الخميس ٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٤
قصة قصيرة

غابات

نازك ضمرة

ركل طفل قوي حاوية كبيرة من الصفيح فارغة ، وبعد انقلابات كثيرة رست وسط خط سريع للسيارات ، طريق عبر غابة واسعة كثيرة الأشجار ، منها الكبيرة المعمرة ، وزرع البعض الآخر قبل عشر من السنوات أو عشرين.
وصفت لي ابنتي إحساسها عندما زلزلت الأرض في الأردن ، كأننا نقف على مسرح عائم فوق قارب يسير في بحر بطيء التموج ، الجدران والصور والأرض تميد ، وتساقطت بعض التماثيل الهزيلة على أرض الغرفة ، والتحف التي بقواعد صغيرة ، تكسر بعضها ، وانبطحت الأخرى تحاول الصمود في أماكنها. ، عفنا المأوى والبيوت ، كان أول زلزال في حياتي.

قالت المرأة للرجل الهائج
 طفل ألقى بالصفيحة وهرب بعيداً.
لم أتقبل عبث ذلك الطفل الشقي ، فحاولت دفع الصفيحة أو إبعادها من الطريق العام ، لكن الشاحنة كانت مقبلة بسرعة جنونية ، تأكدت أنني سأكون ضحية إن فعلتها ، فقفزت هارباً ناجياً بنفسي ، عائداً للرصيف بقفزة خاطفة ، لم أتمكن من الابتعاد كثيراً لحظة وصول الشاحنة بمحاذاتنا ، صرير احتكاك فراملها في الأرض وحول محاورها زلزل الأرض تحت أقدامنا.

تقول ابنتي ، لا ندري ما يجب أن نفعل داخل البيت ، وحتى سبيل الخروج فقدنا اتجاهه ، أخيراً وبعد فوات الأوان هرولنا فزعاً للشارع. كنت برفقة اثنين من أقاربي في الغابة المتنزه ، اضطرب أحدهما ، وأظهر الآخر استغراباً ممزوجاً بضحك هستيري كأنه أصابته نوبة هلع ، أما المضطرب الأول فاستطاع أن يقول : سلمت حين أسرعت وتخليت عن فكرتك في تنظيف الشارع.

صراخ عالي النبرة متواصل من سائق الحاوية ، لم نفهم كلمة مما قال وهو ما زال خلف مقود سيارته ، اختلط صوته بزعيق فرامل شاحنته التي كانت تسابق الريح ، استغربت ورفيقاي تمكنه من إيقافها قبل وصوله الصفيحة ، ظنها متفجرة ألقيت أمام شاحنته بقصد ، مما جعله يبذل كل جهده لإيقاف شاحنته ولو أذاب فراملها ، بيضاء مصفحة بألواح من الصلب اللامع الذي لا يصدأ ، وكأن جدرانها مرايا ، مع زينات وأشكال هندسية تجميلية على حوافها وجوانبها وخلفها ، أما دواليبها الأربعة عشر فكانت مزينة بأغطية ثمينة كأنها مخصصة لركوب موكب ملكي ، كان سيركبها فرعون أحمس أو رمسيس ، أو أوريليان روما حين أسر أم فابالا ثوس زنوبيا لو عاش في هذا الزمان.

تخطتنا قليلاً حين توقفت ، يخرج يده ويلوح بها في الهواء مهدداً متوعداً ، وألقى شيئاً علينا ، أحسست رأسي كادت تطير عن جثتي لو أصابتني مقذوفته ، يفتح باب شاحنته ينزل منها ببطء وبتثاقل ، لا ينظر لأحد سواي ، شاهدني من بعد ، وأنا أحاول رفع الصفيحة عن الشارع العام ، فظن أنني وضعتها هناك.

امرأة جميلة يصحبها أطفالها كانت جالسة تحت شجرة قريبة ، يأكلون ويتحادثون فرحين ، بينما كانت ترضع طفلها الصغير من صدرها ، لم يكن زوجها موجوداً في تلك اللحظة ، فاغتنمت فرصة الحرية تلك وبالدافع الأنثوي الإنساني الطوعي ، تقدمت فانبرت للرجل الأبيض جداً ، كان شعر رأسه خفيفاً لكنه أشقر ، قالت له :
كان ذاك الشاب يحاول إزاحة الصفيحة من الشارع العام ، لكن سرعتك لم تمكنه من ذلك ، وكدت تقتله لو أصرّ على مساعدتك.
 
لم يعر الرجل الهائج كلام المرأة أي اهتمام وكأنه لم يسمعها ، وربما أثارته أكثر ، فأراد أن يظهر قوته وقدرته على إهانة من يضايقه ، أمام المرأة الجميلة.

واصلنا سيرنا محاولين الابتعاد عن الشاحنة الواقفة وسط الشارع العام ، صادف أن كان توقفها بمحاذاة حاوية فضلات كبيرة مثبتة على رصيف الطريق عبر الغابة المتنزه ، لم يبق مجال لأي سيارة للمرور ، وعلى أي سيارة مارة أن تتوقف حتى يحرك الهائج شاحنته ، زاد غضبه عندما شاهدنا نبتعد عنه لا نعبأ لكلامه ، أفقده السيطرة على نفسه.

وتكمل ابنتي وصفها لزلزال عمان قائلة: عفنا المأوى والبيوت ، كانت أول زلزلة في حياتي ، وحين تحررنا من أسر البيت ، رثينا لحال الناس الذين تأتيهم الزلازل بتواتر ، وحسدنا سكان الخيام والغجر والبدو الرحل.
تتماوج أرض الغابة أمام عيني وتميد ، كزلزلة الأردن حسب وصف ابنتي ، في المواقف الحرجة أجد نفسي أمام أمرين ، إما أن لا أكترث بما يقال ويحدث حتى لو كان مهيناً ، أو أتحفز للرد والدفاع العضلي والجسماني ، ولو أصابتني ضربات موجعة ، إن لم يكن لي خيار في ذلك ، حاول واحد من رفيقي تهدئة الرجل شديد البياض ، لكنه استكبر وأصمً أذنيه ، طلبت منه الهدوء لشرح ما أردت فعله ، لإزالة الأذى عن الطريق ، بينما كنا نتراجع مبتعدين عنه ببطء ، لكنه ظلّ على عناده وإصراره على إهانتي.

يدير وجهه وينظر للصفيحة ، يبتعد عنها قليلاً قليلاً ، لكنه يقترب منا ، وكأنه يستدرجنا للتوقف ، وكلما نظر وراءه صوب الصفيحة يبدو عليه الاضطراب والهلع ، ابتعد عن شاحنته ، تباطأنا في سيرنا ،اقترب منا أكثر في حذر ، استمر ابتعادنا عنه ببطء وفي حرج ، عيناه مركزتان علىّ ، وكأنّ قريبيّ غير موجودين ، وكلما حاولت قول أي شيء ، أوقفني بحركة حاسمة من يده ، قال مهدداً في كبرياء واستعلاء
 أنت مذنب ، ويجب أن تعترف أنك مذنب ، ثم اذهب إلى الصفيحة وارفعها بنفسك من الشارع العام أمام ناظري ، وعليك أن تتحمل تكاليف ذوبان فرامل سيارتي العزيزة عليّ ، والتي تأتيني بالمال والدخل المرتفع ، تبرع قريبي قصير القامة أن يقوم بإزاحة الصفيحة عن الشارع العام ، واعتذر الآخر محاولاً شرح الموقف ، تهب نسمة هواء خفيفة تحرك الشعر الخفيف الأشقر على رأس سائق الحافلة ، ملأت صدري بهواء نقي جديد ، أحسست أن نشاطاً زائداً عبأني ، وأن فكري يعمل بطريقة طبيعية ، حركة ثانية من يد سائق الشاحنة الأبيض جداً أوقفت قريبي ، وما زال على مشيته البطيئة المتثاقلة متجهاً صوبي ، أحاول المشي لاتجاه جانبي متجاهلاً حركاته ، عله يخفف من غلوائه وتبرد عقيرته ، ويعود لشاحنته.
عيناه ترقبان أيدي رفيقيّ ويديّ ، تتحرك عيناه إلى جيوبنا تارة وإلى أيدينا تارة أخرى ، يريد التأكد من أننا لا نحمل سلاحاً من أي نوع ، قال له رفيقي القصير
إننا أناس مسالمون ، ولا يعنينا أن نسبب أي نوع من المشاكل ، وما عليك إلا أن تذهب وتستطلع الصفيحة الفارغة ، فهي مفتوحة من الأعلى ومكشوفة ، طفل عبث بها وركلها ، ثم انطلق بعيداً نحو أهله المتنزهين في الغابة في هذا اليوم الجميل. أما قريبي الثاني فكان أطول مني ، علق من ناحيته قائلاً
  لو عرفنا أين أهل الطفل لذهبنا لهم ، وطلبنا منهم الحضور للاعتذار لك ، لا شك أنهم في أعماق الغابة ، وبين أشجارها الكثيفة ، وسمعت كلام المرأة تلك ، والتي تطوعت تحاول إجلاء الموقف ، فلم تنتبه لها ، فهيجانك غير مبرر ، أو أننا لم نكن سببه.
 
  لا أريد فلسفة ولم أطلب منك كلاماً ولا منه ، إنني أريد هذا ، ذاك الصامت المستحكم في ذاته ، إنه يعرف ما فعل ، وسوء النية ظاهر على وجهه والقلق ، وهذا ما يزيدني إصراراً على تحجيمه ، ليعرف كيف يتصرف أمام أمثالي إن بقي على قيد الحياة.
 
جذبني رفيقاي وأسرعنا نبتعد عن مكانه ، ظننا أنه لن يبتعد عن شاحنته ، توقف متأملاً إسراعنا في المشي منحدرين إلى موقع يبعد أكثر من مائتي متر عن مكان توقفه ، والغابة تغطي جبالاً ثلاثة ومساحات متباعدة من السهول والكثير من الأودية والشعاب ، فحين ابتعدنا انحدرنا عن المستوى الذي كنا نقف عنده أولاً ، فغابت الشاحنة عن عيوننا.

فزعت المرأة الشابة الأنيقة الجميلة ، استثيرت حاسة الأنثى في داخلها ، نادت ابنها وابنتها اللذين يقاربان عشر سنوات من العمر ، طلبت منهما البحث عن والدهما على عجل ، احتضنت الطفل الصغير الثالث وضمته إلى صدرها النافر ، صارت تجمع أغراض الرحلة بسرعة دون إرادة في تأسّ وقلق ، وكلما استنشقت هواء عميقاً علا صدرها العامر بالحليب والدفء ، أعادت القول لهما قبل أن يغيبا بعيداً : أبلغا والدكما أن علينا مغادرة المكان ، وحثتهما على سرعة العودة. جلس زوجها عند صديق قديم له ، يلعبان طاولة الزهر ، سرعان ما عاد الطفلان ليخبرا والدتهما أنّ أباهما سيحضر بعد عشر دقائق.

  عودا وقولا له أنني لا أستطيع ترك أغراضنا على طرف الشارع لأستعجله بنفسي ، إننا في غابة ، وهناك أمور لا نعلمها تجري بها ، ولا يمكن إيقافها. لم يبد على وجهي الطفلين أنهما فهما شيئاً مما قالته والدتهما ، لكنهما يطيعان كلامها ، فعادا يهرولان صوب موقع والدهما القريب.
 
توقفنا قليلاً ، فشاهدنا الرجل الأبيض جداً مستمراً في تقدمه صوبنا بخطى وئيدة متثاقلة وفي غرور ، لسنا أطفالاً كي نهرب ، وكبريائي وإحساسي ببراءتي تجعلانني أحس بتماسك عجيب ، وعزم أكيد على الصمود ، ولماذا لا أواجه الموقف بما يتطلب من جهد ، اقترب منا أكثر ، فقال لي
أنت حقير ، وأريدك أن تعترف بأنك مذنب وتافه لا تستحق الحياة ، وبعد اعترافك بخطئك عليك أن تعود لرفع الصفيحة عن الشارع ، أودّ التخلص من أمثالك ، ثم ماذا وضعت داخل الصفيحة لتضرّ شاحنتي أو تعطلها.

  ظنونك ليست في محلها ، وسأثبت لك أن الصفيحة فارغة ، وربما تقتنع أن رجلاً عاقلاً مثلي لا يفكر بالعبث بشارع عام ، أو بالتفكير بالإضرار بالناس.
 
أتجه مسرعاً صوب الصفيحة الفارغة ، أرفعها وأقلبها ثم ألقي بها ثانية بعيداً عن الشارع ، أدوس فوقها مرة واحدة لأثبت أنها فارغة فتزداد انطباقاً على بعضها ، تبعني ورأى ما فعلت ، وتبعني أيضاً وأنا أعود لرفيقي عند المنحدر، لكنه قال لي ببرود
  قلت لك أنك مخطئ وجبان. عيل صبري وثارت حميتي فخاطبته بعصبية
  كفى أيها الأحمق ، لا أهتم بك ولا بحديثك الاستعدائي ، لا ولا برغبتك في الخصام ، وإن تقدمت خطوة واحدة صوبي ، سأحطم رأسك بأي حجر تقع عليه يدي في الغابة.
 
تضطرب الرؤيا في عيني ، أتذكر كلام ابنتي عن الزلزال ، تميد الأرض بي وبصاحبي ، تتعانق أغصان الأشجار وتتباعد ، يزوغ بصري مشرقاً مغرباً ، زلزال حقيقي يهز أرض الغابة المتنزه تحت قدمي. يخاطبني مشيراً بيده صوبي وباشمئزاز
  أريد أن تفهم أنك إنسان ضعيف وجبان ، وعليك أن تعترف بذنبك ، لكنك تصرّ على الموت ، وقد أصبحت أكثر إصراراً على كرهك.
أراه أنساناً عادياً يرتدي قميصاً أبيض مقلماً ، ليس ضخم الجثة ولا رياضياً ، يغلب على وجهه ملامح ثعلبية ، كأنه يعاني شيئاً من التخدير أو اضطراب في النظر ، يواصل مخاطبته لي
  - ألا تخشاني؟ ألا تريد أن تعرف أهميتي ؟
  - نحن في هذه الغابة للعيش والتنزه واستنشاق الهواء النقي ، ولعلنا نلمح وجه امرأة جميلة تشرح صدورنا ، ولسنا بحاجة إلى قلق أو فزع أو خنوع.
 
  إنك تسخر من جديتي ، وتحاول أن تشغلني ، أو انك تعبث بعقلي ، وقد أخرتني كثيراً.
 
صمدت ولم أتحرك من مكاني أثناء تقدمه ، ناجيت الأرض بعيني ، وتناولت حجراً مسنناً يزيد في وزنه عن كيلو غرام. لم يوقفه تحفزي ، وواصل تقدمه ، نصحني بألا ألقي الحجر، وقد أصبح على مسافة أمتار قليلة مني ، وبعد أن وصلني أمسك بكتفي وأنا أشد على الحجر بقوة ، وعضلات ذراعاي تتصلب وتشتد ، استعداداً لقفزة كبيرة للخلف مبتعداً عن يديه ، لا شك أنه أقوى مني وأكثر وزناً ، لكن خفة حركتي ومعرفتي بأرضي وما عليها يمنحني ميزة تزيد من ثقتي بنفسي. قال لي مهدداً
  _ اعتذر وأرح نفسك ، هل تريد السلامة أم الموت؟
نظرت له فلم أجد سبباً يجعلني أحس أنه قادر على إماتتي ، فقلت له
  قلت لك ابتعد عني ، ولا أحترم أمثالك ، إنك لا تعي ما تقول.
 
مد يده الأخرى بتثاقل إنسان مخدر إلى جيب قميصه على صدره ، فأخرج شبه علبة مطوية ، فتحها فإذا بها مسدس غريب عجيب لم ألمح مثله ، وفيه إضافات أخرى لم أسمع عنها من قبل ، وكانت نصل سكين مطوية متصلة به ، سألني هل تريد أن تموت بهدوء وبلا حركة واحدة؟ ألمح خطفاً قريبيّ متجمدين ، يحسان بالخطر الحقيقي في الغابة ، بعيداً عن أعين الناس ، فقدا كل قدرة على الحركة أو النطق ، وأحسست أنا الآخر بالخطر الحقيقي أمام عيني ، لكنني ازددت تماسكاً ، وانقلبت إلى إنسان جديد ، لم يسقط الحجر من يدي ، بل أحسست أن أصابعي تؤلمني ، وأطرافه المسننة بدأت تنغرز في لحم أصابعي وكفّي ، أبتسم للرجل ، وبثبات دون تردد أقول له
  حضرت للغابة للتنزه والعيش ، ولا أريد الموت ، وكل ما أستطيع قوله لك هو أنني سأتوقف عن الكلام ، ولا أريد أن أحاول إغضابك ، وقد أبعدت الصفيحة عن طريقك ، فهلا شاركتنا بعض ما نحمل من طعام وشراب؟
 
كاد يبتسم باستهزاء ، بدا عليه شيء من الغرور والرضى ، ثم قال
  هذه غابة للحيوانات ، هل أنتم ذئاب أم كلاب؟ أدار ظهره وبدأ يبتعد وهو يعيد طي العلبة المسدس ، ويدخلها في جيب قميصه ، يجر قدميه بتثاقل وببطء ، إلا رأسه فتتحرك شمالاً ويميناً ، لا يرى شاحنته ، ولا يدري أين أوقفها ، حاول أن يهرول كالهارب الهائم لكل جهة ، لا يدري أي اتجاه يسير ، جرى مبتعداً كالضال ، متسائلاً صائحاً بصوت عال ومتكرر ، كانت نداءاته تشي بالتفجع والرجاء : أين أوقفت شاحنتي؟ أين شاحنتي؟
رالي في 20/3/ 2004

نازك ضمرة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى