة تدافع عن وجودها بإلغاء الآخر، ولم تكن الحداثة الاصطلاحية إلا التفافاً على حرية الابداع والفكر. لقد تنوسي ان الحرية بمعناها المجرد ليس لها بديل أو معادل!.. وان كل ما يقابلها لايخرج في جوهره عن القمع مهما كانت المبررات. وان التجديد والتطوير والابداع ليس له ولا يمكن أن يكون له وصفة أو قالب محدد مسبقاً، وهو ان لم يكن منفتحاً على كل الافاق والاتجاهات فقد أهم خصائصه وبطل معناه. هكذا كان البياتي الكبير مجدداً، لم ترتكب تفسه خطيئة القمع ضد نصّ من نصوصه، ولم يشطب بمقصّ الرقيب على نصوص غيره، لم ينغلق على نفسه في صومعة الشعر بل انفتح على الآداب والفنون والعلوم، ولم يحبس نفسه في حدود الجغرافيا أو التأريخ فكان مواطناً وشاعراً عالمياً، ولم يقدس نمطاً أو صرعة كتابية فيلتصق بها، محتضناً كلمات غيره بودّ وألفة دون تنظير أو تأطير!.

وفي مجال السرديّات أخذ الشكل الفني يصبح همّـاً يشغل الكاتب المعاصر، بدرجة لا تقل عن اهتمامه بالموضوع، وأثار لدى الكثيرين شهوة التجريب؛ ولعلّ أبرز هذه التجارب ما اتجه نحو التراث شكلاً أو مضموناً وصرنا نلتقي بشخوص من التراث في تلافيف قص معاصر، أو موضوعة عصرية في ثياب التراث، مستفيدة من فنون السيرة أو الرسائل أو حرفيات الصحافة كالريبورتاج والتضمين والاستعارة أو سنمية كالمونتاج والقطع. وكان من شأن الاسراف أو المبالغة في الاتكاء على التراث أن يميز الكاتب عن غيره، وفي نفس الوقت يفضح عجزه عن اكتشاف مصادر جديدة للتجريب والابداع.

وفي هذا الاطار تتميز تجربة القاصة العراقية لطفية الدليمي بالنضج والعمق إضافة لامكانيات انفتاحها وتطورها. لقد مارست القاصة الكتابة خلال ثلاثين عاماً، أكسبتها خبرة غنية في حرفية القصّ. على الجانب الآخر اعتمدت القاصة برنامجاً مكثفاً في دراسة وإعادة اكتشاف التراث منذ أقدم الحضارات والنصوص الأدبية، متحررة من سطوة الافكار المسبقة لحركات الاستشراق والحداثة والادلجة الضيقة. فقدمت مفهوماً جديداً استثمرته في بناء نسيجها القصّي موازية وموازنة بين قيمة الحاضر وقيمة التراث ودون تغليب أحدهما على الآخر في مواجهة المستقبل. ان تجديد القاصة الذي تسوقه منذ تسعينات القرن الماضي يقوم على عدة ركائز:-

1- الربط بين مختلف االفنون الأدبية في النصّ الواحد.
2- استثمار المنجزات العلمية والنفسية الحديثة في النصّ الأدبي.
3- عصرنة التأريخ وأسطرة الحاضر وتقدمهما سوية على مسار القصّ.
4- أجواؤها السردية مشبعة بالحرية الكاملة؛ إن على الصعيد الفني وعدم التقيّد بعناصر السردية التقليدية، أو على الصعيد الفكري الذي تتحاور فيه الأفكار دون خشية أو ريبة، منساقة مع الفكرة من أجل الحقيقة.
5- يعدم القارئ فرصة الفصل بين القاصة والانسانة في عالم لطفية الدليمي لمدى انسجامها مع ذاتها وذوبان كل منهما في الآخر. فهي واحدة في حياتها وحديثها اليومي أو مقالها الصحفي أو عملها القصصي أو المسرحي أو قيامها بالنقد أو الترجمة.
6- ان اعتدادها بنفسها وتجربتها التجديدية لا يدفع بها الى الغرور، بل مواصلة البحث عن الجديد والاضافة، ورعايتها للأدباء الشباب بعيداً عن اسلوب التوجيه وتقديم النصائح حسب تعليقها.

وقد جسَّدت الكاتبة الدليمي رؤيتها الابداعية وطريقة تجديدها في عدد من الاعمال التي حظت باهتمام متزايد على صعيد التناول الفني أو الفكري. الامر الذي يبدو جليّـاً في هذا الاصدار* الذي يلقي الضوء على لطفية الدليمي .. الانسانة والكاتبة، وانعكاس صورها في مرايا الآخرين.

القسم الثاني..التلقائية في الكتابة

رواية (خسوف برهان الكتبي).. تطبيق في النصّ المفتوح

عجبت لمن لا يجد قوتاً في داره

كيف لا يخرج الى الناس شاهراً سيفه!..

" أبو ذر"

.. والقصة التي أكتبها

تخلى بطلها عن دوره

ليبحث عن عمل له في الشورجة !..

" العبيدي"

ترى!.. ماذا سيفعل الكاتب لو تخلى عنه بطله، ماذا سيكون موقفه عندما يعجز عن مؤونة شخوصه، فيتخلون عنه ليقوتوا أنفسهم!.. وبرهان العائش رغماً عنه بين الانهيارات المتعاقبة وأنقاض الحروب والحصارات يقضّه سؤال المعيشة بل يعييه، فاضطر لبيع موجوداته وممتلكاته حتى أتى على الكتب والآثار المورثة عن سلفه، أيبيعها ويفقد ارتباطه بهم وبنفسه، وماذا سيفعل عندما لا يتبقى شيء ذو قيمة ليبيعه؟؟.. يهرب برهان للنسيان. وبرهان في القصة لا يأكل ولا يشرب، ليس له بيت ولا في بيته مطبخ، لديه زوجة وفراش ولكن زوجته لا علاقة لها بالطبخ وكل ما يخرج من الأرض. البقاء هو الهدف، وهو يتحقق بالفنتازيا الشعرية التي يصورها الملك السومري شولكي عندما يسأله برهان عن حيلة البقاء [مثلما تبقى الطيور وأشجار السدر والنخل البري في الواحات، مثلما يدوم النهر والريح في الزمن..].

أولاً:- القراءة

يصاب المرء باللهاث وهو يتابع خسوف برهان الكتبي، في محاولة للعثور على خيط القصة أو بعض الخيوط ، وعندما يعييه البحث يضع لنفسه بعض الخطوط التي تحمل بنية القصّ، والمفارقة أن يكتشف بعد ذلك صحة ما ذهب إليه، رغم عدم القدرة على إثباته.

وهذا لا يعني استجابة الرواية الفائقة للتأويل، قدر استناده الى الشذرات المتناثرة في ثنايا السرد والتي تعين القارئ الباحث عند جمعها في اناء الذاكرة على استجلاء المعاني المرتقبة , ولكن الامر ليس بهذه السهولة او السرعة التي تم تصويرها هنا، مرات عدة سوف يكتشف القارئ نفسه تائهاً وسط دوامة ، وأنه انما يدور على نفسه في حلقات متداخلة ، تتناوب عليه، كل مرة بألوان مختلفة، وقدر ما يتحسس متعة الدوران وانعكاس صوره على مرايا الحلقات (السطور) ، يصاب بضربة وعي وتأخذه اعيائة ، ليواصل هو خسوفه خارج النصّ.

لكنه يصحو على لغة الرواية المتقدمة وضرباتها العالية ليغالط بعض استنتاجاته ويعاود قراءة الرواية مرة اخرى واخرى ويعاود ضلاله وذوبانه وصولاً الى ضفاف المعنى, ان من الصعوبة بمكان الوقوف امام كتاب لايتعدى الثمانين صفحة من الحجم الوسط، يستثير من التداعيات ما يوازي حجمه، تتوزعه الافكار والرؤى دون التركيز على محور رئيسي محدد خلال تقسيماته السبعة عشر(في فصلين) ، مما يغري بإعادة الصياغة باشكال متعددة . وثمة.. كيف يمكن التعامل مع رواية(حسب تصنيف الغلاف) تعتمد درجة عالية من التجريد واستثمار ما أمكن من التقنيات السردية اللغوية والفلسفية والنفسية مولية ظهرها لأساليب ومستلزمات القصّ المعهودة ومهما كانت المبررات والدوافع؟ وهل مجرد الحفر ونسف النمطية مبرر كاف لاستيلاد (نص مفتوح) ذي نفس ملحمي حسب تعبير المؤلفة؟ .

الجدير بالذكر هنا القصدية والانتباه الكبير الذي تتحرك بهما الكاتبة؛ وتوحي للقارئ داخل وخارج النص ّ بهذه القصدية وسبق الاصرار الذي سبق انجاب النصّ السردي، مما يغري بدراسة الكاتبة وشخصيتها الفكرية والادبية مدخلاً للفهم . بمعنى آخر ان (حفر) الكاتبة جاء بعد استغراق وامعان بين بطون الكتب وادراج التأريخ وبين رياض الفكر والتصوف . ان عالمها الكتابي يستند الى عدة طوابق، تتوزعها السومريات وحضارات ما بين النهرين واشراقات التصوف والفكر العربي المحدث، مضافاً لها ولعها بعوالم الخرافة والغيبيات التي تتراوح بين قصص الطفولة وطروحات الخيال العلمي، بينما تتمشى الفلسفة بخيلاء بين كل ذلك ، يدعمه اعجابها الكبير بأساليب التحليل النفسي والانفصام وعمليات غسيل (تعبئة) الذاكرة بديلاً عن النفس الدرامي. وتلعب اللغة (حصان الفلسفة) هنا دوراً رئيسياً في قيادة السرد وحمل المعاني في النصّ الافتراضي.

ان لغة الدليمي ليست شعرية خالصة كما يذهب البعض ولكنها مفعمة بموسيقى الشعر بينما تعتزّ بسرديتها العالية المركزة ، في سعي حثيث لبناء العالم النصّي(القصصي أو الروائي) دون ان تضطرّ للتعامل مع الحدث مستعيضةً عنه بالفكرة، وبالتالي فان تجميع الافكار داخل النص (بدل الأحداث) سوف يعكس درجة عالية من التجريد في البناء . وهو المطب الذي يفترض بالكاتبة تجنبه طالما تتحرك بقصدية وانتباه، فنجدها تعمد الى تلقيح او تخصيب أفكارها(السردية) بمشاهد ولوحات مقتضبة من الواقع (الحاضر)، بما تستكمل معه بناء بانوراماها المتكاملة من كل شئ وبدون اي شئ في آن.

ان خسوف برهان الكتبي، هي(الرواية) التي تقول (كل شئ ولا شئ) في آن وذلك حسب زاوية وعمق القراءة. وهو ما يوصل الى استنتاج آخر ان خسوف برهان الكتبي وما جاء في سياقها من كتابات المؤلفة الاخيرة ترتفع بذائقة القارئ الى مستويات خاصة تجلّ عن القراءة العادية. انها تخاطب النوع وليس الكم ، وتتجه الى مستوى معين من القراء وهو ما يمكن التدليل عليه او استنتاجه في مكان آخر أيضاً، وهو طبيعة شخوص الكاتبة الذين ينتمون دائماً الى الطبقة المثقفة وأولي التعليم العالي، ممّن تتداخل الفلسفة والتاريخ في حوارهم متجاوزين الحاضر الآني مما يمهد لأرضية او آفاق التأويل في النصّ ويوصل ثمة للمعاني التي ترتقبها وتسعى لها المؤلفة .
بيد ان التجريد الذي يحكم النص، يتجاوزاللغة والأفكارالى طبيعة الشخوص الألى يفترض استخدامهم الحوار وتبادلهم تينك الافكار، حيث يجتذب اهتمامنا أمران:

1- يبدو الشخوص منفصلين عن الواقع، محلقين او سابحين في زاوية 180 درجة تتراوح بين اعماق التاريخ وعبر الحاضر نحو المجهول دون القدرة على تأكيد انتمائهم الى مرحلة او واقع محدد بعينه. وفي هذه الرواية يرد ان محروس أفاق[ من غيبوبة الهلع في خندق الطين في حرب المشارق عقب انفجار قذيفة منذ عشرين سنة] و [ أدركت آنئذ أنني كنت في غيبوبتي أتشبث بنجاتي وتيقنت انني المحظوظ الوحيد الذي بقي حيا في الموضع المتفجر] / ص5، في محاولة للايحاء بأن ثمة حرب مرّت من هنا، وفي الصفحة/9 يرد أن [ غسان لا يسمع طرقات برهان على بابه، فما عاد يسمعها منذ تسع سنين من الموت وقد تلاشى جسده وبزته العسكرية في طبقات الرمل وكفننته نباتات الشيح والعرار..] غسان الذي فرمته ماكنة تينك الحرب [ هل نام أخي غسان كعادته دون أن يخطر له انتظاري؟]/ ص9. ان تطبيق الرواية في واقع آخر سوف يقطع صلتها بالارضية المنبثقة عنها في واقع وزمن عراقيين محددين بالاستنتاج!. أما الاشارات التي تتكرر أكثر من دونها فهي بيع برهان لمكتبة أبيه وتمثال الملك شولكي، والتي تمثل آثار الحصار دون تسميته، وتفترض الكاتبة كذلك أن القارئ يشاركها سبق الاصرار!. وبرهان هنا حسب حركته أو تحريكه في النصّ هو شخصية إفتراضية أكثر منه واقعية لذلك يتقلب بين وجوه وزوايا عدّة. هل يعاني من مرض الذهان أو داء نفسي مقيت يجعله يتتقل في شخصيات أو أدوار متعددة، تارة في نومه أو افتراضات النصّ؟[ هل لكل هذا علاقة بحالة الطير التي أصير إليها في ليل المدينة؟]/ ص70. ليس هذا مرمى القصّ.

ان الأمر الذي يتردد أكثر من شيء آخر في النص هو النسيان، ليس في جانبه المرضي أو النفسي وانما في الجانب الفلسفي الوجودي الذي ترمي اليه المؤلفة والذي يقابل هنا الانتماء. ثمة.. فأن بيع كل قطعة هو ابتعاد، بالاحرى انفصال عن الذات، ويتخذ الامر أبهى صوره لدى بيع رأس الملك السومري شولكي [ الذاكرة هي التي تنقذ الانسان من مصير الفراشة المحتوم وتحول دون تفسخ القلب في أتون السماد..] / ص15. ان مفردات (النسيان/ الذاكرة/ الحبّ ) كلها تشير الى أزمة الانتماء التي تهتزّ في هذه اللحظة في كيان برهان الذي لا يحرسه شيء في ظل ظروفه. واذا كانت صورة الانتماء المعروفة تمثلها العلاقة أو الارتباط بالارض، بالعائلة، فان الصورة التي نجدها هنا تلخصها بالكتاب، الفكر والثقافة. وبطل الرواية ليس فلاحاً أو عاملاً أو سياسياً وانما هو كما يقدمه العنوان (الكتبي) وهو ليس وراقاً أو تاجراً للكتب وانما مولع بها وبرائحتها التي ورثها عن أبيه. [ تدرب على تمييز الروائح المغرية التي تشعّ من بطون المجلدات وتتصاعد من الأغلفة المذهبة..]/ ص16. ولذلك ركزت الكاتبة على الجانب الفلسفي أكثر من الواقعي في معالجتها الروائية.

2- ان شخوص هذه (الرواية) ليسوا غريبين عن شخوص الكاتبة في كتاباتها القصصية والروائية الأخيرة، وانما هم يتناسخون ويتماهون في بعضهم، ولا تبدو الأسماء هنا غير جوازات مزورة لإختراق عالم آخر أو باب جديدة تبرر الكتابة. صورة الذكر والانثى، الحبّ الذي يصور علاقتهما، المرأة تمثل عامل الاستقرار والثبات والمعرفة التي تقدم الحبّ وتنتظره ( لاحظ الاسم المقصود في هذه الرواية - دليلة - العرفاني!- والمؤلفة تحرص كثيراً في اختيار الاسم ودلالاته في أعمالها) وهي تأخذ بيد برهان اللامحروس كلما غيبته الطرق والافكار. هل دليلة هي نفسها شهرزاد ومزينة وأميمة؟ أما صورة الذكر فهي الاكثر اهتزازاً وعرضة (تماسّاً) للتغيرات الآنية والمرحلية.. وفي هذا الاطار يلتقي محروس مع شهريار وسحبان والتوركلي. وكما سبقت الاشارة فجميع هؤلاء مثقفون حواريون متفلسفون، لا عمل محدداً لهم ولا هموم معيشية أو ارتباطات عائلية عريضة، لا يدفعون ضرائب ولا ايجارات وليست لهم استثمارات خارج سوق الكلام. وبالتالي فإنهم ليسوا سوى أوعية وأدوات لتفريغ أفكار المؤلفة على الورق وتوصيلها الى الغير؛ وهو المتمثل بمشروعها الكتابي أو الفكري المستخلص من دراساتها وتأملاتها بين الحاضر والماضي.

ثانياً:- بنية الرواية

تستعير الكاتبة من فن المعمار هندسة البناء العمودي، ولذلك تولي عنايتها الفائقة للطابق الأرضي/ الأساس، والممثل هنا بالفصل الأول، فتصبّ جهدها اللغوي والفكري لتمتين جوانبه ورصّ زواياه؛ بحيث يصبح معه جوهر الرواية أو القاعدة التي تقوم عليها. فالى جانب اللغة تكاد الافكار تترى هنا وتنساب التداعيات الفكرية انسياب الماء على صفحة النهر، فتنساب معه نفس القارئ حتى تجزم أو تحسم المؤلفة تينك التداعيات أو التسبيحات ..

[ويمضي الى اتساع النهار ولا يتجه الى بيت أو زمان..

فالنسيان خاتمة الأعاجيب..].

وتمثل هذه العبارة، الجملة الموسيقية الأخيرة في أداء الاوركسترا التي يعقبها صمت مطبق..! منفتح على كافة مناحي التأويل. واذا عدنا للجملة الاولى التي ابتدأت بها القصة- الرواية [ ولا عهد لبرهان بالنسيان..] نجد ان الفصل الاول ابتدأ وانتهى بنفس الكلمة .. النسيان.. وقد سبق الذكر انه يمثل قصب القصّ الدالّ على ( أزمة الانتماء). ونستنتج معه ان قاعدة البناء دائرية بدون زوايا او انحرافات، تبدأ وتنتهي في نفس النقطة، بالأحرى انها مستمرة لم تبدأ ولا تنتهي، كانت موجودة قبل القبل، واستمرت بعد انتهاء القراءة، لتتحول امتداداتها في ذات القارئ المشارك في القصة الى جانب المؤلفة والشخوص.

تقول جملة الاستهلال أو الافتتاح: [ ولا عهد لبرهان بالنسيان.. ].. الجملة بدأت بالواو، فهي ليست جملة إسمية أو فعلية، استفهامية أو خبرية، وانما جملة معطوفة على ما سبقها، ومحل (الواو) نحوياً أنها حسب ما قبلها وما قبلها مستتر غير مذكور. وبالتالي فان النصّ / القصة.. الرواية.. قطع من تأريخ ممتدّ متدفق، مثل النهر في لوحة مرسومة، انه ليس النهر.. ليس كل النهر.. وانما مقطع عرضي منه. الى أيّ حدّ ينطبق هذا الوصف على جوهر الرواية؟ الأمر متروك للتأويل.

تقسم المؤلفة الفصل الاول الى ستة أقسام، متراصّة متلاحمة متماسكة بنيوياً وفكرياً. وباستثناء الاشارات العمومية التي أشرنا الى شيء منها في قراءتنا الآنفة، تبقى مفتوحة زمكانياً، وهي الاشارة التي وردت في الجملة الاخيرة من الفصل/ القصة [ لايتجه الى بيت أو زمان..].

في بداية الفصل الثاني وبعد تداعيات لغوية تستلم المؤلفة رسالة من زوجة بطل القصة التي تهاتفها متسائلة عن سبب عدم ظهور القصة/ قصة زوجها برهان الكتبي منشورة في العدد الجديد من مجلة الاقلام!.. الى أي مدى يمكن تمثل هذه الجملة في فكّ بنية الرواية؟.. هل بدأت قصّة.. ثم انتهت رواية!.. رواية (النخلة والجيران) الشهيرة للكاتب العراقي غائب طعمة فرمان أيضاً بدأت في هيئة قصة قصيرة. ان هذا الاستنتاج لا يستند فقط الى وشاية النصّ السردي (المنفتح) نفسه، وانما الى الاختلاف في البنية والاسلوب واللغة بين الفصلين.

الفصل الثاني هو القسم الثاني والأخير من الرواية، وهو الطابق الثاني أو المرتفع عن الأرضي/ الأول. هل هذا يكفي ليأخذ بناءه نمطاً آخر؟ على الأقل من ناحية الشكل والصورة. هذا الفصل منقسم في أحد عشر قسماً.. يتضمن رسائل ومهاتفات وملاحقات ومواقف لم تذكر في الفصل الأول، ولكنها لا تضيف شيئاً وانما تدعم فحوى الفصل الأول/ إشكالية برهان مع النسيان- أزمة الانتماء. سوف تتكرر مفردة النسيان في ثنايا السرد وبشكل يوحي بالعادية.. لكن المسألة ليست غير مقصودة. عندما تسألها عن القصة، تتعلل الكاتبة [النسيان، في أحيان قليلة أتجاهل البديهيات فأنسى..

 تنسين أو تتجاهلين؟
 هل يختلف الأمران؟
 طبعاً..
 أتجاهل فأنسى..
 لماذا لم تظهر قصتك؟
 لم تظهر لتبقى!..] / ص 28

وظيفة الفصل الثاني لا تتحدد في الاطلالة على مختلف الجوانب المحيطة، القريبة والبعيدة، وانما لدعم بنية/ جوهر الفصل الأول، وهي تقوم بهذه الوظيفة من خلال غواية التأويل!. في الفصل الثاني تسحب المؤلفة التي تدخل النصّ هنا الى جانب الشخوص ليشاركوها وتشاركهم هواجسهم، تسحب النصّ نحو الواقع.. تمنحه أرضية شبه محددة، ربما هي غواية المكان إذن!.. [في (الباب المعظم) يقرأ العناوين ويحاول ايجاد علاقة بين ما هو فيه وقصف الطائرات الأمريكية لمدن البلاد.] / ص31. وفي الصفحة التالية تعلق هامشاً يقول [ يسير برهان في الأزقة الناعسة التي تفوح بنتن الرطوبة أبواب البيوت البغدادية العتيقة لها مطارق من حلقات نحاس ورؤس أسود (!!) تدقّ لمواعيد زائلة ونجوم وأهلة برونز تتشبث بخشب مصبوغ وتثير وهجات ضوء نحيلة من معدنها المهجور.. بعض الأبواب مواربة والستائر من قماش رخيص تتطاير في الهواء وترفرف حافاتها المزينة بمخرمات جميلة فتطشّ معها أسرار البيوت ورائحة الرز العنبري والمخللات والسمك المقلي..] /ص 32-33. أو [ المدينة وبرهان تلاشيا في الزمن ولبثت هي تطارد شبحيهما في ذاكرتها] / ص32. فبعد أن تركت الفصل الاول مضبباً منفتحاً في الزمان والمكان وأنحاء المعنى وكثافة التأويل، عادت لتجمعه في مكان وزمان محددين بغداد.. أواخر القرن العشرين ثم تلملم المعنى في آثار القصف/ الحصار الأمريكي. ثم تركز على الآثار الإقتصادية التي تنخر في بنية المجتمع.

[ يسأل أشياء البيت وحفيف الستائر الممزقة.

 ماذا سنأكل في الغد؟.. وهذا يعني ماذا نبيع لنبقى..] / ص14

[ هؤلاء الذين يفكك القهر أعضاءهم الجميلة الكاملة ويحولها إلى أشلاء تباع سرّاً عند سماسرة المستشفيات الخاصة] / ص34

[ عدّه المشرّدون منافساً لهم في مناطق نفوذهم فلاحقوه، لم يكن عدوّاً مؤكداً فيقضون عليه ولا شبيهاً بهم فيقبلونه بينهم] / ص30

[ يراهم ينسحقون أمام نظرته التي تسيل منها كلمة (خطيه) الغامضة التي لا يدري لم كان يرددها بين آونة وأخرى / ص35، لا شيء يحرضه على القيام بأيّ شيء.. والتقدم إلى الأمام لا يختلف عنده عن التراجع فكلا الحركتين لا تؤديان إلاّ لمتاهات جديدة../ ص34، فقد امّحت الحدود بين الحياة والموت في سعة النسيان./ ص30] .

مرّة أخرى يعود النسيان ليكون المفتاح السحري للحلّ / عندما يستعصي الحلّ ويقف برهان / الكاتبة أمام الأمر بلا حول ولا قوة. [ من أين له المدية المشحوذة ليشقّ في الروح منفذاً فتنطلق الحياة المجنحة إلى الهواء؟..]/ ص75.

ثمة.. هل يكفي النسيان ليجيب على أسئلة الرواية المفتوحة؟. كما انتهى به الفصل الأول.
[ - عمو خضر أين الكمبيوتر؟

 في هذه الغرفة.. الشاب الذي يعمل على الكمبيوتر خرج قبل نصف ساعة.
 لا بأس.. أيمكن أن تفتح لي الغرفة عمو خضر..
 ولكن..
 سأشرح لك الأمر../ ص76.

وجد أصحاب المكتبات على الدكات الخشبية الخارجية لمحلاتهم رزماً من الصحيفة و.. وصلت بالبريد الى بعض الأشخاص نسخ منها..

إتصل بي أحد الأصدقاء هاتفياً:

 أهنئك، أعني قصتك الجديدة، عن (برهان الكتبي) كانت مفاجأة حقيقية، بخاصة وإنها ظهرت في العدد الأول من صحيفة (الابداع العراقي الجديد)./ ص77].

وكأنَّ الرواية من خلال هذا الربط الجديد في الفصل الثاني تشير الى طبيعة الاعلام المقنن ونتانة البيروقراطيا التي تخنق منافذ الابداع، مترسّمة بذلك طريق المستقبل، والذي ينشر ضفافه على مساحة/ إشكالية الرواية ويجيب على جميع أسئلتها بكلمة واحدة، ولكنها ليست.. النسيان!!. بيد ان الكاتبة لا تتركنا نستمتع بتأويلنا هذا فتعود لتكبح التداعيات التي يزخر بها الفصل الأول وتحصر المعنى، بالأحرى تعيده الى حظيرة الرواية، ممثلة بـظاهرة بيع برهان (حال كثير من المثقفين العراقيين تحت وطأة الظروف) لكتبه وكتب أبيه وتراثه، الأمر الذي يقوده الى النسيان/ اللا انتماء، معقبة [كنت أعتزم بيع مكتبتي، رزمت مجلدات ابن عربي وكتب الشيخ عبد القادر الجيلي ومعجم البلدان وكتب فريد الدين العطار ولكنك أحبطت مشروعي.. كيف سأتدبر أمر مصاريف المدارس لأبنائي؟.. لقد وضعتني في حرج الاختيار بين ذاكرة مهددة وأبناء قد يحرمون من ذاكرة جديدة. ماذا أفعل؟..] / ص77-87. وهكذا يأتي الفصل الثاني ليلغي أو يحصر كل التأويلات التي انبثق عنها الفصل الأول، لتتحول الرواية لمعالجة ظرف اقتصادي بقطع النظر عن الأجواء التي قادت إليه أو يقود اليها، ودون أن تجيب على سؤال مهاتفها حول مصاريف المدرسة أو قوت المعيشة. السؤال الذي تتركه أو تتجه به للقارئ.. للعالم في بداية ألفية جديدة من تأريخ البشرية!!.

* إشارة إلى العدد الخاص من مجلة ضفاف/ النمسا عن الكاتبة والذي حمل الرقم (5) بعنوان- لطفية الدليمي في مرايا الابداع والنقد- العام 1999.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى