الأربعاء ١٧ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم فاروق مواسي

عودة إلى النقد الموضوعي

كنت قد تطرقت ، في مقال سابق - هنا في هذا الموقع - إلى أننا كثيرًا ما نحكم على العمل الأدبي مرتبطًا ارتباطًا وثيقـًا بالحكم على صاحبه . وقد أشرت إلى تجربة ريتشاردز في كتابه النقد العملي ، حيث خلص إلى أن الحكم على العمل الأدبي يجب أن يكون بمعزل عن شهرة صاحبه أو غمريته .

وكانت قصيدة ( الإبرة ) ، التي أثبتـّها في تلك المقالة ، مدار نقاش . فبعضهم اعتبر أنني ألّفتها ( فبركتها ) ، وخرج باستنتاج مختصره أن هذه القصيدة هراء ، ومن قائل إن هذه القصيدة اجتزأتها من قصة طويلة ، وهي بالتالي تقع ضمن السلبي ، ومن قائل إن هي إلا كلام نثري باهت ، ومن رافض أن يتحدث عنها لأنها ليست قصيدة أصلاً . ومن شاك أنها لي فهاجمها لأنها في اعتقاده فاروقية ، ولم أحصل على إجابة واضحة تشفع لصاحب القصيدة سعدي يوسف بالجودة ، رغم أن الشاعر معروف ، ويعتبره هؤلاء الأشخاص بالذات أنه في طليعة الشعراء العرب المحدثين .

غير أن الأمانة تقتضي أن أذكر بعض ما كتبه أحد الأساتذة من المهتمين بالأدب ، وذلك بسبب جدية التناول :

" ... لا أجد قصيدة ( الإبرة ) ، تتعدى أرق إنسان يجدّ في البحث عن مصدر ضجة تتسلل إلى أذنيه ، فيسارع إلى نفي أسباب الضجة الممكنة ، فالشباك غير مفتوح ، والمذياع مقفل ، والحنفية محكمة الإغلاق . وتتوالى ( لا ) التي تطرد في نفي الاحتمالات المتعددة لمبعث الضجة ، وتتوالى النقاط .... الفرج آت . لقد وقع على حل اللغز ، إنه الليل الثقيل ، تتسلل وطأة همومه تسللاً دقيقـًا خفيـًا وموجعـًا كموقع رأس الإبرة ، إذن فقد عرف وأيقن ، فاكتفى وكفَّ عن التساؤل .

الشاعر اختزل تجربة امرئ القيس مع الليل مع تحويل التيمة ، فإذا كانت هموم الليل تجتاح امرأ القيس كموج البحر ، فإنها عند شاعرنا تتسلل إلى أذنيه كما تنفذ الإبر والكلمات ( وسدني الصخر ) ، ( بطيء) ، ( مرهف ) تقودنا إلى مقاليد نفسية الشاعر .

غير أنني أنكر على من يحمل هذه الهموم أن يقوى على التفكير المنطقي المرتب والمتسلسل في القسم الأول من القصيدة . وقد جسد هذا الترتيب ذلك التدرج من الخارج ( المفترق ، الشباك ، الباب ) إلى الداخل بتعداد محتويات الغرفة بالترتيب من أكثرها ضجة ( المذياع ) إلى قطرة في المغسل إلى أقلها ( رفة في آنية الزهر ........ الخ ) .

وإذا كانت هذه التعددية ( النثرية ) الطويلة تخدم المفاجأة السريعة المقتضبة والمكثفة في القسم الثاني على المستوى الشكلي ، إلا أنها تثبت في الوقت نفسه أن الشاعر يعوزه الإلمام بخفايا النفس البشرية والقلق الإنساني ، فالذي يتوسد الصخر لا يقوى على هدوء التفكير المنطقي ، وبهذه النقلة الجادة خلق مفارقة بين المقدمات والنتيجة .

وأشير كذلك إلى محاولة الأخ يحيى متاني التي ألغى القصيدة أولاً وأبدى مدى تجاهلها لقضايانا ، ثم ما لبث أن تفهم بعضًا منها ، ولكنه لم يغير قراره الأول بأن هذه " القصيدة " ليست قصيدة ، مع أنه بين إيجابًا فيها ومنها .

وإذا كان هذا التمرين الذهني يقع في دائرة الشعر فإن تجربة مسابقة مجلة ( اليوم السابع ) أيام كانت تصدر في باريس - تفيدنا في هذا المجال . فقد شاركت في المسابقة (1518 ) قصة قصيرة ، وكانت القصص تقدم بأسماء مستعارة ، وتبين بعد إعلان النتائج كما يوضح إبراهيم العريس ( اليوم السابع عدد 90/ 1/ 29 ) كون أربعة وستين مشاركـًا معروفة أسماؤهم في شتى مجالات - الأدب والفن والصحافة وغيرها . والمفاجأة أن معظم القصص التي فازت أو تم التنويه بها أو وصلت إلى التصفية الأخيرة لا تحمل تواقيع معروفة . ولا بد من الإشارة إلى أن عشرات النقاد اشتركوا في عملية الفرز ...حتى كان الحكم النهائي للجنة ممن لا يشك بأمانتهم وجديتهم .

لماذا أطرح الموضوع ؟

أطرحه لأقول ثانية إننا إذا جردنا العمل الأدبي من اسم صاحبه ( اللامع أو المغمور ) فإننا نتعامل ومقاييس حذرة ورؤية أعمق ، الأمر الذي يستلزمنا أن ننقب ونجد ، وأن نقرأ لمن يعرفون في الميدان الذي نجول فيه ونصول ، نتعلم منهم حتى لا نهرف بما لا نعرف .

أقول ( نتعلم ) لأن التواضع أمام الذي يعرف هو سمة الباحث - الباحث الجاد عن العلم والمعرفة ، والبعيد عن المهاترة ودس الأنف.....

ورحم الله امرأ عرف حده فوقف عنده .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى