الأربعاء ١٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٣
بقلم رجاء بن سلامة

فتاوى تزرع الموت

وأحياء يلتفّون بالأكفان

 المفتي الرّسميّ الذي لم يتردّد ولم تطرف له عين، عندما أفتى بتحريم نقل الأعضاء البشرية للمرضى يجب أن يتحمّل تبعات العمل بفتواه في بلاده أو في البلاد الإسلاميّة الأخرى. معنى ذلك أنّنا يجب أن نحمّله دماء كلّ المرضى الذين كان بالإمكان إسعافهم بنقل كُلْية إليهم أو قلب أو غير ذلك، لولا هذه الفتوى التي يمكن أن توصف لذلك بأنّها إجراميّة.

ويجب أن نضع في اعتبارنا أنّ من هؤلاء المرضى من هم أطفال أو شبّان لم ينعموا بعد بطول الحياة التي لا شكّ أنّ الشّيخ المفتي قد نعم بها. ويجب أن نتذكّر أنّ هناك قوانين راقية تبيح للحيّ أن يقرّر التّبرّع بأعضائه عند موته لإنقاذ حياة الأحياء الذين سيكونون في حاجة إليها. القوانين الرّاقية تحثّ على الرّحمة والكرم والتّخلّص من الأنانيّة والنّرجسيّة التي تصوّر جسد الإنسان حصنا صلبا لا ثلمة فيه.

  استند المفتي في فتواه إلى أنّ "جسد الانسان هبة من اللة، ولا يجوز لأي كائن من كان التصرف فيه، سواء بالنقل منه أو اليه". ولنسلّم بما سلّم به لنسأله : طبقا لهذه المقدّمات، وطبقا للمنطق الفقهيّ الذي ينبني على القياس وإخضاع الخاصّ إلى العام، وإذا كان لا يجوز نقل الأعضاء ولا يجوز التّصرّف في الأجساد، فلماذا لا يحرّم أيضا نقل الدّم والتّبرّع به ؟ ولماذا لا يحرّم كلّ عمليّة جراحيّة باعتبارها "تصرّفا" في الأجساد؟

واستنادا لهذه المقدّمات ذاتها، لماذا لم يفت الشّيخ بتحريم ختان البنات، وهو اعتداء على الحرمة الجسديّة للأطفال تدينه المواثيق الدّوليّة وتؤكّد كلّ الدّراسات الطّبّيّة والنّفسيّة والاجتماعيّة أنّه يؤدّي إلى معاناة دائمة لدى ضحاياه؟ لماذا لا يستند إلى عدم وجود نصّ قرآنيّ يأمر بهذه العادة البدائيّة لمساعدة ناشطي حقوق الإنسان والمهتمّين بالصّحّة على مقاومة آفات هذا التّشويه الوحشيّ للأجساد الأنثويّة؟

 مشايخنا لا يحرّمون ختان البنات بل يحرّمون نقل الأعضاء. ويبيحون قتل الزّوج زوجته إذا اكتشف أنّ لها علاقة مع رجل آخر، ولا يقولون بحقّ الإنسان في اختيار معتقده وفي تغييره بل يقولون بـ"قتل المرتدّ"، ولا يدين الكثير منهم العمليّات الانتحاريّة الإرهابيّة... لسبب بسيط هو أنّهم لا يدافعون عن الحياة بل يوزّعون الأكفان ويدعون إلى إماتة الأجساد. أصبحنا نعرف سلالتهم : إنّهم منحدرون من سلالة قتلة الحلاّج والسّهرورديّ ومحرقي كتب ابن رشد ومكفّري الفلاسفة والأدباء... إلاّ أنّهم أكثر عنفا وقسوة لأنّهم يسدّون أبواب الحرّيّة في عصر انفتحت فيه كلّ الأبواب، وهم أكثر عنفا وقسوة لأنّهم أكثر اعتدادا بأنفسهم من شيوخ الأمس: شيوخ الأمس كانوا يقولون : "واللّه أعلم"، أمّا شيوخ اليوم فهم آلات إفتاء في كلّ شيء.

 لا يوجد بشر له حقّ إلهيّ في النّطق بالحقّ، وفي الكلام باسم اللّه والوصاية على النّصوص المقدّسة، ولا يوجد أيّ بشر يمكن أن يتّخذ ذاته الفرديّة مصدرا للتّشريع. سقطت أقنعة رجال الكنيسة منذ قرون، وبدت للعيان بشريّة ما أوهموا النّاس بأنّه إلهيّ وتبدّدت أساطيرهم وصكوك غفرانهم، واليوم تسقط أقنعة هؤلاء الشّيوخ الذين ينظّمون الجنون القداسيّ الإسلامويّ في أبشع صوره.

ليوقف شيوخ الإفتاء ألعابهم البهلوانيّة بالآيات يستدلّون بها كما يريدون على ما يريدون وليلزموا بيوتهم للعبادة إن كانت تهمّهم فعلا أمور الدّين والآخرة، أو ليملأوا محاربهم بالحثّ على الرّحمة والمساواة عوض بثّ الأحقاد وتكريس اللاّمساواة.

وليتخفّف المثقّفون إذن من خشوعهم في معاملة هؤلاء الشّيوخ وما اتّخذوه من كنائس ومحاكم تفتيش ومصادرة، وليتحلّلوا من إغداق ألقاب "سماحة الشّيخ" على من ليسوا من السّماحة والتّسامح في شيء و"فضيلة الشّيخ" لمن لا فضيلة لهم سوى التّكفير والتّـأثيم والتّفسيق، وليطالبوا الحكومات والبرلمنات العربيّة بتجريم التّكفير وبمحاكمة المحرّضين على القتل مهما كان مركزهم ومهما كانت وظيفتهم.

 لايوجد "إسلاميّون معتدلون"، بل يوجد مسلمون قد تخلّصوا من ربقة الفقهاء ونجوا بأنفسهم خارج دائرة الجنون الدّينيّ المنظّم، وأدركوا ضرورة الوعي بالتّاريخ ولم يروا غضاضة في المطالبة بالمساواة في الإرث والشّهادة بين النّساء والرّجال، ولم يخرجوا لنا بحجّة "النصّ الصّريح" وكأنّهم أوصياء على كلام اللّه، ولم ينسوا الرّحمة والتّرحّم على أرواح ضحايا العادات والمسلّمات الوحشيّة . أمّا الشّيوخ ووعّاظ الفضائيّات العربيّة الذين يوصفون بالاعتدال، فإنّهم ليسوا معتدلين إلاّ في نغمة الصّوت، أو في ارتداء اللّباس الغربيّ، أو في مخاطبتهم الجماهير بألطف العبارات أو في تلطيفهم بعض الأحكام. بين "شيوخ التّكفير" والشّيوخ "الفضائيّين" الموصوفين بالاعتدال لا توجد نقلة نوعيّة. لأنّ النّقلة النّوعيّة هي التي تجعلهم يتخلّون عن زجّ أنفسهم في كلّ صغيرة وكبيرة، وتجعلهم يعتبرون الدّين تجربة شخصيّة تهمّ الإنسان فيما بينه وبين ربّه، وهو ما يلغي دورهم كشيوخ يفتون في العلاقات الزّوجيّة وفي السّياسة الدّاخليّة والخارجيّة وفي الاقتصاد والطّبّ والعلوم...

ليس هؤلاء الإسلاميّون معتدلين إلاّ لمن يرضى بالقليل، ويقنع بالبؤس، لمن له روح متسوّل يطلب فتات خبز ولا يطالب بحقّه وحقّ الجميع في الحياة الكريمة.

 في مراسم توزيع الأكفان التي يضطلع بها المفتون، للنّساء أضعاف نصيب الرّجال، خلافا لما يسير عليه الفقه في أمور الأهليّة والميراث...

فالحجاب هو الكفن الذي يريد المفتون أن تلتفّ به النّساء لكي يدفعن ثمن خروجهنّ من خدورهنّ وسجونهنّ.

كلّما رأيت رؤوس المحجّبات التي أصبحت تملأ شوارع مدننا، تذكّرت الأكفان البيضاء. تذكّرت جثث أقاربي الباردة التي انحنيت لتقبيلها لآخر مرّة، بعد أن غسّلت وسترت شعورها ولم يبق منها ظاهرا إلاّ الوجه والكفّان، تماما كما لم يبق ظاهرا من أجساد المحجّبات المكفّنات سوى الوجه والكفّان.

لا يخيفني الموت، فكلّنا مائتون، وكلّنا إلى تراب أو رماد، إنّما تخيفني مشاهد الأحياء الذين يلتفّون بالأكفان ويحاكون الموتى ويطلبون الانتحار، ويخيفني موزّعو الأكفان المتّجرون بفقر الآخرين وبؤسهم وشعورهم بالهوان.

 خرجنا من خدورنا ولا نريد العودة إليها، ولا نريد العودة إلى ما يرمز إليها : النّقاب والبرقع والحجاب والخمار وكلّ ما يجعلنا مجرّد حرمات وعورات وآلات فتنة وغواية. ولا نريد شيوخا ولا مفتين، بل نريد مواطنين ومواطنات، ولا نريد فتاوى بل نريد تشريعات مدنيّة متطوّرة تضمن المساواة والكرامة للجميع، ولا نريد علماء ينصحون السّلاطين ولا نريد حتّى علماء يفتون بعدم اتّباع السّلاطين، بل نريد مؤسّسات برلمانيّة وأحزابا سياسيّة حقيقيّة وجمعيّات غير حكوميّة مستقلّة، نريد مجتمعات مدنيّة تمثّل السّلطة التي تحدّ من السّلطة، السّلطة التي تحدّ من المتعة الجنونيّة بالسّلطة. نريد كلّ هذا لكي نكفّ عن إذلال أنفسنا بأنفسنا واستعمار أنفسنا بأنفسنا.

وأحياء يلتفّون بالأكفان

مشاركة منتدى

  • تحية عربية وبعد :

    الحقيقة أنني لم أفهم كيف يكون اسم الكاتبة الفاضلة رجاء بن سلامة فبالإضافة إلى أن اسم رجاء اسم مشترك فقد جاءت كلمة ابن لتربكني تماما وتجعلني حائرا أمام هذا الإسم الغريب لامرأة فإذا كانت رجاء امرأه فلماذا لا تكون بنت سلامة ؟

    بعد قراءتي للمقال فهمت معنى القول المشهور "لكل من اسمه نصيب " ولماذا تصر السيدة رجاء على أنها ابن سلامة فهي على ما يبدو مصرة على المساواة مع الرجال حتى بالاسم فهي ترفض كل ما يذكرها بأنها امرأة حتى اسمها .

    هذه الأفكار التي كتبت حولها السيدة رجاء ليست جديدة وهي موضة تنتشر حاليا على الإنترنيت بشكل كبير وقد كنت قرأت الكثير منها لكاتب مصري يعيش في أمريكا لا أريد ذكر اسمه , وكأنني بالسيدة رجاء تنقل عنه حرفيا أو كأنني به ينقل عنها حرفيا وقد برز هذا التيار بعد غزو العراق بشكل يدعو إلى التساؤل عن من يقف وراءه, فمن الغريب أن تتفق أفكار كل هؤلاء على هذا الهجوم الغريب على ثوابت الإسلام مستغلة أخطاء علماء السلطة ومشايخ الذهب والفضة وكره الحماهير العربية لهم لتهاجم اصول الدين والقرآن والحديث وكل التراث الإسلامي بذنوب اقترفها هؤلاء المنسوبون للإسلام من أشباه العلماء الذين يقول عنهم الإسلام نفسه أنهم أول من ستسعر به النار يوم القيامة . ولكنني أعتقد أن كل هذا التعب سيذهب أدراج الرياح لأن القارئ العربي أوعى من أن يستدرج بسبب أخطاء علماء السوء هؤلاء إلى كره الإسلام والحديث الشريف والرسول والله تعالى .

    أخيرا أنصح السيدة رجاء (إن لم تكن متزوجة أو إن كانت ترى تعدد الأزواج للنساء مساواة بالرجال فهذه هي الخطوة التالية المنطقية لطلاب المساواة) أنصحها بالزواج من الكاتب المصري المذكور (وأنا على استعداد لإعطائها عنوانه واسمه) عسى أن يرزقا بطفل يكون على يده هدم الإسلام وإلغاؤه من حياتنا تماما فيحصل لهما المراد ويعيشان في هناء وسرور يتمتعان بلذائذ الدنيا دون رقيب ولا حسيب ولا شرع ولا دين يغوصان في المحرمات واللذائذ برعاية السيد بوش وسادته اليهود ومن سيخلفه كرئيس للعالم القادم الذي لا يعترف بدين ولا بإله .

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى