الاثنين ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥
بقلم عصام شرتح

فضاء المتخيل الشعري في شعر علي جعفر العلاق

البحث:

إن الشعر لعبة الإبداع، أو ألعوبة الإبداع، وهو فن منطوق اللغة جمالياً، وفضاء تخييلياً مغامراً أو مراوداً لما هو سائد، ومفاجئاً لما يمكن أن يتوقع؛" وهكذا يصير شرط الإبداع تجاوز المألوف والسائد بخلق فضاءات جديدة داخل الجنس الأدبي، وتوسيع وتطوير لكل عناصره القابلة للتطوير والتوسيع، وبذلك يصبح تاريخ الأدب هو تلك السلسلة المترابطة الحلقات لتواصل الأجناس الأدبية وتكاملها وإلغائها لبعضها البعض واستمرار بعضها في البعض الآخر"( ). وتبعاً لهذا، يعد الشعر فن التلاعب بالمتخيلات الشعرية وفق منظورات الإبداع ومستحدثاتها الفنية، وإفرازاتها الجمالية؛ وبناءً على هذا ، يمكن أن نعرف" المتخيل" :" بأنه مجموعة من العلاقات . والمتخيل- هنا- يكون مرادفاً لمفهوم النص ومفهوم الخطاب. لأن النص الأدبي يتكون من مجموعة من العلامات ( الرموز اللغوية) تنتظمها بنية فنية، وذلك بالتعبير عن واقع معين"( ). والمتخيل الشعري- ليس وليد تبئير الرؤى وتعميقها فحسب، بل هو إنتاج لهذه الرؤى بربطها بالواقع كمعطى موضوعي يتجسد، ويتشكل عبر المتخيل ، ويكتسب دلالات جديدة- حسب حسين خمري- بمقاربة المتخيل من حيث هو دلالة. ودلالة هذا المتخيل هي حتماً دلالة الواقع لأنه مرتبط به عضوياً( ). وتبعاً لهذا؛ فـ"المتخيل بوصفه خطاباً حول الواقع، ويتمفصل على عدة مستويات في هذا الواقع؛ فإنه- في حقيقة الأمر- عبارة عن بناءات لغوية. هذه البناءات اللغوية تحاول قدر الإمكان احتواء الواقع أو محاكاته أو التعبير عنه.. وبما أن اللغة تكتسب بالعرف والممارسة والمعرفة بقواعد توليد الدلالة ، وتوجيهها توجيهاً معيناً؛ فإن معرفة الواقع تتطلب معرفة اللغة؛ ويصير امتلاك أسرار اللغة هو امتلاك لخبايا العالم. هذه القضية تبرز علاقة اللغة بالواقع، إذ إن اللغة دون مرجعية واقعية تصير لغة تجريدية صورية، كما أن الواقع دون الاعتماد على لغة التخاطب والتواصل يصير واقعاً أخرس عاجزاً عن التواصل ونقل معارفه وتجاربه"( ).
وبهذا التصور؛ فإن المتخيل الشعري يفتح مداليل الجملة الشعرية، لتخلق تصورها، وإبداعها بالتئامها بالنسق اللغوي التشكيلي المناسب؛ يقول هوبرت ريد:" في الجملة الشعرية تلتئم كل كلمة، وكل لحظة تفكير ؛وليس فقط الصفة، مع العمل الكلي وتجدده"( ). وهذا ما يمنح الجملة الشعرية خصوصيتها في التخييل والتركيب الجمالي؛ وتبعاً لهذا؛ فـ" النص الشعري بمثابة بصلة ضخمة لا ينتهي تقشيرها؛ وإن السياق العام ومساق النص لا أهمية لهما في التأويل؛ لأن المقصود ليس الوصول إلى حقيقة ما يتحدث عنه النص، وإنما الهدف تحقيق المتعة"( ). والمتعة لا تأتي إلا من خلال بداعة المتخيل الشعري أفقاً إبداعياً متنامياً على الدوام.

وبهذا التصور- يمكن القول:" إن العلاقة بين المتخيل/ والواقع لم تحسم بعد، إذ إن الإدراك الجمالي للواقع يثمر معرفة جمالية بهذا الواقع. ومن هنا، تصير علاقة المتخيل بالواقع علاقة جمالية ، وتصير وظيفة الفن أو (الأدب) هي الوصول إلى حالة من التناغم والانسجام"( ).

وبما أن االنص المبدع هو محصلة تفاعل المتخيلات الشعرية وفق مظهر صوتي مشعرن أو مقولب بقوالب ثابتة مثيرة، فإن ما يحفز اللغة الشعرية أنها فضاءات متخيلة أولاً؛ وإيحاءات نصية مموسقة ثانياً، ورؤيا تبئيرية عامة ثالثاً؛ وتبعاً لهذا يمكن أن نعد" التنميط الصوتي المنظم بطريقة خاصة هو البعد الشعري الذي يفصل بأقصى درجات الوضوح الشعر عن اللاشعر. إن التماثل والقافية بعتمد كلاهما على تكرار الأصوات المتشابهة. إن البنية الصوتية في اللغة العادية تكون إخبارية محايدة ؛أما في لغة الشعر فتتفاعل مستويات الصوت والمعنى، وهذا يمكن أن يأخذ شكل نظام الصوت المدعم للمستوى المعجمي أو شكل الدخول في صراع مع هذا النظام، هذه العملية الدلالية للفونيمات خاصة بالعمل الفني المعين"( ).

وبمنزع قريب من هذا التصور، يقول ( مالكم براد بري/ وجيمس ماكفارلن) فيما يخص علاقة الشعر بالمتخيل ما يلي:" إن صناعة الشعر تقترب من فكرة ( باوند) عن (اللاتوبيا) التي تعني" رقصة الفكر بين الكلمات. وهكذا تصبح القصيدة تعني تغيير ما هو اعتباطي إلى ما هو ضروري"( ). وبهذا يضع باوند قدميه على ناصية الإبداع الحقيقي أو جوهر الشعرية؛ وهو إبراز ما هو ضروري ومثير شعرياً وإخفاء ما هو دون ذلك.

وتكمن مهارة الشاعر، وتسمو درجة شعريته بمقدار فاعلية المتخيلات الشعرية ، جسارة وعمقاً وابتكاراً في تخليقها الفني؛ لتصير علامة من علامات شعرية القصيدة ،وتوهجها إبداعياً؛ فالشاعر لا يكون شاعراً باللغة فحسب؛ وإنما بالمتخيلات العميقة، والفضاءات المراوغة التي يرتادها ، ويخلق فيها ألق الرؤية، وجوهر اتقادها؛ يقول مالارميه:" الأثر الإبداعي الصافي يفرض اختفاء صوت الشاعر وترك المبادرة للكلمات؛ ويقطع تماماً كل صله له بالمناسبة"( ). وهذا دليل أن الشكل يرتفع بالمتخيلات الشعرية؛ فالأثر الإبداعي الخالد هو أثر متوهج في الرؤية، ومتمايز في الشكل؛ يقول حسين خمري:" ليس بالحتمي ولا الضروري أن يكون الشكل والمحتوى- أو البنية والدلالة- بقدر متساوٍ في الدلالة إلا إذا خضع لهندسة تشكيلية، وجعل المحتوى شيئاً جاهزاً للانضواء داخل أي شكل تعبيري. فالشكل هو وظيفة لأنه يمكننا من طريقة عرض المحتوى والأساليب الفنية المرصودة، وذلك من لغة وتشكيل أدبي وبناء تعبيري وموقف من العالم. كما أنه- في الوقت ذاته- دلالة؛ لأنه يشير إلى تقاليد أدبية معينة، وإلى فترة تاريخية محددة؛ وإلى نموذج ثقافي وحضاري مخصوصين، وهكذا، فإن من يقف أمام تجديد الشكل الأدبي أو إعطائه الأهمية الكافية في التحليل والدراسة فإنه يعمل على كبح المضمون الأدبي وجعله أحادي الاتجاه وباهت الدلالة، ويخلق هوة بين مفهوم الأدب كتجديد لأساليب الاتصال، ونقل التجربة والمعرفة الإنسانيتين والأدب كمحفوظات وقائمة من المحتويات والوصفات التي يجب الالتزام بها، فالأدب يرفض النمذجة، خاصة إذا كانت رديئة أو دون مستوى تطلعات المجتمع وحاجاته الجمالية والتعبيرية"( ).

ومن هذا المنطلق ؛ فالشكل في العمل الأدبي الرفيع لا ينفصل عن المضمون، وإنما يكونان متحدين معاً كوجهي الورقة الواحدة حسب دي سوسير فكما لا يمكن عزل أحد وجهي الورقة عن بعضهما البعض لا يمكن عزل الشكل عن المضمون، ولا يمكن تصور الشعر دون فضاء المتخيلات الشعرية المراوغة المحلقة؛ ولهذا قال كوديل:" لا شيء يقوم من نفسه بل من علاقات لا تحصى مع كل الأشياء.. كل" جملة" هي أولاً بيان العلاقات، هي التوازن الذي نقيمه بيننا وبين الشيء، بين الذات والموضوع؛ إنها توازن التأثيرات التي نتعرض لها وننسبها إلينا، ولكن بإمكاننا أن نفعل أكثر من ذلك. فالكلمة ليست فقط صيغة الشيء، بل هي أيضاً صورة عنه كالعارف بهذا الشيء. فعندما أضع" الكلب" في فكري فإني أعدل في الحال، وأرتب الصور والانطباعات المختلفة المتعلقة عندي بهذا الحيوان؛ وعندما أقول" الكلب ينبح" فإن الكلب الموجود في ذهني هو الذي ينبح، الكلب الذي يمنحني قوة الفاعل، أكرر الفعل باختصار فأصبح أنا الكاتب والممثل"( ).

ومن هذا المنطلق؛ يؤكد الناقد علي جعفر العلاق أنه:" إذا كان الشكل الشعري يمثل خطوة أولى في الجهد الشعري غالباً فإنه جزئي في معظم الأحيان، فهو قد يظل تجسيدات مبعثرة، أو متجاورة؛ وكيانات لفظية تتكئ على بعضها البعض، لكنها لا ترقى إلى شمولية البناء، لأن البناء نشاط تنظيمي شامل يضع وحدات الشكل وعناصره في سياق من الحركة المترابطة، أي أنه ينتقل بكل عنصر منها من العزلة إلى العلاقة، ومن التجاور إلى الاندغام... إن الشكل الشعري لا يستمد وجوده إلا من عناصر مادية تشكل المستوى المحسوس للنص: كلماته ، صوره ، إيقاعاته ، صياغته اللغوية؛ إنه يمارس نشاطه في الطبقات المادية، ولا أقول الخارجية للنص، بعيداً عن قراره العميق النائي؛ وبذلك فهو يختلف عن البناء الذي هو هندسة داخلية، شديدة التخفي، تربط بين وحدات النص الشعري، وأنسجته، وتضعها جميعاً في اتجاه تتنامى فيه حتى نهاية القصيدة. إنه ثانياً، جهد تنظيمي يخطط لعناصر النص اتجاهها ، وطريقة حركتها، ومستوى التفاعل بينها للوصول بها إلى أقصى تأثير ممكن. وفي الوقت الذي يفصح فيه الشكل عن نفسه على المستوى المادي للنص فإن البناء لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى انجاز ما يدعوه رينيه ويلك" الشكل الداخلي للنص" هذا الشكل الذي يحتضن " الاتجاهات السايكولوجية والفلسفية، وقد جمعت حول مركز واحد مفترض، أي أن البناء نشاط ينظم بخفاء ممتع، عناصر النص وحركته الداخلية معاً: جسد النص وما يتفجر عنه من حيوية روحية وجمالية"( ).

إن هذا الوعي الإدراكي الذي يملكه الناقد علي جعفر العلاق بشأن العلاقة بين الشكل والمضمون لدليل على خبرة معرفية بأهمية التلاحم بينهما في خلق الشعرية؛ فلا شعرية للشكل بمعزل عن المضمون ، ولا شعرية للمضمون بمعزل عن الشكل ؛ فكلاهما متلاحمان في كيمياء الوظيفة الشعرية، وخلق مثيراتها الجمالية؛ وهذا القول يضعنا على جوهر الرؤية الفنية لفضاء المتخيل الشعري، الذي نقصد به: كل ما تجول به نفس الشاعر من رؤى وتأملات جديدة في حيز علاقة الشاعر بالعالم والواقع المحيط؛ يقول فاضل العزاوي:" إن ولوج منطقة الشعر أشبه ما يكون بولوج مدينة أسطورية مسحورة غامضة؛ ؛كل شيء يكتسب براءته خارج المعرفة المسبقة مع وعي وجود قوة حلمية تسيطر على المدينة المقيدة إلى الأبد().

ويتابع العزاوي قائلاً:" إننا نكتب الشعر لأنه يمثل نوعاً من الخلاص بالنسبة لنا، فالخلاص الحقيقي غير ممكن؛ وكل بحث عن الخلاص ليس أكثر من بحث ميتافيزيقي فارغ. إننا نكتب الشعر من خلال صبوة الروح للتماس مع الحقيقة التي تعذب كياننا. وتبدل لون دمائنا. في الشعر نحاول منح أجسادنا الكثافة، واكتشاف طرق أخرى تقودنا إلى الله. إن ممر الشعر إلى الحقيقة ليس ممراً للكيمياء أو الفيزياء أو الرياضيات، أو الفلسفة؛ إنه ممر يوجد بسبب ظلال كل هذه الأشياء مجتمعة. في ممر الشعر تتوحد كل الأشياء والأفكار والهموم والتطلعات في جوهر واحد يشكل مادة الشعر"( ).
والنص الخلاق المبدع إن لم يكن متوهجاً بالتخييل، وفضاء المتخيل الشعري البعيد والنائي عن القارئ لا يخلق لذته، ولا يبني إثارته، يقول محمد الجزائري:" النص الخلاق، هو الذي يمنح المتلقي"اللذة" ؛ وهي ليست " لذة افتعال"؛ بل علاقة متشابكة ومعقدة؛ وحصيلة مدركات القراءة، والمكتسب المعرفي والحياتي ، وثقافة الحواس... فأي خطاب يخلو من " فن" يتجه بسهمه خارج منطقة الإبداع"( ).

وتبعاً لهذا؛ تتحدد فاعلية النصوص الشعرية بمقدار حيازتها على النسج اللغوي المثير، والمنتوج التخييلي المبدع، والنبض الشعوري الوهاج الذي يستثير أروع الصور، وينكش ما خفي من قرارة عمق الذات من تأملات واستبطانات شعورية عميقة.

فالقارئ الحساس- دون أدنى شك- يلحظ غنى الفضاء التخييلي عند علي جعفر العلاق؛ ودليلنا أن خصوبة الكثير من أشعاره تعود في جزء كبير منها إلى الجانب التخييلي المؤسطر؛ فاستغلال العلاق- كما هو حال أقرانه من الشعراء العراقيين للأساطير أغنى فضاء متخيلاته الشعرية بالمؤثرات المثيولوجية التي ضاعفت من فاعلية هذه المتخيلات، وأكسبتها عمقاً وخصوبة ورؤىً وتأملات في الحياة، حفَّزت قصائده على المستويين الرؤيوي والدلالي في آن.
ومن تدقيقنا في المحفزات التي تثيرها المتخيلات الشعرية عند علي جعفر العلاق ، خلصنا إلى أبرزها إثارة واستقطاباً جمالياً، كما في المتخيلات التالية:

1- جمالية المتخيل الأسطوري :

ونقصد بـ[ جمالية المتخيل الأسطوري] : جمالية الحدث الشعري الذي ينبني عليه المتخيل الأسطوري من حيث، العمق ،والامتداد، والكثافة والإيحاء؛ وتبعاً لهذا، يمتاز هذا المنزع في المتخيل الشعري بالاعتماد على ما تبثه الأساطير من رؤىً ودلالات في تعميق المغزى وإنتاج الدلالات؛ يقول الناقد عبد الملك مرتاض:" إذا كان الخطاب الفني هو أداة من أدوات التعبير ووسيلة من وسائل التوصيل؛ وهيكلاً لاحتمال المضمون؛ ومظهراً من مظاهر الوعي الفني والأيديولوجي والديني، فإن الحدث يعد، في حقيقة الأمر، هو المادة التي تتشكل منها اللغة الفنية ( الخطاب) ،بل هو المحور الذي من حوله تضطرب، والدعامة التي عليها تنهض، فالحدث هو أصل كل فعل، من تاريخ، وأسطورة ، وقصة، وحكاية، وما شئت من مظاهر الوعي التي تجسدها اللغة العامة، أو الخطاب الفني الذي يتميز به كل إبداع فذ ، ويميز نتيجة لذلك؛ كل جنس من الأجناس الأدبية"( ).

فالحدث الأسطوري الشائق هو ما يمنح النص الشعري خصوصيته الجمالية، وطالما أن الرؤيا أو الحدث الأسطوري رؤيا في الجوهر أو العمق فإن ما يثير الحدث الأسطوري في الشعر هو تفاعل الحدث مع جوهر الرؤيا لاستقطاب المردود الفني للمغزى الشعري ؛ وهذا دليل:" أن أهم ما يميز الحدث الأسطوري عن الحدث السردي العام الذي نصادفه في الأجناس السردية الأخرى؛ هو التهويل وطلب الخوارق، والتغريب ونشدان العجائب، وكل ما من شأنه الخروج عن مدى الحجا، والند عن مرمى العقل"( ).

ومن هذا المنطلق؛ تكمن قيمة الشعر جمالياً بمقدار انفساح الأفق التأملي والتحليق بوظيفة الفن الشعري عبر فضائه الشعوري العميق المتخيل، بالحدث الأسطوري الذي يمثل قيمة عليا في الوظيفة الشعرية:" فالفن في مجاله قيمة عليا؛ والفنان بصفته كفنان يخدم المطلق الذي لا يقبل مساومة ما لصالح أي مطلق آخر ، والشيء الذي يحدد نشاطه هو الجمال الذي يهدف الفنان في إطاره إلى أن ينتج عملاً"( ).

وما ينبغي الإشارة إليه أن الشاعر علي جعفر العلاق وظف الأساطير لتعميق فضاءات قصائده المتخيلة؛ لإبراز الحدث الشعري؛ وبلورة الرؤيا بمنطق شعوري عميق، أو استجرار عاطفي متناسق، لاستكناه عطاءات الأسطورة داخل النسق ومحفزاتها النصية؛ يقول الدكتور رجاء عيد :" الأسطورة توأم الشعر، فعودة الشعر إليها، إنما هو حنين الشعر لتراب طفولته؛ والأسطورة إذ تحتضنها القصيدة، فلكي تتحول في بنيتها طاقة خلاقة للأداء الشعري؛ حيث يتمثل فيها التراث الشعبي، والعقل الجمعي بصورة عضوية تؤطر موقف وقيم الإنسان تجاه الكون وتجاه تساؤلاته المتعددة"( ).
وتبعاً لهذا، تعد الأسطورة الأس الجمالي في المتخيل الشعري، خاصة عندما تكون الأسطورة مراوغة في حدثها الشعري- الأسطوري المجسد، لتكون عامل استثارة وجذب للمتلقي لتلقي النص تلقياً جمالياً؛ وهذا ما نلحظه في قول العلاق:

" من الذي أغرى
ذئابَ الريحْ؟!
من الذي أطعمَها
دماءَ أنكيدو؟
بأي عشبةٍ وعدتَنا؟
بأيما ضريحْ؟! "( ).

بداية ، نشير إلى أن فضاء المتخيل الشعري الذي تولده الأسطورة في قصائد علي جعفر العلاق- يتعدى حاجز المحدود إلى اللامحدود، بمعنى أن الأسطورة تتغلغل في المنظور الرؤيوي للقصيدة؛ لتمنحها أفقها التأملي المفتوح؛ وتعلي من ألقها الفني المتوهج ، وأسها الجمالي؛ إذ إن أثر الأسطورة جمالياً قد لا يتبدى إلا من خلال جمالية الرؤيا التي تثيرها الأسطورة ، لتمنحها دفقها ومتراس خصوبتها جمالياً وامتشاقها فنياً ، يقول أمبرتو إيكو " إن كل عمل فني، هو موضوع مفتوح على تذوق لا نهائي. لا لكي يكون هذا الفعل مجرد تعلة لتمارين ذاتية تراوح حولها مزاجيات اللحظة، ولكن لأن هذا العمل يتحدد في ذاته، بوصفه مصدراً لا ينفذ من التجارب، كلما تم تسليط الضوء عليه بكيفية متنوعة إلا وأعطى في كل مرة جانباً جديداً فيه"( ). وتعد الأسطورة من أبرز مثيرات انفتاح النصوص الشعرية الحداثية على التراث المثيولوجي القديم ؛ لمضاعفة مردودها الفني والرؤيوي في آن؛ شريطة" قدرة الفنان على الاستخدام الذكي، والانتقاء الفني الجيد لعناصر مؤمنة ورامزة في مادته الأسطورية . ليستطيع أن يخلق لوناً فنياً مستمداً من الامتداد التاريخي ؛ والبعد المثيولوجي لتجربته الشعرية"( ).
وبالنظر- في مغريات النسق الأسطوري في المقبوس الشعري- نلحظ أن الشاعر اعتمد التساؤلات المفتوحة المفضية إلى تكثيف دلالات الحدث الأسطوري التراجيدي الذي أحدثه الرمز الأسطوري " أنكيدو" ؛ وهذا ما أشار إليه الباحث محمد الجزائري في قوله:" وإذا كان غضب عشتار إزاء رفض كلكامش لها، كاد يودي إلى موته. وصديقه وخله" أنكيدو" من قبل" الثور السماوي" الذي سلطته عليه، من أجل أن تشفي غليلها انتقاماً.. فإن السنوات السبع العجاف التي تعرض لها شعب أرورك كانت عقوبة ومخاطرة نتيجة ردة فعل عشتار تلك وغضبها على كلكامش " حاكم أرورك"( ).
وبهذه الإشارة الأسطورية إلى البطل " أنكيدو" تتعزز دلالة الرؤية ، وتتضح أبعادها:[ من الذي أطعمها دماء أنكيدو؟ بأي عشبة وعدتنا.. بأيما ضريح؟!]. وكأن الشاعر يستجر القارئ إلى فضاء الأسطورة ؛ لأنه يعي ، بوصفه ناقداً أن الأسطورة إذا ما وظفت بشكلها الفني اللائق فإنها قادرة على تحفيز الرؤية وتعزيز مردودها ومدلولها الفني، وهذا ما نلحظه من خلال متابعتنا لنسق القصيدة:

" أنتَ الذي انكسرتَ فينا؟ أم كُسرنا فيكَ؟
أم كسَرتنا؟ أم أنتَ من أغرى
ذئابَ الريحْ؟
يا حزنَ أنكيدو، ويا
رداءهُ الجريحْ
لا عشبةً نلنا،
ولا ضريحْ... "( ).

إن هذه النداءات على لسان الشخصية الأسطورية؛ والاستدراج في تمليها بعمق هي أشبه بالنوح الذاتي إثر فراق الوطن؛ فكما أن أنكيدو فارق الحبيبة وعاش اغترابه الجريح المؤلم كذلك كان شأن الشاعر الذي فارق العراق وعاد غريباً عنها؛ ولعل قوله:" لا عشبة نلنا ولا ضريح". دليل تأزم واغتراب نفسي شعوري عميق عبر عنه من خلال الرمز الأسطوري، وجسده في نصه بمردود فني جديد؛ اعتمد فيه الحدث الأسطوري بوصفه رابطاً نصياً أو رؤيوياً يشد أواصر النص، ويعمق الرؤيا ومسارها الفني ؛ وهذا دليل" أن الأسطورة تنطلق من حيز حقيقي أو تاريخي، ثم لا تلبث أن تتعلق بحيز أسطوري يخرج بالأسطورة من العالم المرئي إلى العالم غير المرئي"( ).

وقد تتعمق إيحاءات المتخيلات الشعرية- في قصائد علي جعفر العلاق - بالنزوع الأسطوري ، هذا النزوع الذي يجعل قصائده ذات مماحكات تخييلية عميقة لا يرتادها إلا الشعراء العظام الذين ملكوا المخيلة الفذة؛ والجرأة على المراوغة، والارتياد، والكشف؛ إذ " تتمرأى نصوص علي جعفر العلاق الشعرية بكثير من الرموز والمسميات والشخصيات التي يستند عليها في خضم المكابدة اللاهثة لحمى السؤال وانهماراته. وكأن الشاعر علي بنية راسخة من أن يكون مجرد تلك التكوينات الرمزية ، وإن بالاسم- فإنه يشرع أفق التلقي على استحضار متون حكائية ملفعة بكثير من الاحتدام السلوكي والنفسي الذي انتهى بتلك الشخصيات التي ذكرها إلى مآلات جزئية من الأسى والقهر والانكسار الروحي الممض.. ولاستكمال الأبعاد الدرامية الضاربة في قسوتها فقد أخذ الشاعر تلك الشخصيات – أسطورية وتاريخية معاصرة- بكل ثقلها الدلالي، وألقى بها في أتون ما يعانيه وطنه وأهله، ليحملها أعباء ومكابدات مضافة إلى تلك التي قدر لها أن تواجهها في زمانها الذي وجدت فيه؛ ليستعيده راهناً، وتطرحه بين ثنايا هذا الخراب المحيق وتعيش في احتدام ذلك مأساتها مرات مكررة في أزمنة متعددة"( ).

ففي قصيدته( نار القرابين) يستلهم الشاعر الجو الأسطوري الملحمي ليكشف من خلاله الواقع العراقي المؤلم الراهن؛ ليخلق موازنة بين ما يقدمه العراق من قرابين في الماضي، وما يقدمه في ظل الواقع الراهن؛ وما أقسى أن يكون الوطن كله قرباناً؛ يقدم على طبق من ذهب إلى آلهة الظلم والقتل والتدمير؛ وهنا أخذ الشاعر يندب العراق بأسى جارح وحزن ممض كما في قوله:

" .. وطني
أيُّها الشجرُ النائحُ
إلى كم تناديكَ نارُ القرابينِ؟
كمْ ميتةً ستموتُ...؟
أيا حُلمي؛
أيُّها الشجنُ الجارحُ
أفي كلِّ عامٍ، إلى مذبحٍ من أسىً
ورمادٍ، يجرجرُ
أيامَكَ الذابحَ؟ "( ).

بداية، نشير إلى أن توظيف المتخيل الأسطوري- في قصائد علي جعفر العلاق- يعتمد الحراك التساؤلي ميداناً خصباً لتفعيل الحدث الأسطوري أو الرؤيا الأسطورية؛ خاصة تلكم الرؤى التي تمتزج بمنتوجات الأساطير الإغريقية القديمة؛ تلكم الأساطير التي تحفل باستجابات الآلهة وصراعاتها الدموية؛ وانتهاكاتها الشرسة؛ التي تمارس سطوتها الخارقة على الموجودات؛ لتقدم لها القرابين؛ وتراق الدماء إرضاء لهيمنتها وسطوتها المطلقة. لهذا، ينتفض العلاق في أسئلته لاكتناه أبعاد الرؤية واستجرار موحياتها العميقة؛ فوراء كل تساؤل انبلاج لرؤيا من حيز الرماد وانفتاح لأفق التأمل وتطلع للخلاص؛ حتى عن طريق الحبكة الأسطورية المراوغة التي يحايث فيها الواقع؛ أو يتمرد عليه إلى فضاء المتخيل الماورائي البعيد، مستعيناً بما يبثه السؤال من انفتاح معرفي واحتكام عقلي يحايث المنطق والحس الشعوري العميق ؛ يقول الدكتور علي حداد :" ومع يقيننا الذي لا نغادره إلى سواه في أن " النص الإبداعي" فاعلية من التأويل الشعوري، والتفاف الرؤية على قيمتها الفنية حتى لا انفصام ولا تفاوت بينهما فإننا نرى في السؤال عند " العلاق " نصاً داخل النص، بل لعله نص يزحزح منظومته التعبيرية؛ ليكون متفرداً بصداحه وانهماكه الانفعالي ، حتى بدا لنا أن مهمة النصوص عند الشاعر، وفي ديوانه ( ممالك ضائعة) و ( سيد الوحشتين) – هي تبني السؤال والتماهي مع منطوقه السادر في التياعه وأساه، في هذا الخضم المشتبك مع السؤال الذي لا جواب له، إذ هو جواب ذاته المستفيضة باحتدامها. وبذا فقد صار يقيناً لدينا أن ننظر إلى الديوانيين فنقرأهما على حد واحد من التأمل والاستنطاق، لنراهما وثيقة شعرية متراصة تداولت مستويات الفجائع العراقية، منذ الحروب ذات المسميات المتلاحقة ، مروراً بالحصار الذي طال كل شيء عراقي، ووقوفاً عند الاحتلال الآثم للوطن والعبث بهويته وتاريخه وتطلعات أبنائه"( ).

وبالنظر فيما تثيره الرؤى الأسطورية من متخيلات شعرية في المقبوس الشعري، نلحظ أن الشاعر اعتمد توظيف الحدث الأسطوري بخطى جمالية أسطورية يبرق من خلالها إحساسه الشعوري المحتدم، فما أصعب أن يندب الإنسان حريته المفقودة أو وطنه الذبيح الذي يقدم قرباناً لآلهة الدمار والخراب والقتل وإراقة الدماء. وهنا جاءت القصيدة محملة بعبق أسطوري من خلال المداليل التالية :" وطني .. أيها الشجر النائح إلى كم تناديك نار القرابين؟! ؛ وهذا يدلنا أن الشاعر علي جعفر العلاق قادر دوماً على استحداث المؤثرات الأسطورية في قصائده؛ لتشحن فضاءات متخيلاته الشعرية، بعمق الرؤى وتمركز الدلالات؛ وتبئيرها النصي، لتكون قصائده مسكونة بالأسطورة، أي قصيدته" تصنع أسطورتها الخاصة بعد أن تحررها من مرجعيتها الأولى؛ إن الشاعر يخرج الأسطورة من نصها الأصلي؛ ليدخلها في نصه هو: يمزق ثوبها البدائي الأول، ويباعد ما بين وحداتها النصية. وهكذا فنحن لا نجد أنفسنا أمام نص الأسطورة بل أمام أسطورة النص"( ).
ومن هذا المنطلق ، تعد القصيدة الأسطورة بؤرة حراك الدلالات؛ وكثافتها الإيحائية عند علي جعفر العلاق؛ بوصفها المحفز الأساس لإنتاج الشعرية؛ لتحقق غايتها الجمالية ؛ فالقصيدة –لديه- زحف إلى الممنوع والإيحائي والمباغت في الأسلوب النصي، واستقطار المتخيل الأسطوري ، كما في قوله:

" وكانَ النهارُ يصعدُ عذباً
من سواقي" أوروكَ".
يُلقي
لعشتارَ رداءَهُ
تتعالى غيمةٌ من سريرِها
الخصبِ
يعلو طائرٌ من ثيابها
كغزالٍ ،
أهو َكلكامشٌ؟ هتفتُ
فضجَّتْ أنهرٌ ثرةٌ، وفاضَ نهارٌ
والغيومُ تكسَّرتْ ، سالَ منها
الضوءُ والعنبرُ القديمُ..
غسَلنا خيلَنا بالحنينِ
أيُّ سريرٍ خضَّبَ الكونَ فجأةً؟
الأباريقُ طيورٌ
وغبطةٌ، والأغاني
تنضحُ الماءَ
كالجرارْ..
كلكامشُ،
أخي القديمَ، طائريَ القديم
كم بكيت
عليكَ ، كم ضعتُ
وكم أضعتُ
كم هدمتُ من مغارةٍ
سوداءَ، كم بنيتْ
فأينَ كنتَ؟
وفي عروقِِ أيِّ جرَّةٍ
قديمةٍ ، ومن هتافِ أي غيمةٍ
أتيتْ..؟"( ).

بداية، نشير إلى أن فضاء المتخيل الأسطوري- في قصائد العلاق- يعتمد الحراك التأملي والتبئير الرؤيوي الذي يرتكز على تبئير الحدث الأسطوري المؤسطر ، لتفعيل النسق الشعري ؛ وتعزيز مردوده الفني؛ فالعلاق يقتنص الحدث الأسطوري المثير الذي يباغت القارئ بالحيثيات الأسطورية من خلال التلاعب بطقوس الأسطورة وفق ما يرتئيه من منظورات معاصرة محايثة للواقع الآني؛ فالأسطورة ارتداد زمني في الحدث لإتمام كينونة الرؤية؛ وتعميق مغزاها؛ يقول محمد الجزائري:" إن حالة عشتار- كما يصفها كلكامش هي" الحب الأناني، الأثرة، الشهوة" إذ حاولت إغراء كلكامش؛ وكأنها عاشقة متيمة به"( ). لكن كلكامش رفض عشتار وأعلن قطيعته وممانعته وامتشاقه الذكوري.
وبالنظر – في مؤثرات النسق الأسطوري في المقبوس الشعري- نلحظ أن العلاق يستحضر أسطورة كلكامش وعشتار آلهة الخصوبة؛ فعشتار لم تجد في " تموز" كامل متعتها وخصوبتها وارتوائها المطلق، فتعلقت بكلكامش ، حيث:" أرادت بقوة تملكها أن تتزوج كلكامش،إذ أطاحت بتموز ودفعته إلى عالم الظلام عنوة، لكن كلكامس خلافاً لتموز ( الضعيف/ المسكين ) الذي هرب من الشياطين ولم يقدر على تحمل( سطوة عشتار) فقد رفض عشق عشتار هذا العشق المميت؛ إذ رأى ببصيرته، وانتعاش ذاكرته أن هذه الجميلة، لا تحبه للحب.. بل تريد تملكه ، بالزواج منه، لأنه يدرك أنها حين تقطف ثمرتها مع محبيها ، تترفع عليهم ثانية كإله- لتمسخهم ، أو تطردهم عن عالمها، لأنها لا تتماثل معهم ، فبين " الإلهي" و " البشري" سيبقى ثمة مسافة لا يلغيها ( عشتار) ، وهكذا ، الحب- عندها في مثل هذه الحالة- هو تملك أناني"( )؛ بهذا الإحساس والشعور جسد العلاق الأسطورة البابلية القديمة؛ بنبض جديد، معتمداً أسلوب التمثل الحواري الأسطوري؛ بمجاورة عميقة يستقرئ أبعادها القارئ من حيث بداعة تساؤلاتها العميقة التي تتغور العمق؛ كما في قوله:"فأين كنتُ؟! وفي عروقِ أيِّ جرةٍ قديمةٍ، ومن هتافِ أيِّ غيمةٍ أتيت" . وبهذا الأسلوب الحواري التساؤلي الكاشف يتغور العلاق حيز الحدث الشعري، لتعميق الرؤيا ومستتبعاتها النصية بأسئلة مفتوحة تترك إجابتها متجددة كتساؤلاتها اللامدركة في الحس والتأمل والكشف.

وما ينبغي الإشارة إليه: أن العلاق قد يعمد بفنية آسرة إلى عملية محايثة ومجاذبة نصية في توظيف الحدث الأسطوري، ليرصد من خلاله الواقع الدموي المأساوي الحالي الذي تعيشه العراق، من خلال ربط الحدث الآني بالماضوي بالمستقبلي، وفق مسار منفتح، ومحايث لهذا الزمن، كما في قوله:
" أينَ أوروكُ؟!

لا المركب تزهو،
لا رماةٌ
على القلاعِ تناءتْ
جثثٌ في المياهِ،
حبرٌ يصلي؛
وبقايا قيثارةٍ
تتلوى :
كم مريرٌ خرابكِ
اليومَ؛ كم كانَ
مريراً هواكِ بالأمس!
كانت مركباتُ التتار
تعوي، الأباتشي ظلمةٌ
تأكلُ القلوبَ...
أكانت شمس أوروكَ
جذعةٌ؟
أيكونُ الموتُ يوماً
بداية"( ).

بداية ، نشير إلى أن محفزات الحدث الأسطوري- في قصائد العلاق- محفزات نصية مفتوحة على آفاق خصبة من الاستغراق والانفتاح النصي، فالشاعر لا يستحضر الأسطورة بقصد المماحكات النصية، أو بقصد إثراء التجربة الإبداعية، لتنطوي على طبقات دلالية متراكبة عديدة فحسب، وإنما يستحضرها ؛ ليعري من خلالها هذا الواقع، ويحكي بلسان شخصياتها وتساؤلاتها المحتدمة صراعاته الوجودية وقلقه، وتساؤلاته الاغترابية المأزومة؛ بإحساس شعوري جريح مغمس بنيران الأسى والفجائع على ما آلت إليه أحوال الواقع العراقي في العصر الراهن، من تفاوت وتناقض ، فيقارن بين ما كانت عليه من العراقة والأصالة والأمجاد والمآثر العظيمة؛ وما آلت إليه أحوالها في ظل الواقع الراهن الذي يضج بأشكال الانهيار والتشتت والدمار والخراب؛ يقول زهير أبو شايب " معجم العلاق معجم إشراقي مليء بالعناصر ومفردات الطبيعة الخصوبية"؛ ولذا، فإن أول ما يلفت النظر في شعره تلك اللغة المحففة الفارهة، وتلك العبارة الأنيقة اللذيذة التي تضعك فيما يشبه المحراب اللغوي، وإمساكه المدهش بالدلالة؛ بالإضافة إلى لجوئه الملفت إلى استخدام الأوزان الخليطة التي تصعد ترقيص اللغة، وتجعلها أكثر خفة وحبوراً وغلياناً... في مجموعة ( ممالك ضائعة) تنهمك القصيدة في نبش المفقودات والمنسيات بلغة نوستالجية عميقة؛ وتشتبك الدلالة بين الوطن الذي كان[ وطناً لطيور الماء] ؛ والوطن الذي أصبح أشد خراباً وأسى من أي بلاد أخرى؛ حيث طيور الماء- التي جفت ماؤها "تهب من النوم يابسة، وكأن الفرات العصي الجريح/ ينحني"... وكثيراً ما تبدأ القصيدة بتساؤل مليء بالأسى. إن الوطن الضائع هو ذلك الوطن المقيم في السؤال ، وهو وطن لكل الممالك السرية الضائعة. هكذا، يستدعي الوطن سلسلة طويلة من رموز الفقد: جلجامش، أنكيدو، بابل ، ليلى العامرية، فاطمة ، كما يستدعي مشاهد الطفولة، والطلليات ، والمراثي، ويحشدها جميعاً، فيما يشبه مشهد الندب الكربلائي، ضمن نشيج كوني على ما ضاع.."( ).

وبتدقيقنا- في المقبوس الشعري - نلحظ أن العلاق قام باستحضار المؤثرات الأسطورية بأسلوب تقني فني معاصر؛ ليبث من خلالها معاناة الشعب العراقي؛ يبين الحالة المريرة التي وصلت إليها بلده العراق من ضعف وذل وهوان؛ إثر مرور جحافل الغزاة عليها؛ وما خلفته من دمار وفساد وخراب؛ فلم تعد شمس أوروك وحضارتها مشرقة كما كانت؛ ولم تعد الأمجاد والانتصارات العظيمة سوى ذكريات لتلافيف الزمن الماضي؛ وانتعاش ذكريات الزمن الأسطوري القديم. ولعل المتأمل في أبعاد هذه القصيدة وموحياتها النصية يدرك أن حزن الشاعر على العراق حزناً أسطورياً ؛ يضج بالجراح والأسى، كما في قوله:

" كنتُ أبكي،
نائحاً أسألُ الرصافةَ
والكرخَ: أغنِّي لبابلٍ
أم أغنِّي
أرضَ آشورَ؟
كنتُ أهذي، أنادي:
خُذ لأوروكَ عشبةً
خُذ بقايا جثثِ الخيلِ
خذْ يدي..
خذْ رمادي"( ).

إذاً؛ فبكاء الشاعر وندبه بكاء أسطوري؛ ونوحه الجريح على لسان شخصياته الأسطورية نواح على العراق على مأساته وليله المظلم، ورماد فجائعه ومرارته واحتراقه الدائم، أي أن نوحه نواح على دمار معالم العراق وتشويه حضارته التي ما عادت سوى بقايا رماد، أو أشلاء لذكريات الماضي، ومأساة الحاضر؛ وهذا دليل أن العلاق يستقرئ أبعاد الأساطير ليكتب من رؤيته هو ومنظوره الجريح المأزوم؛ إذ " يكتب من داخل " لحظة طللية" لا تكتفي بالندب؛ بل تهجس وتستشرف ، وتمتلئ بالمناخات ؛ وتحفر نفقها السري لتسريب الضوء.. تضيع الممالك، ويبقى الشعر ليدل على ما لا يضيع"( ).
وتبعاً لهذا، تأتي الأنساق السطرية الأخرى في القصيدة لتمركز رؤيتها النصية على ما تبثه الشخصيات الأسطورية من أحاسيس وارتدادات نفسية شعورية نادبة حال العراق ومعاناته، وما آل إليه، كما في قوله:

" طائرٌ
يفلتُ من مذبحةٍ
يتلظَّى بينَ جمرٍ ورمادْ،
ساطعاً يعلو،
يهوي،
مثلما يومضُ الجرحُ،
على أسمالِه
لا شذى الحزنِ،
ولا حبرُ الحدادْ
دامياً يعلو، ويعلو
ناشراً
ضوءَه الدامي
مياهاً
وبلادْ"( ).

وبالنظر - فيما تثيره الأسطورة من رؤى ومضامين شعرية في المقبوس الشعري- نلحظ أن العلاق لا يستحث الرؤى الجزئية فحسب؛ وإنما يفاعل المنظورات الرؤيوية الكلية؛ لتغدو القصيدة نزفاً وجرحاً داخلياً؛ لا يندمل ، بمعنى أن الأسطورة هي نفثة من نفثاته الشعورية الدامية بوصفها واسطته السيمولوجية في الكشف عما يعتصر ذاته الجريحة من آهات ونفثات شعورية تعتصر كيانه قلقاً ووجاعة داخلية، يندب إثرها بلاده الضائعة تحت جحافل الغزاة والمتأمرين على وحدتها وزهوها وإشراقها، ليختلط حبر القصيدة بدماء الأسى ونزف آلهة الخصوبة على أنقاض ذكرياتها العريقة وحضارتها القديمة: وتلتحم رؤاه العميقة بمحفزات الأساطير ومداليلها العميقة. وهذا دليل أن " ما هو فني لا يصدر إلا عن ذات حرة ، ومن ثمة لا يبني أو يؤثر في المتلقي إلا موجهات الوعي الحر الذي ينفتح على حركية الحياة بوصفها إداءً فنياً طبيعياً؛ وعلى جدليات الموجودات المحسوسة والمتخيلة بوصفها معاني فنية لا تنضب ، وعلى الإنسان الآخر؛ بوصفه جزءاً روحياً مدهشاً يكمل قراءة المعنى الكامن خلف الأشكال كلها"( ). وتبعاً لهذا؛ فإن الأسطورة هي جزء من المتخيل الشعري، نظراً إلى مؤثراتها الخصبة في التحفيز والتملي الفني لأفق الرؤيا واشتغالها فنياً.

2- جمالية المتخيل الشعري/ والمد التساؤلي المفتوح:

إن الشعرية- عند العلاق- تساؤل مفتوح، والشاعر إن لم يكن مسكوناً بالقلق ،والتوتر، والتساؤل، ليس بشاعرٍ حقيقي، أو مبدع حقيقي على الإطلاق؛ لأن جوهر الشعر الاكتشاف وإثارة التساؤلات؛ لتحفيز البحث و التأمل والاكتشاف؛ والشعر الذي لا يتجاوز نطاق الواقع، ويرتاد فضاءات المستقبل[ آفاق الرؤيا] لن يحقق أهم شرط من شروط الإبداع الحقيقي الجوهري، وهو لذة التلقي ومتعة الاكتشاف؛ والنص المبدع هو " النص الذي يحرّف الواقع بشكل منسق"( ). ويخلق متعته من لذة مناورته واكتشافاته؛ يقول العلاق فيما مؤداه ما يلي:" إن القصيدة حين تنصرف عن وصف الأشياء والكائنات وحقائق الوجود فإنها تلامس أفقاً آخر تغدو فيه( meta poetry ) أعني شعراً هو، في حقيقته، ما وراء الشعر: يتحدث عن فن الكتابة الشعرية ، عن وظيفة الشعر، وعن أسراره وألاعيبه الخفية. وبذلك ، فهو يفصح عن افتتانه بذاته إلى أقصى حد؛ لكنه يلقي، في الوقت نفسه، خيطاً من الضوء يقود المتلقي إلى مكمن الحيرة أو الفاعلية في القصيدة"( ).
والقصيدة حين تستجلي المضمرات؛ وتسعى إلى مراودة الماورائيات واكتشافها من جديد هي القصيدة المبدعة التي تترك القصيدة تساؤلاً مفتوحاً على تساؤلات لا متناهية ،وإجابات لا نهائية. يقول الدكتور أحمد حداد:" لقد أكدت الأسئلة في نصوص العلاق شعريتها، وتمسكت بقيمها، وهو ما يضع متأملها في اليقين، بأنها لم تأت عرضاً أو ببداهة مزاج شعري طارئ، بل إن وعياً حاضراً أو نزوعاً جمالياً مترسخ القيم في ذات الشاعر وذائقته هما اللذان نهضا بها، لتأتي على ما تحقق لها أن تنفعل به؛ وتتمثله؛ ثم تفصله بوحاً موجعاً لذات منتهكة بأرمدة الفجائع"( ).

وإن السؤال- في النص الشعري- عند العلاق- هو منظومة إبداعية لتحفيز التلقي النصي، وإثراء المتخيل الشعري، أو إثراء الناتج الدلالي، وقد قسمه الحداد إلى الأطر التالية:

1. سؤال العارف الذي يسأل غيره ويتساءل معه.
2. سؤال المتأمل الذي يصف الوقائع ويرصدها.
3. سؤال السائل حقيقة، ليتعرف ما حوله..
4. سؤال المتفجع بما يعانيه من الأسى.
5. سؤال المستنكر لهذا الذي يواجهه.
6. سؤال المبدع الذي ينطق بذائقته ويستنطقها "( ).
ويمكن أن نضيف إلى الأسئلة السابقة الأسئلة التالية:
1- سؤال الحالم الذي يبئر الحدث الشعري بالتساؤل لمعرفة حقائق الوجود.
2- سؤال الإنسان القلق المسكون بهاجس التغيير والتجاوز لما هو آني
3- سؤال الساخر بهذا الواقع والمستهجن لمفرزاته المتناقضة.
إن المساحة التي يستحوذها التساؤل النصي- في قصائده- هي مساحة قد تستغرق القصيدة بكاملها؛ لتشكل محور ارتكازها، ونقطة تماهي مضمراتها النصية، كما في قوله:

" ننحني كالخيول القديمةِ
لليلِ، أم ننحني للشررْ؟
ننحني لغبار مخاوفنا، أم تكسر أعوادنا
في الخطرْ؟
أيُّ شيءٍ هو الأفقُ؟ أي السلالاتِ
نحنُ؟ قبائلُ للرملِ أم
للهزائمِ؟ للريحِ أم
للضجرْ؟"( ).

لا بد من أن نؤكد بداية : أن السؤال – عند العلاق- يمثل بؤرة الحراك الشعري، ومكمن تفجير الدلالات؛ وحراكها وتوالدها المستمر، وإنتاجها الخصيب؛ لكن قد يتساءل بعضهم هل ثمة شعرية للسؤال؟! وكيف يكون السؤال ذا طاقة توالدية دلالية مدببة، محملاً بدماء الشعرية وبخوره العطر؟! ومتى يمتشق السؤال صهوة الشعرية ويرتاد آفاقها بقوة وعنفوان؟!
نجيب المتسائل المفترض قائلين: إن السؤال يكون شعرياً عندما يحول النسق الشعري إلى كينونة متفاعلة من الرؤى والدلالات المفتوحة؛ وبقدر ما يولد السؤال رؤيا جديدة ؛ويرفع وتيرة الحراك الدلالي والبث الشعوري بقدر ما يثير الشعرية ويرفع وتيرتها ضمن النسق.

وبالنظر – في محفزات السؤال المدبب- في المقبوس الشعري – نلحظ أن السؤال يشكل علامة أيقونية تحويلية كاشفة؛ عن الاحتدام الشعوري المحمل بشتى أشكال الهزائم والانكسارات والتصدعات الوجودية القلقة إزاء واقعنا العربي المنهار بالمخاوف والمفاسد ومختلف أشكال الضجر والتقزم والضعف؛ وبما أن السؤال عند العلاق يشكل علامة أيقونية بارزة بوصفه" علامة تحيل إلى الشيء الذي تشير إليه بفضل سمات تمتلكها وخاصة بها هي وحدها. فقد يكون أي شيء أيقونة لأي شيء آخر، سواء أكان الشيء صفة أم كائناً فرداً أم قانوناً ، بمجرد أن يشبه هذا الشيء ويُستخدم علامة له"( ). ؛ وعلامة بارزة من عوالم التأمل الوجودي التي تخلق توترها النفسي وإثارتها الشعورية، وبؤرتها النسقية التبئيرية العميقة؛ ومن هذا المنطلق ؛ يعد السؤال- عند العلاق – بؤرة انبثاق الدلالات وحراكها النسقي وتكثيفها الإيحائي.
وقد تأتي بنية السؤال في قصائد العلاق ذات تمفصل شاعري وإيحاء عميق ، دلالة على القلق، والتوتر؛ والانكسار الشعوري؛ كما في قوله:

" ماذا سنفعلُ؟!
لا غيمٌ على أفقٍ،
ولا جيادٌ تضيءُ الليلَ؛
أسئلةٌ كما الأفاعي، وأيامٌ
مبعثرةٌ كما الصخورُ
أما في الريحِ أغنيةٌ
لليائسين؟ سألنا الريحَ
هل حملت إلى قصائدنا
ورداً؟!
وهل كسرتْ
عاداتِها؟ وسألنا النهرَ كيفَ جرت
مياهه دون أعراسٍ"( ).

بداية، نشير إلى أن بنية التساؤلات – في القصائد العلاقية - بنية متحولة ترتقي بالنبض الشعوري؛ وهذا الأسلوب في تكريس السؤال وتحفيزه؛ واعتماده ركيزة الرؤيا النسقية، هو ما يجعله ذا بؤرة متوهجة بالنسق؛ وهذا يدلنا أن السؤال عامل تحفيزي نسقي في قصائد العلاق يستوعب الموحيات النسقية بكامل أبعادها، باستقطاب شعوري وإيحاء تأثيري عميق.
وبتدقيقنا – في المقبوس الشعري- نلحظ أن بنية التساؤل ترتكز على موحيات النسق الشعري؛ وهذا دليل أن النسق اللغوي المحفز هو الذي يستثير القارئ؛ ويدفعه إلى تأويل النسق الشعري، بحس شعوري عميق؛ فالسؤال لديه انفتاح على جدل رؤيوي بين المتناقضات والاحتمالات المتعددة التي تبحث عن الموازنة بين الأنساق التالية:" أما في الريح أغنية لليائسين؟ سألنا الريح هل حملت إلى قصائدنا ورداً؟! " ؛إن هذه الأسئلة تحريضية للشعرية، وليست فقط صانعة الشعرية؛ وثمة فرق واضح بين الأسئلة المحرضة للشعرية والأسئلة الخالقة لها، وهذا- بدوره- ينعكس على فضاء متخيلاته الشعرية عمقاً وتأملاً وانفتاحاً.

وما ينبغي الإشارة إليه أن العلاق يخلق موازنته النسقية عبر أسئلته الذاتية التي تحكي معاناته وتفصح عما تختزنه من رؤىً ودلالات محفزة للقارئ ، كما في قوله:

" هل جواديَ من حجرٍ؟
هل دمي بقعةٌ
من صهيلٍ يتيمْ؟
من أضاعَ يديَّ؟ وشرَّدَ
عنِّي الأيائلَ؟ شرَّدني
عن هوايَ القديمْ؟
من رأى جثَّتي عندَ زاويةِ البهو؟
سيفي أغنيةٌ
أمن دمٍ ضائعٍ، أم عذابْ؟
أنبيذٌ كنارِ القرى ، أم موائدُ
محفوفةٌ بالذئابْ؟ "( ).

بداية ، نشير إلى أن سيموطيقا التساؤل- في قصائد العلاق- تتجه نحو الذات؛ لتنطلق إلى الميتافيزيقا الوجودية؛ بمعنى أن الذات هي بؤرة حراك السؤال؛ وما ارتداد السؤال من الذات إلى الآخر إلى جدليات الخلق والوجود إلا صيرورة دائبة من الحراك التأملي والارتداد الشعوري المنكسر صوب الذات ، لتتحثث وجاعتها وألمها وانكسارها على صخرة الواقع الأليم المتصدع بالمعاناة والجراح والوجاعة الداخلية؛ ومن هذا المنطلق؛ يجب أن ننظر إلى العمل الفني على أنه كتلة شعورية عميقة متفاعلة الرؤى والدلالات تحكمها علاقات وأسس جمالية ومثيرات رؤيوية عميقة؛ تتغور عمق الذات لاكتشاف محيطها الوجودي، يقول جان موكارفسكي:" يجب أن ننظر إلى العمل الفني على أنه علامة تشتمل على عناصر ثلاثة: العنصر الأول هو رمز محسوس خلقه الفنان، والعنصر الثاني هو معنى (الموضوع الجمالي ) مودع في الوعي الجمالي، أما العنصر الثالث فهو علاقة تربط بين العلامة والشيء المشار إليه، وهذه العلامة تحيل إلى السياق الكلي للظواهر الاجتماعية، ويحمل العنصر الثاني من العناصر الثاني - وهو المعنى- البنية الخاصة بالعمل الأدبي"( ).
وبالنظر- فيما تحدثه البنى التساؤلية من زخم رؤيوي يتمحور حول بؤرة الذات- نلحظ أن العلاق يختط بالتساؤلات منعرجات أحاسيسه الداخلية الوجودية المصطرعة في أعماقه؛ لتخب رؤاه في بحيرات الأسى والوجاعة والنفي والاغتراب؛ " هل دمي بقعة من صهيل يتيم؟ / سيفي أغنية من دم ضائع أم عذاب؟ ؛ فكل تساؤل يشكل نفثة شعورية متصاعدة من نفس مشبعة حزناً وأسىً وتطلعاً للخلاص:" من أضاع يدي؟/ وشرد عني الأيائل؟ شردني عن هواي القديم؟"؛ وهذا يقودنا إلى القول: إن أغلب أسئلة العلاق تدور حول دائرة الذات بوصفها منبع الحراك التأملي/ الشعوري منطلقة إلى الوجود؛ فتساؤلاته لا تتوخى إجابات ، لأنها ارتدادات شعورية من الذات، لتسكن قرارة الذات ؛ فهي تنفيس عن معاناة حقيقية وإحساس قلق متصدع يبحث عن كينونة الحياة، متسائلاً عن هول المصير المنتظر؛ فالسؤال- عند العلاق- ليس كشفاً عن رؤيا، بقدر ما هو كشف عن معاناة، وإحساس شعوري مأزوم؛ وهذا يدلنا على أن سيميوطيقا التساؤل- عند العلاق- سيموطيقا الفن، والإحساس بالفن، والاستغراق الكشفي عن الجانب الانفعالي الوجودي؛ والكشف عن ماهية الأشياء؛ وحركة الموجودات ؛ فالأسئلة – لدى العلاق- ليست محمومة أو ضاجة بالانفعال والمداليل العميقة اللامدركة؛ بقدر ما هي ترسيم لفضاء المتخيل الشعري المبتكر الذي يرقى فيه العلاق إلى أعلى مراتب الإثارة، بوصفه طاقة خلاقة من العمق والتخييل، والمداليل العميقة المستبطنة ، كما في قوله :

" أي غدٍ يجتاحنا؟
هل سرابٌ ذاكَ أم سحبٌ خفيضةٌ؛
أم يدٌ تصغي لحيرتها
أم حبرُ وحشتنا،
كالغيمِ، مسفوحُ؟ "( ).

بداية ، نشير إلى أن شعرية السؤال – عند العلاق- ليست متعلقة ، بمدلول السؤال ، بقدر تعلقها بهيكلية السؤال وبنائه الفني؛ فالسؤال – لديه- ليس ارتداداً شعورياً سطحياً ساذجاً؛ إثر توتر الحالة وصخبها النفسي، وإنما هو ترسيم فني لإحساس عميق يتبأر حيز التأمل والوعي والاستغراق الوجودي؛ ولهذا، فإن ما يشحنه؛ ويدبب مسنوناته الدلالية قدرته على ممغنطة الرؤيا، وتكثيف أبعادها الدلالية المفتوحة أو اللامتناهية.

وبتدقيقنا – فيما تحدثه بنية التساؤل من إضاءات ومدلولات نصية- نلحظ أن درجة تماهيها الفني في النسق وتفاعلها يعكس رغبة في التركيز الفني، وتفعيل النسق اللغوي بأسئلة فنية تحريضية تجر الرؤى العميقة، والمداليل النصية المفتوحة؛ بمعنى أن الأسئلة تؤثث رؤاها على بداعة النسق التساؤلي وامتداده اللغوي: [هل سرابٌ ذاكَ أم سحبٌ خفيضةٌ؛ أم يدٌ تصغي لحيرتها أم حبرُ وحشتنا، كالغيمِ، مسفوحُ؟]؛ فشعرية تشكيل السؤال لا تقل قيمة عن شعرية إنتاجه الدلالي، ومكنونه النصي العميق؛ وهذه براعة نسقية في استجرار السؤال العميق، والكشف عن أبعاده بحيازة نسقية تثير الحساسية الشعرية ، وتخلق امتدادها الشعوري؛ وهذا دليل أن شعرية السؤال- عند العلاق- شعرية انبثاقية مشحونة ، بفاعلية المدلول النصي الذي يفجره السؤال من جهة، وبجمالية ما يختطه من بداعة في النسق اللغوي المشكل لبؤرة النسق الشعري المخاتل أو المراوغ من جهة ثانية؛ " وربما جاء السؤال- عند العلاق- ليكون استهلالاً نصياً وخاتمة في الوقت نفسه، ليصبح قوسين من الانشداد التعبيري الخاص الذي يطوق النص من رأسه حتى قدميه معلناً عن نزوع تعبيري يجد تكشفاته في السؤال"( ). الذي مبعثه إحساس الشاعر ودفقه العاطفي وانعكاساته النفسية ، كما في قوله:

" لمن تغنِّي أيها الراحلُ؟
لا دجلةٌ تلكَ
ولا بابلُ
كلتاهُما موتٌ،
وكلتاهُما نارُ البدايات
أيقوى على فوضاهما شيءٌ
أيقوى دمٌ، أو لغةٌ هوجاءُ،
أو ساحلُ؟؟"( ).

بداية، نشير إلى بنية السؤال حين تتأسس على مثيرات السؤال الإيحائي البليغ، وتدور في فلك النسق الشعري المنسجم أو المتألق، فإنها ترتقي حيزاً جمالياً من التمفصل الإيحائي الشاعري، خاصة عندما يغدو السؤال مؤشراً أيقونياً على جمالية النسق، وتطابقه مع مؤشراته الدلالية، ومؤثراته الفنية؛ وهنا، يغدو السؤال -لدى العلاق- عامل تحفيز أيقوني ومؤشراً دقيقاً على بداعة النسق الفني الذي يتموضع فيه؛ وهذا من شأنه أن يجعل النص" يستحوذ على انتباه القارئ إلى درجة أن تباعد القارئ أو اغترابه في عصور متأخرة عن القيم الجمالية في القصيدة أو في الجنس الأدبي لا يطمس سمات القصيدة، وقدرتها على التحكم في حله لشفرتها"( ). نظراً إلى ما يثيره السؤال من حراك دلالي وتبئير نصي صوب مركزية الرؤيا وطاقتها الإيحائية.

وبتدقيقنا- فيما يتثيره الحراك التساؤلي في المقبوس الشعري- من بلاغة نصية ، نلحظ أن العلاق يختط بالسؤال، الدلالات، لإثارة الحراك الشعوري من جهة؛ وتبثير النسق المراوغ، القائم على التراكم الدلالي من جهة ثانية؛ فالعلاق مسكون بما يسمى خلق السؤال للمحاججة الإبداعية، والمماحكة الشعورية، لتحريك النسق الشعري، لهذا يرفد السؤال المعجم بطاقة إيحائية من خلال التناغم والتوليف بين المتباعدات ، كما في قوله:" لمن تغنِّي أيها الراحلُ؟ / لا دجلةٌ تلكَ ولا بابلُ/ أو لغةٌ هوجاء أو ساحلُ "، وهذا يدلنا أن ثمة حركة نصية يخلقها التآلف النسقي الذي يثيره السؤال؛ لإغناء حركة القصيدة، وقاموسها الشعري:" فإذا كان المعجم الشعري يتصل عميقاً بعبقرية الشاعر في إثراء مألوف اللغة بكلامه، ولا يتأتى ذلك إلا لقلة من المبدعين، فإن التركيب الشعري موصول بعناصر عديدة أبرزها، هوية اللغة في قواعدها القياسية وطبيعة الشعر الفنية القائمة على التراكيب غير التقليدية غالباً، ومدى نجاح تجربة الشاعر في إبراز سماته الأسلوبية ملامح تنتسب إلى أدائه الشعري، ولهذا ، كان تركيب الجملة الشعرية ملمحاً أسلوبياً مائزاً يميز شاعراً عما سواه؛ مضفياً على كلامه سماته الأسلوبية المباشرة"( ). ومن هذا المنطلق؛ فإن العلاق امتاز عن الشعراء الآخرين ببداعة النسق التساؤلي ومداه التأملي المفتوح، وموحياته النسقية المبتكرة.

3- جمالية المتخيل الشعري/ وبداعة القول الوصفي:

الشعر جمالية منظور، وحيازة نسقية مغامرة، وفاعلية دائبة ، قادرة على تجاوز ما هو اعتيادي وروتيني، وممل في حياتنا اليومية، والشعر، تأسيساً على ذلك، تزويق فني لائق لأحاسيسنا الداخلية المصطرعة التي تنتظمها ذبذبات أرواحنا المتاخمة لما هو ما ورائي؛أو مسكون في عالم آخر لا يعيه إلا الشعراء أنفسهم ، لهذا فإن سطوته تتجاوز حيز إدراكنا؛ لأن قوته ومصدر جاذبيته تتجاوز قوة السحر وسلطته، يقول أحدهم:" الشعر يتمكن من أن يصل إلى المتلقي من قبل أن يفهمه ، فهو يسلط قوى تعويذاته على آذاننا، فيهزنا بحركته قبل أن يتاح لعقولنا أن تسأل عن كنه ما نشعر به"( ). ومن أجل ذلك ظل تعريف الشعر مبهماً، فضفاضاً لا يمكن حده في تعريف ، أو محايثته بقرين، يقول العلاق:" إن الشعر .. صنو القسوة، وقرينها الفظ والجميل، فهو لا يجمل الحياة؛ ولا يسعى إلى إصلاحها بدوافع أخلاقية أو سياسية، وهو أيضاً لا يثقل جناحية بمهمات نبوئية مدعاة، بل هو على النقيض من ذلك كله، يهبط بنا إلى قرارة الكأس، أعني إلى آخر موضع في الروح، إلى ضعفها المتخفي، أو قبحها الكامن هناك؛ أو خوفها الذي نحاول تخطيه ، أو إهماله؛ أو تملقه... إنه الشعر الذي يهجم ، كنمر الغابة، على أرواحنا، فيخلخل طمأنينتها الكاذبة؛ وينهش تجانسها الظاهري؛ الشعر الفاضح للخوف؛ والنضاح لكل ما في النفس من رضوض لا نجرؤ على مواجهتها في الضوء، أعني إحساسنا بالخسارة والندم أو اللامعنى ... وكثير من شعرنا تمجيد ، مبالغ فيه أحياناً ، للحياة العامة، وكثير منه يأخذ وجهة مضادة؛ يتجه من حياة الداخل، ليتحدث عنها بنبرة مرضية ، يعزز من قدرتها على الصمود، أو يحرضها على المواجهة الواثقة حيناً، وعلى أكثر المواجهات يأساً حيناً آخر"( ).
والشاعر_ وفق هذه الحالة_ لا يتأتى تأثيره" من دلالات لغة الشعر، بل ينتج من بنيتها الشكلية تماماً مثل الأثر الذي تولده المساحة اللونية في الفن التشكيلي. ومن هنا، يكون على الشاعر تطوير تقنياته الخاصة للتعامل مع اللغة على أنها مادة للتشكيل؛ لا أداة للتوصيل المعرفي، وكما قال ( دونالد ستاتر) إن لغة الشعر، فضلاً عن كونها أداة للتوصيل، تصبح غاية في ذاتها"( ).

ومن هذا المنظور، فإن ما يعزز شعرية المتخيل بداعة النسق الوصفي، وحيازته التصويرية المراوغة من جهة، وارتياده فضاءات رؤيوية غير مدركة من جهة ثانية؛ مما يعني أن ثمة اشتغالاً إبداعياً على نسق التمفصل المثير، الذي يرفع وتيرة النسق حرارة وجمالاً نصياً، مراوغاً في القصيدة الشعرية عند العلاق؛ فالعلاق يملك نظرته الشعرية الثاقبة ومؤثراتها المميزة من حيث بلاغة الفضاء التعبيري؛ وجمال القول الشعري الوصفي، الذي يستند إلى جسارة تخييلية عالية؛ ومنطق شعري مراوغ؛ فهو لا يصيب بلاغة القصيدة فحسب، وإنما يصيب بلاغة الرؤيا ومنظورها الماورائي البعيد، فهو يعي:"أن بلاغة القصيدة لا تعني تلبيتها لاشتراطات البلاغة القديمة دائماً؛ مع أن ذلك لا يمنع من ملامسة البعض منها إن تطلب الأداء ذلك، وباستثناء هذا الوعي فإن لكل نص شعري بلاغته الخاصة، بلاغة لا تتحقق بشكل ملموس وحي إلا من خلال النص ذاته بوصفه كلاً ساطعاً وجزئياً يتجاوز كيانه القاسي أولاً، ويتجاوز الراسخ، والمقبول دون فحص أو مساءلة من معايير وأعراف ثانياً"( ).

ومن هذا المنظور ، فإن العلاق يرى أن بلاغة الشعرية:" لا تأخذ اتجاهاً واحداً؛ ولا تنهض من خزين الاستعارات والتشبيهات المعهودة؛ كما أن سجادتها اللغوية لا تستند إلى خيط واحد، يتكاثف بالتكرار، أو يتوالد بإعادة الإنتاج؛ بل إن تلك السجادة ملتقى لضجيج الخيوط تارة، ولعناقها الحار تارة أخرى؛ إنها ملتقى للتضادات، وللذوبان: الشعر والنثر، الخفوت والصراخ؛ التماسك والتشظي ، الكناية والاستعارة، التنافر والاندغام، الحركة والتأمل، السرد والغناء، انفتاح النص أو التفافه على ذاته"( ).
وبناء على هذا، تكمن جرأة النص بمقدار حيويته على تفعيل الأنساق ببلاغة المسندات الوصفية وقدرتها على التحليق بمتخيلاته الشعرية، بعيداً عما هو مألوف أو متوقع، وللتدليل على ذلك نأخذ قوله:

" خذي معكِ كلَّ شيء
النوم وشفتيكِ
المهلكتينِ
الليلَ ومخالبكِ
الباكية"( ).

بداية ، نشير إلى أن بداعة النسق الوصفي- في قصائد العلاق- تكمن في المحفزات الإسنادية وجمالها النسقي؛ فالعلاق مسكون بهاجس تشعير اللغة/ وتشعير الرؤيا في آن، لأنه يدرك أن " النص نقيض العراء، أعني نقيض الذاكرة الصافية حيث لا سوابق، ولا أشباه، ولا آثار للعابرين الأفذاذ، إنه الابن العاق لهذه الذاكرة التي يحتاجها، ويتمرد عليها في الآن نفسه وبالقوة ذاتها، ومن هذا العقوق الجميل والضروري، يصنع النص أبوته المشبعة بالحنان والقسوة معاً. ومن هذا الجدل المدهش والمرير بين تعطشه إلى الحرية ، وقيوده الباهظة تبزغ خصوصية النص ، أعني لغته الفردية أو بلاغته الخاصة(). ومن أجل هذا عد الشعرية فاعلية نسقية ورؤيوية في آن؛فلا قيمة للشعرية بمعزل عن جمالية الرؤيا؛ ولا شعرية للرؤيا بمعزل عن جمالية اللغة.

وبالنظر -فيما يثيره النسق الوصفي من مثيرات إيحائية في المقبوس الشعري- نلحظ أن العلاق يستجر النسق المباغت؛ إذ إن القارئ لم يعتد هذه الجاذبية في النسق الوصفي؛ إثر حركة التتابع بين المعطوفين؛ والإسناد الجمالي في الموصوف؛ ودهشة الصفة، بمراوغتها للموصوف، لتخلق دهشتها الشعرية البارعة:[ النوم وشفتيك المهلكتين]، و[ الليل ومخالبك الباكية] ؛ وهذا التوازن في النسقين الوصفيين تجسد بفاعليته المثلى عبر الموازنة بين التركيبين المعطوفين من جهة؛ و تماثل الصفات من جهة ثانية؛ مما زاد من قلقلة النسق، وتمازجها فنياً؛ فالعلاق مسكون بشعرية الاشتهاء الفني، وعذوبة الصورة ،ورقة النغم؛واستعصاء المدلول، وزخم الدلالات، وحراكها المستمر؛ فالنسق الشعري- لديه- نسق وصفي مقتصد لغوياً؛ وشعريته اختزالية لا تمطيطية؛ مولع بتشعير الأنساق الوصفية بمبتكرات إسنادية ، تخلق دهشتها من فضاء متخيلها الشعري المبتكر، وبقدر ما يبتكر الشاعر بنسقه الوصفي إلى أمداء دلالية واسعة بقدر ما يثير بؤرة النسق الشعري؛ ويحفز مداليله . وهذا يدلنا أن الشعرية _عند العلاق _آلية من آليات خصوبة اللغة؛ وانبثاقة تصويرية ؛ مراوغة من الشذرات التصويرية المحلقة في فضائها الشعري المتخيل، لتغدو من ممكنات إثارتها النصية وتحفيزها النصي المثير.

وثمة تشعير نسقي- لدى العلاق- يتمثل في بداعة التشكيل اللغوي للأنساق الوصفية الاستعارية التي تحرك النسق الشعري بجمالية ما تخطه الاستعارات من خصوبة جمالية وتمفصل شاعري مؤثر، كما في قوله:

" وانحنينا
على العشبِ
مشتعلينَ:
صلاةٌ ترابيةٌ،
حجرُ الريحِ يخضرُّ
يخضرُّ
يزهرُ في الريحِ
ماءُ الظلامْ.
وردةٌ
من ترابٍ على العشبِ
يغدو،
وفي الروحِ يعلو
اشتعالُ الندى
وبكاءُ اليمامْ"( ).

بداية، نشير إلى أن جمالية النسق اللغوي – عند العلاق- سواء أكان نسقاً وصفياً أم نسقاً إضافياً، لا يتأتى من بداعة التشكيل اللغوي، وابتكاره النسقي فحسب، وإنما من بداعة الرؤى المستجدة التي يولدها في حركة الأنساق؛ وما تثيره من مؤثرات ترفع وتيرة المتخيلات الشعرية جاذبية، ومستبطنات شعورية؛ فالعلاق- على حد تعبير رياض النعماني-" ينظر إلى اللغة كنشاط وممارسة إبداعية تاريخية تكثف رؤيته العميقة للوجود، وتقيم نوعاً من التناظر بين ضوئه الروحي الخاص؛ وضوء التجربة الإنسانية العام.. وفي جدل هذه العلاقة الكيانية بين الضوءين يولد ضوء ثالث هو الرؤيا والبرق الذي ينير المسافة الخارقة التي يولد فيها ، ويتقطر الشعر من بياض شاسع بعيد (الأبيض، الأبيض) كأن جميع عناصر تجربته، وما بها من أسرار وغموض يصيحون به إلى ذلك اللون الذي حوله علي جعفر العلاق إلى مفهوم، وموقف، وعلاقة جديدة تربط أشياء وخلائق ومكونات شعره الذي ظل أميناً لنقائه وانتمائه- الذي لا يتزحزح- إلى ردح ورسولية القصيدة التي ينبغي أن تكون خارج حركة سوق المزايدات وخيانات الجمال، وجهتها الأولى والأخيرة نحو النصاعة ، والتجاوز الدائم، والكشف المستمر الذي لا يتوقف عند حد"( ). وشعريته_ بناء على ذلك- شعرية تخييل وتجاوز فني في المنحى والأسلوب والمماحكات اللغوية النصية في اللغة، ومجازاتها التصويرية المختلفة، وآليات تمفصلها المجازي ضمن النسق.
وبالنظر- في مبتكرات النسق اللغوي ( الإضافي/ أو الوصفي) في المقبوس الشعري- نلحظ بداعة ما يخطه النسق الإضافي من إيحاءات جمالية: [ حجر الريح ، ماء الظلام، اشتعال الندى، بكاء اليمام]، ومما نلحظه كذلك أن النسق اللغوي جاء خصيباً بالاستعارات المفاجئة التي تنم على شعرية متمردة، قادرة على الخرق والتجاوز النسقي؛ ولعل ما يحفز النسق الشعري بجمالية آسرة بكارة الاستعارات ودهشتها، ومراوغتها للقارئ، لتكون ذات تمفصل شاعري، ومعطيات جمالية خصبة؛ ومن هذا المنظور؛ فإن العلاق استغل طاقات اللغة الشعرية بكل إمكانياتها ومتخيلاتها الشعرية لتكون روافد قصائده على المستوى الفني.

4- جمالية المتخيل الشعري/ ودهشة المراوغة والانزياح:

إن الانزياح هو لب الخاصية الشعرية، بل بؤرة الفاعلية الشعرية في تحفيز بنائية النسق الشعري؛ ولا قيمة للشعرية بمعزل عن جمالية النسق اللغوي المثير، يقول الناقد علي جعفر العلاق: "تنبه الجملة الشعرية إلى ذاتها بطرق شتى: إيقاعية، صوتية، تركيبية، بلاغية، وتبعث إلينا رسلها متخفين أو ساطعين ، لكنهم في جميع الحالات يظلون رسلاً يتوهجون بالإثارة، أو اللطف؛ هكذا؛ كانت النظرة إلى الشعر وما زالت كذلك إلى حد كبير ، غير أن الجملة الشعرية تفاجئ نفسها في منتصف الطريق أحياناً، وهذه المفاجأة ، أو هذا الانزياح عن مألوف القول، أو مألوف الدلالة هو الذي يشكل حيوية الجملة؛ ويعيد إليها قدرتها الكامنة، بعد أن قطعت الطريق إلى المتلقي خافتة مسترخية"( ).

وقد كان العلاق محقاً فيما ذهب إليه من حيث فعالية الجملة الشعرية؛ وطريقة بنائها؛ فهي تدل على ذاتها بذاتها؛ ولهذا ، قال الناقد ثائر العذاري:" لئن كان الشعر فناً فهو أعقد الفنون على الإطلاق من حيث طرائق التشكيل وماهياتها، فكل الفنون الأخرى تعتمد على تشكيل مادة معينة في وسط محدد، فالرسم هو تشكيل المساحات اللونية في المكان ؛ والنحت تشكيل الكتلة في الفراغ؛ والموسيقى تشكيل الدرجات الصوتية في الزمان؛ أما فيما يتعلق بالشعر فليس لدينا تعبير يمكن أن يصف التشكيل فيه بهذه البساطة التي نجدها في الفنون الأخرى ؛ فاللغة هي المادة الأولية للتشكيل الشعري، لكن هذه المادة من التعقيد بحيث لا يمكننا تحديد وسط بعينه تتشكل فيه ، بل إن اللغة ذاتها تنطوي على جوانب متعددة؛ كل منها يصلح وحده أن يكون عنصراً تشكيلياً من مثل الصوت والكلمة؛ والمعنى والدلالة ، الوزن، والقافية وغير ذلك. فالشاعر يمتلك خلاف غيره من الفنانين مواد ووسائل كثيرة يمكن أن يستخدمها في تشكيل القصيدة، ومن هنا، تبدأ صعوبة تحليل التشكيل الشعري"( ). وبهذا التصور؛ يمكن أن نعد الانزياح اللغوي خاصية من خاصيات جمالية المتخيل الشعري وبداعة التشكيل النسقي، ذلك أن " الانزياح يتعلق بتحويل دلالي، أو بتدرج في قيم المدلول، مما يؤدي إلى تراجع الوظيفة المرجعية التي تجد نموذجها المفضل في لغة الاستعمال العادي( التواصل) ، في مقابل تنامي الوظيفة الشعرية، التي تنمو عبر الصراع الذي يمارسه الشاعر على اللغة من خلال الصياغة. وهذا لا يعني أن لغة الشعر مجرد ترقب مجاني لا تتوخى الإخبار أو التواصل، وإنما هي" تخبر" أو " تتواصل" بطريقة مختلفة أكثر عمقاً بعد تحقيق أكبر قدر من الإثارة والتكثيف الجمالي، لأنها تسعى باستمرار إلى تحفيز علاماتها اللغوية ما دامت معانيها لا توجد على خط كلماتها؛ الشيء الذي يجعل من الدال اللغوي ممثلاً للمدلول أكثر مما يدل عليه. وبهذا، تتوارى الدلالة المطابقة أمام بروز الدلالة الإيحائية"( ).
وإن فعالية الانزياح لا تقتصر على النسق اللغوي الجزئي فحسب؛ وإنما قد تشمل رؤية القصيدة بفاعليتها النصية بتمامها وكمالها؛ مما يعني أن " النص ينتج معناه بحركية جدلية ، لا تتمثل في الانتقال من الجزء إلى الكل؛ وإنما على وجه الخصوص بالتكييف الدلالي للأجزاء في ضوء البنية الكلية الشاملة للنص"( ). والانزياح هو المرمم الجمالي لفاعلية النسق الشعري ، لتنامي خيوط النص جمالياً؛ ولا يمكن للنص أن يحقق شعريته بلغة سينمترية منظمة بعلائق نحوية رابطة لا تجاوز ولا انتهاك في رتبتها النصية؛ وهذا يدلنا:" أن التفاعل بين الروابط لا ينتهي إلى تحقيق التوقعات بقدر ما ينتهي إلى التحوير المستمر لها؛ ولهذا ، فإن التوقعات لا تتحقق في العمل الأدبي الجيد ، بل تتولد عند القراءة"( ).

والانزياح ليس فقط انزياحاً تركيبياً، وإنما هو تحوير إبداعي في حركة المعاني، إذ إن الشاعر يتجاوز بالانزياح مدلول الجملة المباشر إلى ما تخفيه من معانٍ ودلالات . يقول جان ترتيليمي:" يستخدم الشاعر الكلمات ليعبر، لا عن معناها فحسب، بل كذلك عما وراء معناها ، نقصد عما يقابلها ترنيماً ونغماً في العالم الذي تنبع هي منه؛ وهي- بذلك- تمكنه من السيطرة على هذا العالم"( ).

ومن هذا المنطلق؛ فإن الفارق بين لغة الشعر ولغة النثر هو هذا الانزياح في التعبير الشعري عن بساطة القول؛ ونفعيته ، فالناثر لا يبغي من لغته سوى الإيصال أو الإيضاح؛ في حين أن الشاعر يبقي الرؤيا؛ ينظّم هذه الرؤيا بأنساق لغوية منسجمة وقوالب إيقاعية متناغمة" فإذا كان الشاعر يتحكم في الكلمات بطريقة تختلف عن تلك التي نستخدمها في الحياة العادية والاحتياج؛ فذلك لكي يقف في وجه الاتجاه النثري للقارئ"( ).
والانزياح- في اللغة الشعرية هو خطأ متعمد- عند بعضهم- لأنه يرمي إلى تجاوز لغة النثر ومستوياتها التنظيمية؛ وتبعاً لذلك عدوا كل خروج عن اللغة المعتادة خطاً مقصوداً أو متعمداً؛ هذا الخطأ هو تجاوز انزياحي في لغة الشعر تميزه عن لغة النثر ؛ وما المقصود بالخطأ الخطأ اللغوي؛ وإنما الخطأ الإسنادي لموصوف لا تقبله صفته أو مضاف لا تقبله حركة الإضافة ؛ وكلما زادت هوة هذه الخلخلة بعداً ومفاجأة استطاعت أن تؤسس منظومتها الإبداعية اللامتوقعة داخل النسق الشعري. وهذا ما امتازت به تراكيب العلاق الشعرية، إذ تبرز خاصية الانزياح- في قصائده- كمولد لطاقتها الإبداعية خاصة؛ إذا عرفنا:" أن منطقة الشعر غير محدودة بسياج الحياة أو الموت، صحيح أن الشاعر يواجه الموت داخل فضاء الحياة إلا أن وعيه ليس براغماتياً أو أرثوذوكسياً للعالم الذي يتعامل معه. منطقة الشعر صحراء غير مرئية من قبل الآخرين وعظمة الشاعر تكمن في قدرته على الإيغال داخل هذه الصحراء الممتدة بين قطبي الحياة والموت، بين ما هو فانٍ وغير فان، والقصيدة الجديدة هي التي تحدق عبر الوجود الفاني إلى حلم الوجود الأخير، إنها ليست تعاملاً مع ما هو موجود يومي أو لحظي من جهة، أو وجود نهائي مطلق من جهة أخرى؛ بقدر ما هي تساؤلات وجودية غير أنانية أمام وهم الإنشاء المطلق للعالم"( ). إذ إن الشعر يبقى الفن المغامر الأول من بين الفنون، القادر على تجسيد المتخيلات بحيثيات دقيقة؛ ومحفزات نصية عميقة ، ويعد العلاق من أبرز شعراء الحداثة تفعيلاً للانزياحات اللغوية بما يستثير المتخيلات الشعرية المراوغة ، القادرة على الاستقطاب والتحول الدلالي الدائم؛ كما في قوله:

" إهدئي،
كالحصى، يا طيورَ
المنافي
لوِّحي لبلادِ الأسى بالدموعْ
لنهرينِ من صبواتٍ
وجوعْ "( ).

بداية، نشير إلى أن : الانزياح اللغوي- في قصائد العلاق- يولد المعاني الجمالية ، أو هو الذي يسهم في توليد المعاني المبتكرة؛ وبقدر ما يرتقي الشاعر في حيز المؤتلفات النسقية بقدر ما يخلق متعته النصية وحنكته التصويرية، وفضاء متخيله الجمالي؛ وهذا يدلنا أنه : كلما ازدادت حداثة النص الشعري من الخارج بتناسب طردي مع حركة الواقع التي هي حركة التحرر والتطور معاً.. ازدادت حداثة النص الشعري من الداخل؛ فالشاعر هو الإنسان الذي تسعفه قواه الداخلية المتميزة على خلق معانٍ جمالية متجددة تدفع الناس في عصور مختلفة إلى التحول والتغير، ومن هنا، فإن علاقته بحركة الواقع علاقة جدلية تزامنية لكونه إنساناً بعيد النظر، يتعلق بالآتي أكثر من ركونه إلى الواقع القائم، بل هو يشكل من القائم القاتم منافذ واسعة تطل منها الإنسانية على المستقبل القريب"( ). وبناءً على هذا يظهر الانزياح حركة اصطراع جمالي بين الدلالات يدل على التحولات النسقية الفاعلة؛ وامتداداتها الشعورية المكثفة؛ وتبعاً لذلك، تتطلب تقنية الانزياح خبرة نصية واسعة في تشكيل النسق الشعري المراوغ القادر على ممغنطة الرؤيا لدى القارئ لتتنامى جماليتها وإيحاءاتها النصية.
وبالنظر_ فيما يحدثه " الانزياح اللغوي" من مؤثرات وإيحاءات خصبة في المقبوس الشعري_ نلحظ أن الانزياح جاء خصباً بالإيحاءات والتماوجات النسقية الفاعلة في تحفيز النسق الشعري بزيادة القلقلة النسقية بين المسندات[ المضاف/ المضاف إليه] و [ الصفة/ والموصوف] و[ طيور المنافي- بلاد الأسى- نهرين من صبوات وجوع] ؛ ومما يحرك النسق بداعة التشكيل الانزياحي المثير من جهة؛ وجمالية الرؤيا المكرسة لهذا الحس الاغترابي الشفيف من جهة ثانية؛ وهذا يدلنا أنه" كلما كانت الكلمات المشتملة على رؤى القصيدة متباعدة في مجالاتها الدلالية كان ذلك أدعى إلى ضم المتباعدات في إطار واحد، لأن الشاعر- حينئذٍ- مضطر إلى محاولة التوفيق بين هذه المتباعدات والتماس أوجه المشابهة والتآلف التي تسوغ جمع هذه الصور جنباً إلى جنب في قصيدة واحدة، مما يقيم توازناً بين عناصرها المختلفة من صور، وتعبير، وموسيقى"( ). وتبعاً لهذا؛ تتحدد عبقرية العلاق بمقدار استفزازه القارئ بالانزياحات اللغوية الصادمة ودرجتها التأثيرية؛ وقدرتها على مراوغة متخيله الشعري بما تخلق في نفسه متعة التلقي ومهارة الكشف البارع.
وتزداد درجة الانزياحات اللغوية أفقاً تخييلياً ممتداً- في قصائد العلاق- بما يلائم متحققاتها النصية؛ من حيث التخييل والعاطفة؛ والتموج النسقي الإبداعي، والمماحكات النصية الآسرة التي تزيد وقع الجمل جمالاً وغنجاً فنياً، كما في قوله:

" حين أدنيكِ منِّي،
يغدو لعريكِ رائحةُ الحلمِ،
ضجتهُ،
يأخذُ الحلمُ شكلَ الجسدْ
تتجاوزُ أعراسُهُ
وفجائعُهُ
كلَّ حدْ "( ).

بداية، نشير إلى أن " الانزياح" يكون شعرياً عندما يؤدي متحققاته النصية، ويكون رافداً للرؤيا؛ عمقاً وتمفصلاً وامتداداً؛ وهذا يدلنا على أن الانزياح يمتن فاعلية القصيدة، ويزيد من طبقاتها النصية عمقاً وتعدداً دلالياً؛ خاصة عندما ينزاح بتراكيبه الشعرية فوق حدود المتخيل السطحي أو المتخيل المألوف؛ ليراود ما هو جدلي ومباغت ولا مألوف؛ والشاعر بنزوعه الانزياحي المباغت يخلق دهشة تراكيبه؛ ويزيد من الفاعلية الجمالية النصية، وهذا -من شأنه- أن يزيد الطاقة الجمالية للقصيدة وتوازنها النسقي ؛ وهذا دليل " أن القصيدة الجيدة تبنى فيها الجمل بدقة محكمة؛ وتنتقى لها العبارات في عفوية آسرة، وتخلق الكلمات فيها سياقها الملائم، وتتفاعل فيها عناصر التعبير تفاعلاً يعمل على إشعاع عدد غير محدود من الدلالات ؛ وقد تنطلق القصيدة من حادثة فردية عادية أو موقف شخصي حقيقي أو متخيل ، ولكن الروح الشعري في التعبير عنها يعطيها طبقات من الدلالة تستجيب لكل قراءة ، وكلما أمعن القارئ تكشفت له وجوه من الدلالة، وتعددت أنواع العطاء فليس الشعر كلاماً كل ما فيه رنين النغمات، إنه قلب الشاعر وروحه ودمه تمسها نار الفن المقدسة فتصبح كلمات"( ). وتبعاً لهذا؛ فإن الكلمات الشعرية ؛ يشعلها الانزياح في النسق التركيبي ، لإثارة الرؤية، و مغامرتها النسقية.
وبالنظر_ فيما يحدثه الانزياح من مفرزات جمالية في المقبوس الشعري_ نلحظ أن الانزياح يولد الحركة الجمالية في النسق الشعري: [يغدو لعريكِ رائحةُ الحلمِ ]؛ وهذا الانزياح ، يبعث ألق النسق الشعري؛ ويستفز، موحيات الجمل الشعرية الأخرى، لتحقق فاعليتها التأثيرية وعمقها النصي؛ وتبعاً لهذا؛ فإن جمالية الانزياح ترفع سوية النصوص إبداعياً؛ وتثيرها لاستحداث ألقها التداولي؛ إذ إن النصوص الشعرية رفيعة المستوى هي:" أعمال لغوية تتمتع صياغتها اللفظية بأهمية غير عادية ، لذلك يجدر بنا أن نقاوم أية محاولة لاستبدالها بصياغات أخرى ، فتوكيداتها محددة بدقة، وأفكارها معبرة عنها بطريقة معينة ، وتتمتع بقوة فريدة وتعبيرها بصورة عامة يظل في الذاكرة"( ).
وثمة انزياحات لغوية آسرة_ في قصائد العلاق- تمتاز بحنكتها الفنية ومراودتها القارئ بشكلها النسقي المتفاعل؛ وتمفصلها الشاعري وفق علاقات متضامنة ومتفاعلة تشي بمعطيات الدلالة وحنكتها الفنية المراوغة، كما في قوله:

" شاعرٌ
يتقدمُ أوجاعَنا:
ضوءُ عكَّازهِ
مهرةٌ وذراعاهُ
ليلٌ فسيحْ...
يتقدَّمنا
صوبَ نشوتِه المدلهمَّة،
منكسراً،
ساطعاً،
من سيجمعُ شملَ
أشعَّتهِ:
جسدٌ يابسٌ،
أم ضريحْ؟"( ).

بداية، نشير إلى أن " الانزياح التركيبي" الذي يحدثه العلاق في فضاء قصائده يولد مستتبعاته النصية من مؤثرات التفاعل النسقي المثير بين ما ينزاح من تراكيب، وما يستتبعه من دلالات مبتكرة تزداد جماليتها النسقية كلما ازدادت درجة الانزياح؛ ليكون الانزياح الهدير النفسي الذي يمور في أعماق الشاعر إزاء حيوية المشهد أو دينامية الصورة المرتسمة وفق نبض الشاعر وإحساسه؛ وتبعاً لهذا:" فالشاعر يتحرك مع حركة الواقع، فيمور في أعماقه هديرها وصوتها الذي لا يستكين"( ). وهذا ما يجعل الانزياح متعلقاً بالبعد النفسي لذات الشاعر.

وبالنظر_ فيما يحدثه الانزياح في المقبوس الشعري السابق من دلالات وإيحاءات مستبطنة عميقة_ نلحظ أن الشاعر يقتنص الأنساق اللغوية الخصبة بالدلالات والإيحاءات مثل [ نشوته المدلهمة= جسد يابس – شمل أشعته] ؛ وكأن الشاعر يعبر عن اغترابه الشعوري بخصوصية النسق وجمالية التركيب؛ مما يجعله شاعراً رؤيوياً بامتياز، وتبعاً لهذا ، تزداد شعرية الانزياح ببلاغة الرؤيا المضمنة التي يستولدها الانزياح؛ وكلما تجذرت الرؤيا على ما هو مبتكر وجديد ومثير كلما حققت تقنية الانزياح فاعليتها ومنتوجها الفني في قصائد الشاعر . ومن هذا المنطلق؛ يقول جان كوهن" فالانزياح التركيبي لم يحصل إلا لأجل إثارة الانزياح الاستبدالي ، إلا أن الاستعارة الشعرية ليست مجرد تغير في المعنى، إنها تغير في طبيعة أو نمط المعنى، انتقال من المعنى المفهوم إلى المعنى الانفعالي؛ ولهذا ، لم تكن كل استعارة كيف ما كانت شعرية.. وبهذا تفسر التجاء الشاعر الحديث.. إلى الاستعارة على نطاق واسع ، ولهذه الغاية عمدت إلى المنافرة القائمة على أولويات اللغة"( ).
ويعد الانزياح خالقاً للشعرية عندما يكون الانزياح وعاءً خصباً لتنامي الدلالات وتفاعلها وتلاحمها وتضافرها في النسق الشعري؛ لدرجة تمليه الجمالي وتفاعله الدلالي ؛ في تفعيل الدلالات وتماسكها وتحفيزها إبداعياً؛ لتدلي بمتحولاتها النصية بعيداً عن حيز التوقع أو المحتمل ، كما في المقبوس الشعري التالي:

" صباحُ ذراعيكِ يجتاحُني
ويهدمُ وكرَ الينابيعِ،
يا امرأةً
تصعدُ الآنَ من جمرةِ
الروحِ، حتى أقاصي الجسدْ
لقيثارتي لوعةُ الذئبِ منتحباً
ولقلبي انكسارُ
الرعدْ.."( ).

بداية نشير إلى أن تقنية " الانزياح التركيبي " – في قصائد العلاق- ليست كشفاً عن امتداد الرؤيا ، واتساع فضاء متخيلها الشعري فحسب؛ وإنما هي بؤرة انعكاس الجمالية النصية في التشكيل الشعري، وامتداد إيحاءاتها الشعرية، فلا شعرية للغة بمعزل عن خرقها الأسلوبي للنسق الشعري بإيحاءات وتمظهرات لغوية شعرية مبتكرة ( غير معهودة)؛ وحرفنتها النسقية اللامتوقعة ، أو اللامسبوقة في مخيلة المتلقي من قبل ؛ وهذا دليل – حسب كوهن-" أن الشعر ليس اللغة الجميلة فقط ولكن الشعر لغة يبدعها الشاعر لأجل أن يقول شيئاً لا يمكن قوله بشكل آخر"( ). ومن هذا المنطلق توصل كوهن إلى نتيجة مؤداها " أنه لكي تحقق القصيدة شعريتها ينبغي أن تكون دلالتها مفقودة أولاً ، ثم يتم العثور عليها ، وذلك كله في وعي القارئ"( ). ومن أجل ذلك؛ تحقق القصيدة جمالها واكتنازها الفني بحرفنتهاالنسقية واستعاراتها المراوغة التي تحقق أقصى درجات خصوبتها الجمالية ؛ إذ إن " الاستعارة الشعرية [ الفنية] هي انتقال من اللغة ذات المطابقة إلى اللغة الإيحائية ؛ انتقال يتحقق بفضل استدارة كلام معين يفقد معناه على مستوى اللغة الأولى ، لأجل العثور عليه في المستوى الثاني"( ). وتبعاً لهذا؛ تثيرنا الاستعارات بخصوبتها الجمالية وحنكتها المراوغة في الأنساق الشعرية السابقة.
وبالنظر – في فاعلية الانزياح وما يثيره من تمظهرات فنية في المقبوس الشعري- نلحظ أن الجمالية الفنية تطغى على الاستعارات السابقة ، لتضج بالحيوية والحرارة العاطفية والحراك الشعوري الإيحائي المكثف؛ كما في الأنساق التالية [صباح ذراعيك يجتاحني - يهدم وكر الينابيع - جمرة الروح - أقاصي الجسد - لقيثارتي لوعة الذئب - لقلبي انكسارُ الرعدْ]؛ إن كل استعارة تفيض بالدهشة، والعذوبة، والإيحاء، والشفافية والعمق، لهذا، تطغى بداعة النسق اللغوي في التشكيلات الشعرية عند العلاق، لدرجة أن النسق الاستعاري هو فاعلية قصوى للانزياح التركيبي أو النحوي، مما يزيد من شعرية القصيدة ويرفع وتيرتها جمالياً.

5- جمالية المتخيل الشعري/ ودرجة انكسار النحوية( كسر تراتبية الروابط والحروف العاطفة):
سبق وأن أشرنا : إن الشعرية كسر للنحو؛ اختراق للأدوات الرابطة، زعزعة لأركان الإسناد، خلخلة لبنية التوقع والتداولية البسيطة؛ إنها خطاطة إبداعية نقيض الانتظام، وسينمترية التركيب؛ ومن يظن أن الشعرية علائق نصية منتظمة كأسنان المشط فمعنى ذلك أنه يجهل حقيقة الشعر وجوهر الشعرية؛ لأن الشعرية بقدر ما تخترق وتتجاوز بقدر ما ترتقي وتسمو؛ لهذا فلا منطقية في لغة الشعر للمتآلفات بقدر ما هي تفجير للمتباعدات وإثارة لدوافعها النصية المثيرة. يقول الناقد عبد القادر عبو: "إن قارئ النص الشعري المعاصر يلاحظ مخالفة الشاعر المعاصر لقاعدة التجانس أو الترابط بين الوحدات اللغوية؛ وهذا يعني تجاوزه لوظيفة أدوات الربط وأحرف العطف، لخلق طرق جديدة في بناء نصه، وفي شكل تتحقق فيه الوحدة على نحو ينسجم مع التجربة النفسية الشعورية، ومن ثم تتجلى بلاغة الغموض من خلال هذا العمل المتجاوز لطرق البناء النصي المعتادة؛ فالربط النفسي أضحى هو الخيط الواصل بين الأدلة ، لأنه يتيح للكتابة أن تواصل تدفقها بطلاقة وتلقائية دون إخضاعها للقواعد النحوية التي تفترض وجود أدوات الربط بين الجمل والكلمات والوحدات اللغوية. وقد كان بإمكان الشاعر أن يخلق بهذا التجاوز نصه الجديد الموازي لتكامل تجربة نفسية موحدة شعورياً، ولصورة موحدة في جزئياتها إلى جانب ذلك ؛ وهو الأهم من حيث الكتابة الجديدة التي تساهم في البعد الدلالي، وجعله سمة الغموض البلاغية إلا وهو صياغة نص متكامل وتام في بنائه دون أدوات الربط؛ وفي الوقت نفسه يحقق اختفاء هذا الربط نوعاً من القراءة ذات مستويات متعددة ومنها التأويلية؛ فاختفاء رابط أو حرف ينتج عنه غموض دلالي يفتح للقراءة آفاقاً وفضاءات تنطق من فضاء النص"( ).

ومن هذا المنطلق، تتوقف الشعرية على مهارة الشاعر الفذة وقدرته على خلق الانسجام النصي من التنافر النصي أو التلاشي اللغوي، بروابط خفية، تتعلق بالرؤيا أكثر من الشكل اللغوي أو النحوي؛ وهذا دليل" أن كل وحدة في القصيدة المعاصرة تجسد مرحلة من مراحل البناء المتكامل للنص ، لها علاقة داخلية ونفسية وفكرية بالمرحلة التي تليها عن طريق التنامي في الصور، والتكثيف في التجربة، والمعاناة والرؤيا والتلاحم بين التضاد، والتناغم ليس بأدوات الربط بل بانعدام كل ذلك ، مما جعل القارئ البسيط يبحث عن الروابط المعهودة في لغة النثر، وفي القواعد النحوية، ويتناسى أنه في مملكة الشعر، بين الفراغات التي تقحمه في ملئها بخياله ورؤاه"( ).

إن ارتحال الشاعر المعاصر إلى التشظي والتجريد جعله ينحو منحى مغايراً؛ في التشكيل الشعري النسقي المبتكر، إذ اعتمد الشاعر المعاصر تغييب الأدوات الرابطة لتحطيم ناموس اللغة الشعرية بالتلاشي اللغوي، أوما يسمى كسر الأنساق والعلاق الرابطة، وهذا يدلنا أن " القصيدة المعاصرة خرجت عن التركيب الكلاسيكي، وعن القيد المنطقي الذي تلعب فيه أدوات الربط اللغوية والنحوية دورها في الإفهام، وفي مساعدة القارئ على البحث عن المعني الخفي؛ ومن ثم دخلت القصيدة المعاصرة ميدان التركيب الدرامي للعالم الشعري؛ إذ أصبحت مقاطع ووحدات القصيدة يربط بينها رابط أساسي هو التلاحم الباطني السائر في اتجاه نمو التجربة الشعرية حتى نهاية اكتمال النص كوحدة عضوية"( ).

ومما لا يدع مجالاً للشك أن العلاق ينظم شعريته بناظم دلالي خفي؛ وهذا الناظم لا يعتمد العلائق النحوية الرابطة بقدر ما يعتمد تغييبها والاستعاضة عنها بعلائق علاماتية خفية، أو مضمرة يعيها القارئ من المدلول النصي أو المعنى المضمر السابق؛ بدلائل متحايثة( تماثلية) تربط الجمل ببعضها ربطاً خفياً لا يعيه إلا المبدع والقارئ النبيه؛ يقول هيجل:" ما دامت الكلمات نفسها مجرد دلائل للتمثيلات ؛ فإن مصدر اللغة الشعرية لا ينبغي البحث عنه في اختيار الكلمات؛ وفي طريقة ضم بعضها إلى البعض الآخر، لأجل تكوين جمل وعبارات ولا في الجرس والإيقاع والقافية .. إلخ؛ ولكن في طريقة التمثيل"( ).أي في طريقة التركيب أو التشكيل النصي،وتبعاً لهذا أفاد العلاق من موهبته النقدية في طريقة إبداعه الشعري، فالخبرة الجمالية والمعرفية المكتسبة من اشتغاله في الحقل النقدي رفدت إبداعه بمقومات شعرية جديدة وتقنيات متطورة في تشعير اللغة، وإكسابها خصوصية مميزة في التشكيل وطرائق التعبير ، كما في قوله:

" أيُّ هوىً باطشٍ
أنتِ؟
أيُّ دمٍ طائشٍ؟
وفراشكِ أغنيةٌ
تتصاهلُ فيها خيولُ
الجسدْ
رغبةٌ دونَ حدْ
وأمامَ شراسةِ تفاحتيك
وحيث غموضهما
البضُّ
أختضُّ"( ).

بداية، نشير إلى أن " العلاق" مولع في خلق التمازجات النسقية الفاعلة التي تلجأ إلى ربط النص بعلائق خفية لا يعيها إلا القارئ الحصيف بوصفها علائق ضمنية أو مضمرة؛ تؤكد خرقها لحاجز التماثل اللغوي أو التجانس اللغوي:" ووفقاً لهذا الخرق لقواعد اللغة ولأعراف الشعرية العربية ارتسمت على بنية القصيدة العربية المعاصرة ملامح جديدة، منها ما يتصل بتنضيد الكتابة والنمط الجديد للتنقيط والتوزيع في الشعر ، ومن أجل الخروج عن النظام التقليدي في الرسم الطباعي، ومنطق التواصل بين الكلمات والجمل، لجأ الشاعر المعاصر إلى استبعاد الحدود الفاصلة بين الجمل كإشارات الفصل والتنقيط اللازمة، وتغييب أدوات العطف، ومن ثم تغييب المعنى في غموض التحديد البنائي والمنطقي"( ).
وتبعاً لهذا المنطق الأسلوبي؛ فقد اعتمد العلاق التلاعب اللغوي بالأنساق الشعرية لزعزعة ائتلافها إلى التنافر والاختلاف؛ فهو لم يدخر جهداً في التلاعب النسقي حتى بأدق العلائق اللغوية ممثلة بالأدوات العاطفة؛ وعلامات التعجب والاستفهام؛ لأنه يعي أن " التلاعبات اللغوية [ في سياقها المناسب] – إنما ترمي إلى هدم العبارة الكلاسيكية التي تعتبر جملة كاملة أو جملة تامة ، وما حدث في الجملة الشعرية الحداثية ما هو إلا الانفجار الذي سعى إليه الشاعر المعاصر في مقاطع معزولة أو كلمات موزعة"( ). وهذا يبرز فاعلية الجملة المعاصرة على ارتياد ما هو محظور أو ممنوع في النسق الشعري والتشكيل الشعري المراوغ الذي يستثير الحساسية الشعرية.

وبتفاعلنا- مع المقبوس الشعري- إحساساً ولغة- نلحظ أن العلاق اعتمد بؤرة التساؤل حيزاً نسقياً بديلاً عن الحروف الرابطة، مما جعل النسق أكثر تحفيزاً وامتداداً وتفعيلاً نصياً؛ فالتساؤل عندما يكون ممتداً بين احتمالات عدة ، أو فروع مفتوحة، يغني عن حركة العطف، ويكسب النسق فعلية الإيحاء، والتكثيف الدلالي، كما في قوله:" أي هوىً باطش.. أنت؟! أي دمٍ طائش" ؛ ثم يزيد الشاعر القلقلة النسقية بجمالية الصور الامتدادية الصادمة :[ فراشك أغنية تتصاهل فيها خيول الجسد ]؛ ثم يراود القارئ بلغته الجديدة وصوره المبتكرة التي تستقي جمالها وجلالها الفني من حيازتها النسقية المتكاملة؛ لتعزيز المردود الفني لإيحاءاتها الشعرية؛ كما في قوله:" وأمام شراسة تفاحتيك.. وحيثُ غموضها البض أختضُّ" ؛ ودليلنا أن الاستجابة الجمالية لقصائد العلاق تتعدى المدلول المطابق إلى المدلول الإيحائي المنبعث من العلائق الضمنية التي تفعل شعرية النسق ، ومما لا شك فيه أن العلاق يملك مؤثرات النسق الشعري الفاعل الذي يضج بالحراك الدلالي رغم التغريب اللغوي بكثافة الأسئلة؛ وتغييب الحروف العاطفة أو الرابطة؛ بالاستعاضة عنها بمثيرات نسقية أخرى لتحقق أريحيتها الجمالية.

وثمة تفعيل لبنية السؤال - في قصائد العلاق - لتكون رحم القصيدة؛ وتفاعل علائقها النصية؛ وسبق وإن أشرنا إلى: أن شعرية العلاق شعرية التساؤل ، والإلحاح في التساؤلات الوجودية العميقة؛ لا للاكتشاف فحسب، وإنما لتفعيل الرؤى الغزلية أو الدلالات البؤرية؛ لتكون بؤرة الدلالة العاطفية ؛ والمقوم العلائقي الأبرز في نسق قصائده الشعرية وتفعيلها جمالياً، كما في قوله:

" ما الذي يشتعلُ الليلةَ
في تياركَ الغامضِ
يا ماءَ المرايا:
جسدٌّ تجتاحهُ الفضَّةُ؟
برقٌ من حنينِ الروحِ؟
وهمٌ؟
أم شظايا؟
ما الذي يبتهلُ الآن
قميصُ النومِ؟
أم جمر الجسد"( ).

بداية، نشير إلى أن ثمة تفعيلاً للعلائق المضمرة – في قصائد العلاق- هذا التفعيل هو ما يهب تشكيلاته اللغوية طابعاً منفتحاً حراً ؛ إذ إن بنية السؤال وتتابعها تغني عن حالة العطف الرتيبة في كثير من الأحيان، وتتجاوز المعنى السطحي البسيط؛ لتدخل في عمق الرؤيا وجوهرها الفني ؛ وهذا يدلنا أنه:" لا يمكن حصر الجملة الأدبية في التعبير عن المعنى البسيط المحدد نهائياً؛ فالشفرة اللغوية التي تتيح للكاتب إمكان التشديد على دلالة الرسالة؛ وعلى شكلها ؛ وعلى الشفرة التي سمحت بإنتاجها؛ تشكل بنفسها مصدراً لتعدد المعاني، لأنه يصعب دائماً أن نحدد ما هو الأهم في الرسالة. كما أن التضمينات التي تحملها الكلمات التي نستخدمها تغني هذا التعدد؛ فهي تشكل ، بما تحمله من قيم أخلاقية ودينية، وسياسية؛ واجتماعية، وجمالية شفرات إضافية تلتصق بالشفرة اللغوية الفعلية، وتلفتنا إلى أن الكاتب والقارئ يقومان بعمل أدبي، بحسب العصر الذي يعيشان فيه وموقع كل منهما في المجتمع"( ). وتبعاً لهذا؛ فإن الشفرات الجمالية للعمل الأدبي لا تفكها إلا المضمرات اللغوية أو الروابط الفنية التي تربط بين الدوال والجمل في نسقها الشعري؛ مما يجعلها مراوغة في نسقها الفني ، ذات خصوصية إبداعية في التمثل والتشعير الفني.

وبالنظر_ في مستتبعات الانكسار النحوي بغياب الروابط العاطفة، والاستعاضة عنها بالبنية التساؤلية_ نلحظ أن ثمة تفعيلاً نسقياً للسؤال ، وهذا التفعيل النسقي في المقبوس الشعري للتساؤلات المتتابعة أغنى عن حركة العطف الرتيبة؛ واستثار الرؤية الشعرية، لتنفث إحساس الشاعر وتوتراته وإحساسه المتناقض ليكون صوت الشاعر بؤرة الحراك الشعوري المكثف؛ ونقطة التحول النسقي، كما في قوله:" ما الذي يبتهلُ الآنَ قميصُ النومِ؟ أم جمرُ الجسدْ" ، وتصبح الدلالة الناجمة عن هذا التتابع التساؤلي نقطة توتير النسق واشتعاله دلالياً ورؤيوياً ومداً مفتوحاً يشيع في القصيدة مناخات شعورية مفعمة بالتأمل والإحساس العاطفي. وهذا دليل أن العلاق شغوف جداً في مغامرة التساؤلات قصد التجاوز والاكتشاف؛ لأنه يعي أن الحراك الشعري هو توجه إلى الآخر وإلى العالم وإلى الكون المحيط؛ ولا شعرية ولا شعر بمعزل عن هذا الاحتكاك الوجودي والاصطراع الكوني على ساحة الحياة .

6- جمالية المتخيل الشعري/ وجدلية الأضداد:
إن الشعر خصوصية إبداعية تتبدى إثارته في المزاوجات الضدية التي تفجرها الأنساق اللغوية على مستوى المتناقضات ، أوالمتباعدات، لزعزعة ركودها وجمودها وتحجرها النسقي، وتأسيساً على هذا؛ يمكن أن نعد " الشعرية" بؤرة تفاعل المتضادات ، ونقطة انبثاق الإيحاءات والدلالات؛ وتركيز مضمونها النصي؛ إذ إن لغة الشعر الإبداعي الحقيقي محصلة تضافر الرؤى وتوالدها وإثارة المتخيلات الشعرية ومثيراتها النصية، وتبعاً ، لهذا، تعد اللغة الشعرية الإبداعية لغة الكشف عن هذا العالم المصطرع الخبيء في ذات المبدع؛ إذ" إن لغة الكتابة عن هذا العالم الداخلي لغة غوص في الأعماق، وسفر في قارات غامضة ومجهولة ولغة كهذه لا بد لها أن تنفلت من القواعد البلاغية الثابتة والأنساق المألوفة؛ فهي لغة انبثاق، وإشراق، هي لغة الشعر كما يجب أن تكون ، وهي اللغة التي أصبح على الشاعر الستيني أن يكتب بها"( ).
والمتضادات تثير المتخيلات الشعرية باجتماع النقيضين؛ تبعاً لهذا: " فالثنائيات المتضادة؛ يجب أن لا تفهم أنها مجرد رغبة شعرية فارغة تدعو شاعراً ما إلى الجنوح إليها؛ أو استدعاء َألفاظها لمجرد شيء لا يعد له. بل العكس كائن، إذ إن للثنائيات المتضادة هيمنة وفعالية في فضاءات النص، ولا سيما النص الشعري"( ).

وما ينبغي تأكيده أن الثنائيات المتضادة تفعل جميع بنى النص الشعري لغوية وغير لغوية "فالثنائيات الضدية على مستوى الإيقاع هي بذرة يؤمل الشاعر بها نفسه ؛ إذ يتوسل الشاعر بها لإحداث إيقاعية متناغمة مع الجو الفكري والنفسي الذي يحيط بلحظة إنتاج النص؛ إذ يتوسل الشاعر بها لإحداث حراك صوتي داخلي يمازج بين حواشي الصوت المبعثر على بياض الورقة؛ وهو يحمل جمهرة من الانكسارات الفكرية والحضارية والثقافية، ممتهناً بها ترقيع صوته الممزق المبحوح في الواقع ، ولأجل أن يعوض تلك الانكسارات بدفقات تعلو تارة، وتنخفض تارة أخرى من التلوين الصوتي الذي يتناغم مع الدفقات الشعورية هدوءاً وصخباً ؛ سكوناً وحراكاً ، غموضاً وإسفاراً، ألماً وأملاً؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الثنائيات المتضادة على مستوى الدلالة لها أبعاد نفسية (سايكولوجية) وعقائدية، وفكرية ، وذاتية، لا تنجلي بوضوح ما لم يلاحقها بحس الرصد النقدي المتأني اللاانفعالي المستند إلى معطيات علمية صرفة بعيداً عن الانطباعات الفردية، والتأويلات الشخصية"( ).

وتبعاً لهذا، تتعدد شعرية المتخيلات بفاعلية الأنساق الضدية أو المتضادة، إذ إن الثنائيات الضدية عندما تدخل في صلب الرؤيا تعزز مدلولها النصي ضمن النسق؛ ومن هذا المنطلق؛" تحقق الثنائيات المتضادة بوصفها دعامة بنائية ومقومة أسلوبية انفتاحاً نصياً مذهلاً يطفئ رغبة الكبت لدى الشاعر ، لأن الثنائيات المتضادة ناتجة عن تأزم نفسي حاد لثيمة إشكالات وتأثيرات داخلية ذاتية ، وخارجية متراكمة في مسافات شعورية خانقة تفضي إلى تصدع كيان الذات، الأمر الذي يولد رغبة إسقاطية مؤداها تحميل تلك الطاقات قدراً من المسؤولية عن الذات، ورأب الصدع من خلال تجميع أجزائه المبعثرة أو الميتة التي توفر المتضادات وتحيي جزءاً منها"( ).
وما ينبغي التأكيد عليه:
أن النص الشعري يكتسب بالتضاد حيوية فنية تجعله متعدد الدلالات ، ينفتح على رؤى عديدة، وإمكانات متزايدة، ليغدو" النص الشعري خالق دلالات تتعدد وتتنوع؛ وكل قراءة تصبح مغايرة لقراءة أخرى؛ وهكذا، ينفسح الفضاء الشعري من خلال تلك الدوال التي تتشكل ما بين منطقية" الكلام/، وماله من نسبة إلى وجود متشيء في الخارج وبين سلب هذا الوجود"( ).

وإن من يضطلع بمهمة الكشف النقدي عن فضاء المتخيل الشعري -عند العلاق- ومصدر جمالية الأنساق اللغوية المتضادة التي تأتي خصيصة من خصائص الصورة سيلحظ الحساسية الشعرية العالية التي يمتلكها العلاق، من حيث تكثيف الرؤى الشعرية/ واحتداماتها النسقية الفاعلة؛ القادرة على المزاوجة بين إيقاع [ السلب / والإيجاب] و [ الداخل/ والخارج] و [ الظاهر / والباطن]؛ و [ البارز / والمضمر]؛ و [ الواقعي/ والخيالي]، ليغدو النص - لديه - غابة من الرؤى والدلالات المحتدمة عبر دينامية الأسئلة التأملية المفتوحة؛ والتباعدات النسقية المحتدمة بالتناقض والاختلاف؛ إذ إن اللغة الشعرية في قصائده:" تستنفر كل إمكانياتها المتاحة بآلياتها الفنية كي تشكل نصاً متحركاً بأفعال يهيمن عليها الحاضر ويلونها الماضي بالاسترجاع وتشبيهات تتضافر مع الاستعارة والكتابة ومع تقديم وتأخير يخرق معيار النظام اللغوي ، ليحرك نشاط اللعب الحر باللغة"( ).

ويعد العلاق من الشعراء البارزين في تنويع الفضاءات التشكيلية لقصائده من تضاد ، وتوازٍ، وتناص، وأسطرة، وغيرها من التقنيات ،لتحفيز لغته الشعرية، وتحقيق مراوغتها الفنية وغنجها الجمالي ، كما في قوله :

" طائرٌ
يفلتُ من مذبحةٍ،
يتلظَّى بينَ جمرٍ ورمادْ،
ساطعاً يعلو،
ويهوي،
مثلما
يومضُ الجرحُ،
على أسمالهِ
لا شذى الحزنِ،
ولا حبرُ الحدادْ،
دامياً يعلو، ويعلو
ناشراً
ضوءَه الدامي
مياهاً وبلادْ"( ).

بداية، نشير إلى أن مثيرات المتخيلات الشعرية عبر المتضادات الأسلوبية- في قصائد العلاق- تنبني على حساسية الرؤيا، وطبيعة مستدرجاتها الفنية أو النسقية؛ لتغدو المتضادات بؤرة حراك المتخيلات الشعرية ، لتشكيل الوعي الفني بمنتوجها الإبداعي؛ وهذا يدلنا أن الشاعر المبدع:" يستعمل أدواته الفنية المناسبة التي تساعده على نقل تجربته الذاتية بشكل أفضل، وتعد هذه الأدوات وسائل يمكن تغييرها وتبديلها استجابة لتطور الرؤيا الشعرية ومعطيات الفن وقيمته الجمالية؛ ومن ثم ، فإن الحساسية الشعرية الإبداعية في إنتاج القصيدة المعاصرة اختبرت الطاقات الكامنة في النفس الشعري ، وفي الطاقة التعبيرية التي تتيحها اللغة ، وفي دواخل الذات الشاعرة عن طريق هذه المكنونات بعيداً عن أطر وقوالب القول الشعري المتوارث شكلاً مضموناً"( ).

وهذا هول مضمار الابتكار في حسن اختيار الشاعر وتمفصله الفني.
وبالنظر- فيما تحدثه تقنية " التضاد" من إيحاءات ومحفزات نصية في المقبوس الشعري- نلحظ بداعة الصورة الجدلية القائمة على الحراك الدلالي بين المتضادات لترسيم المنحى النفسي أو جزئيات الصورة؛ لتعبر بمنعرجاتها النسقية الضدية عن حراكها الشعوري المصطرع أو اهتزاز الرؤيا للصورة المجسدة؛ لتترجم ما في داخله من إحساس متصدع أو مترام ٍ، كما في قوله:[ طائر... يتلظى بين جمر ورماد] ، و[ ساطعاً يعلو/ ويهوي مثلما يومضُ الجرح] ، إن الصور المركبة تحقق منتوجها الفني بالارتكاز على الأنساق اللغوية المتضادة التي تشكل التعالقات اللغوية المنتجة للشعرية بألق الصورة وأسها الجمالي، كما في الأنساق التالية:[ يعلو / يهوي] و [ جمر/ رماد] و [ مياه/ بلاد] ؛ وكأن الشاعر يعبر بالمنتوج اللغوي المتضاد عن إحساسه المترامي أو المتصدع؛ وهذا دليل أن النسق اللغوي المتضاد" يعتمد في أفقه الثنائي على تشكيلات عدة، تنفعل بها الذات في تعالقها الجوهري مع الأشياء ، وانعكساس آثارها على استجابتها، لتنتجها في إطار تعالقات جديدة تختلط بها الحواس ؛ فتتجاوب المتضادات أو تتنافر، تبعاً لانبعاث رؤية الذات فيها؛ وامتداد هذه الرؤية شعورياً ونفسياً في الفضاء التعبيري للغة، واستخلاصها بوصفها وليدة تفاعلات الذات واللغة في منصهر الإبداع"( ).
وما ينبغي الإشارة إليه أن بداعة الشعرية -في قصائد العلاق- تكمن في تضافر الأنساق اللغوية المتضادة في نسق متضافر مماحك فنياً للقارئ ، من حيث درجة التناغم والإيحاء النصي، والتلاحم بين المتناقضات ، لإبراز جمالية المتخيلات الشعرية، وعمقها المعرفي والوجودي في آن معاً؛ ففي الكثير من قصائد العلاق نلحظ سموقاً فنياً للمتضمنات الضدية التي تستثير المسافة المتباعدة بين العلامة والدلالة ؛ لإبراز منتوجها الفني ، لتلقي مؤثراتها الفنية، كما في قوله:

" جرسٌ غائمٌ كالحنينْ
جرسٌ دافئٌ كالندم.
أي شعبٍ يتوجُ
أطفالهُ بالأنينْ؟
أي مجدٍ بنيناهُ من جوعنا
فانهدمْ...؟" ( ).

بداية ، نشير إلى أن فاعلية الأنساق الضدية- في قصائد العلاق- تتأسس شعريتها على فاعلية الرؤيا ومضمار الترسيم الفني في تشكيلها؛ وبقدر ما تحتدم الأنساق وتتفاعل في نسقها اللغوي المتضاد، بقدر ما تحقق منتوجها الدلالي واكتنازها الفني؛ وهذا دليل أن الشعر المبدع هو فاعلية جمع المتضادات أو المتباعدات في أنساق لغوية متوازنة و متكاملة فنياً ، مما يدلنا على أن " الشعرية ليست مجرد مفردات تنتظم للدلالة على معانٍ قد تكون سابقة ومتعارفاً عليها، إنما هي نظام تأليفي يختلف عن أنساق الكلام الجاري"( ). وبقدر تفعيل الأنساق اللغوية بالمتضادات والمتباعدات في النسق الشعري الواحد بقدر ما تحقق بداعتها النسقية ومماحكتها الفنية وغنجها الجمالي ضمن نسقها الشعري؛ تقول الناقدة بشرى البستاني:" الشعر الجيد يعمل على خلق الحوارية ، والحث على فعل ما ، لعله فعل الإيمان بشيء، بقضية أو فكرة ما، بتواصل يعمل على رفع مستوى الذوق التقدمي والحداثي والجمالي لقرائه فضلاً عن إثارة الأسئلة ، وتحريض رؤاهم المعرفية والوجودية معاً"( ).
وبالنظر - فيما تحدثه تقنية " التضاد في النسق الشعري السابق من مؤثرات فنية وجمالية - نلحظ أن الشاعر اعتمد التضاد مولداً نسقياً للتنظيم النسقي الفاعل الذي يحيكه حياكة فنية متوازنة على صعيد توازي الأنساق المتضادة وتفاعلها وائتلافها:
[ جرس غائم/ جرسٌ دافئ]، و[ كالحنين/ كالندم] ، و[بنيناه / انهدم] ،

توازن فني توازن فني تضاد فني

وهذا الأسلوب يؤكد أن " الثنائيات المتضادة" عامل كشف فني -في قصائد العلاق- على مكمن إبداعها وتحفيزها النصي؛ لأنها تتغلغل في ثنايا النسق؛ وتغير مسار الرؤيا، ودرجة انحرافها النسقي، وهذا دليل أن " الثنائيات المتضادة ظاهرة شائعة في الكون والطبيعة وتدخل في تنظيم فعاليات الإنسان الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية ، وهي وليدة ظاهرة التضاد؛ إذ إن الشاعر في إيراد الثنائيات المتضادة يسعى إلى بناء هيكل صوري يزداد تأثيره ، وتبرز جماليته بالاتكاء على التضاد"( ). وهذا ما يجعل أسلوب التضاد فضاءً رؤيوياً أو مقوماً فنياً بارزاً من مقومات متخيلاته الشعرية الحافلة بالعطاءات التي تغني فضاءات قصائده خصوبة فنية وذروة سامقة ترقى فيها أعلى المستويات من الإثارة والتحفيز الفني.
7- جمالية المتخيل الشعري/ وبداعة الصور المركبة:

يخطئ من يظن: أن الشعرية سلاسة صورة ؛ وبساطة تركيب ؛ ووضوح مقصدية أو مدلول ؛ إنها تجذر على ما هو إبداعي ومعقد؛ إيحائي لا سطحي ومحدد ؛ فالشعرية لا ترتكز إلا على مركبات لغوية مبتكرة ؛ وأنساق تشكيلية مراوغة ، تتجذر على ما هو عميق ومكثف ومضاعف من الرؤى والدلالات ؛ لأن الشعر ليس تفعيلاً لرؤى سطحية ساذجة على الإطلاق بقدر ما هو خلق لرؤى مركبة تنطوي على حقل معرفي مبطن من الدلالات والرؤى والمحفزات النصية؛ والمرجعيات المعرفية الخصبة التي تفرزها التجارب الإبداعية الحقيقية؛ يقول أرشيبالد مكليش:" إن التحكم بأصوات الكلمات ومداورتها ليس وحده الذي يحدث ذلك التكثيف في المعنى الذي تكتسبه الكلمات في القصيدة"( ). إن الذي يكسبها التكثيف هذه الخصوصية الإبداعية التي تتبدى في طريقة التراكب الفني؛ وتنامي الطبقات الدلالية التي تفرزها هذه الأنساق المتراكبة التي تتفاعل ضمن نسقها الشعري ، ولا قيمة للشعرية بمعزل عن هذا الاختراق النسقي المتراكب من التشكيل وبداعة التركيب، يقول رجاء عيد:" القصيدة ليست حاملة المعنى بقدر ما هي دعوة إلى التخطي والتجاوز، وكأن كلماتها تحريض على استكشاف ما وراءها ؛ وهي شاهد ودليل على حتمية التجاوز"( ).

وبقدر ما يستطيع الشاعر التجاوز في أنساقه المتراكبة حاجز المألوف والمعتاد من الشكل النسقي المعتاد للقول بقدر ما يحقق لقصائده فاعلية مثلى من الإثارة والتحفيز النصي؛ وتبعاً لهذا "تحدد اللغة الشعرية وظيفتها على الأثر الجمالي الذي تتركه أو تنتجه"( ). ولا شعرية للغة بمعزل عن درجات تشكيلها الإبداعي وتمفصلها الشاعري المثير، الذي يحقق لها المتعة الجمالية في أثناء عملية التلقي.

وإن من يطلع على فاعلية الأنساق اللغوية المشكلة لقصائد العلاق على مستوى تراكب الصور وتمظهراتها الفنية، يدرك أن القصيدة- لديه- محصلة تفاعل الأنساق اللغوية المتراكبة أوالمتنوعة في نسقها الذي تتبلور فيه على أكثر من رؤية أو مدلول ، مما يجعلها بغاية العمق والتفاعل والامتداد النسقي وهذه الأنساق المتراكبة لا بد لها من حيوية رؤيا وخصوبة مدلول حتى ترقى إلى حيزها الإبداعي الفني الخصيب ؛ إذ لا قيمة للأنساق اللغوية المعقدة الخاوية من دفق المشاعر والتهاب الأحاسيس؛ ومن أجل ذلك ذهب أدونيس إلى القول:" الشعر، هو محاولة الشاعر أن يدرك ما يتعذر إدراكه، وانهماكه الأساس، إذن ، ليس في أن يصور الواقع، أو ينقله ، وإنما هو في أن يبقي اللغة متوفزة مرتبطة بحيوية الحدس كأنها التموج لا يهدأ"( ).

وإذا كان أدونيس قد عرف الشعرية بأنها الموج الذي لا يهدأ فإن " الغركان" قد عرف الشاعرية بوصفها موجه الأداء الفني وخصوصيته الإبداعية؛ من حيث فنية التشكيل وبداعة النسق اللغوي، المحفز للشعرية؛إذ يقول:" إذا كانت الشعرية في بعض أوجهها هي العناصر أو المقومات التي تؤلف فنية العمل الفني؛ وأدبية العمل الأدبي، وإن احتفاء النص بالشعرية هو ما يجعلها محط أنظار القراءات التأويلية ، فإن الشاعرية إحساس الفنان بمعنى الفن، وإحساس للأديب بمعنى الأدب، وذلك الإحساس الذي إذا استطاع الشاعر أن يجليه عبر عمل إبداعي استثنائي فستكون عناصر ذلك العمل مجلى الشعرية ومؤداها. فالشاعرية إحساس الذات بالأشياء وفيض الوجدان في التعبير بلغة ترسم الواقع بكثير من فائض معنى الأشياء الجميل، ليكون الجمال والإحساس به أبرز معاني الشاعرية"( ).

فالإحساس بالجمال، والوعي الجمالي بالأشياء هو ما يمنح الشعرية خصوصيتها الفنية ومداركها الشعورية العميقة؛ ومن هذا المنطلق؛ فإن إدراك جمالية العمل الأدبي تنطلق من بنيته من بداعة تشكله، من علائق ومؤثرات وروابط فنية يستثيرها المبدع في بنية عمله الفني، ولا يمكن كشفها إلا بمدارك المؤول المكمل لثمرتها الإبداعية وحصيلتها المعرفية؛ وتبعاً لهذا" فإن إدراك وفهم بنية العمل الفني وخصائصه، يتيح فحسب للملاحظ أن يتعرف أو يستدل على القيمة الفنية للعمل من بعض خصائصه وكيفياته القيمية التي تكون مؤسسة فيه، أما القيمة الجمالية – وإن كانت مثل القيمة الفنية مستقلة ماهوياً عن الإدراك ولا تنتمي إليه فإن حضورها نفسه يفترض وجود الذات المدركة؛ فالذات هنا لا تكون مفترضة لأجل التعرف على هذه القيمة أو الاستبدال عليها بطريقة غير مباشرة ؛ وإنما لأجل تأسيسها وجودياً (أي حضورياً) في خبرة جمالية، من خلال بعض الخصائص والكيفيات ذات القيمة الجمالية التي تكون قاصدة أو موجهة بشكل مباشر نحو الذات"( ).
وما ينبغي التأكيد عليه:

أن جمالية المتخيل الشعري- عند العلاق- ترتكز في جزء كبير منها على بداعة الصور المركبة وموحياتها النسقية المؤثرة في موجة التفاعل والتأثير الفني؛ فكما أن الشعرية ترتكز على بداعة النسق وفضاءاتها التخييلية العميقة؛ فإن الصور الشعرية المؤثرة ترتكز على بداعة الصور المركبة، ومستتبعاتها الفنية وما تثيره في النص من قيم مركزة على مستوى الشكل اللغوي للنسق؛ وقبل الخوض في الغمار البحثي لا بد من تحديد الأسس الجمالية التي ارتكز عليها انجاردن في تأسيسه للقيم الفنية؛ وشروط توافرها؛ وهي خمسة شروط حددها وأكد عليها:

1- القيمة الفنية ليست جزءاً ولا مظهراً لأي من خبراتنا التجريبية أو حالاتنا الذهنية أثناء الاتصال بالعمل الفني، لذلك فإنها لا تنتمي إلى مقولة اللذة أو المتعة.
2- القيمة الفنية ليست شيئاً ما ينسب إلى العمل على أساس من النظر إليها بوصفها أداة الإثارة هذه أو تلك من اللذة أو المتعة.
3- القيمة الفنية تكشف عن نفسها بوصفها خاصية نوعية منتمية للعمل ذاته.
4- القيمة الفنية توجد إذا – وفقط إذا- كانت الشروط الضرورية لوجودها حاضرة في كيفيات العمل ذاته.
5- القيمة الفنية هي ذلك الشيء الذي يكون حضوره سبباً في أن يتخذ العمل صورة خاصة من الوجود تميزه عن كل النتاجات الثقافية الأخرى"( ).

وبهذا التصور أو المنحى الرؤيوي؛ تعد هذه الشروط المقومات أو المحفزات النصية التي تسهم في تحفيز المنتوج الجمالي للعمل الأدبي، ودليلنا أن "الحس الجمالي الذي ينبثق في النفس تجاه الموضوع الجميل أو الشيء الجميل لا يجعل متلقيه منتبهاً ليتسائل عن منفعة، لأن الشعور الجمالي يستولي على ذاته ، ولا يحتاج إلى حاجة تتجاوز الشعور بالمتعة الجمالية .. ومن ثم؛ فالجمال- في جوهره نظام - تناسقي، فالفنان يتدخل في المادة المهوشة وغير المنظمة فيعطي أو يمنح لهذه المادة انسجاماً ، فيختفي الاضطراب في الفنون التشكيلية ؛ وبالمثل؛ فإن فن الشعر يعمد إلى خلق تناسق بين اللغة المبعثرة؛ فيتراكب من بين أعدادها وكمها المطلق ما يشكل تناسقاً أو انسجاماً بين عدد من مفرداتها وجملها لتصاغ في إبداع تناسقي ، وكأننا أعدنا تنظيماً داخلياً للكلمات أو اللغة بوجه عام"( ).

وتبعاً لهذا؛ فإن التراكب الفني للأنساق اللغوية عند العلاق – يجعل الأنساق متوازنة خاصة بفاعلية الصور المركبة التي تعمق فاعلية المتخيلات الشعرية امتداداً وعمقاً فنياً، تستثير المتلقي، وترفع درجة حساسيته وذوقه الفني، كما في قوله:

" أيُّها الرمحُ الذي
يعولُ مثلَ الذئبِ، لم يبقَ نديمٌ
غيرُ هذا الموتِ
بينَ الرملِ والذكرى:
دماءُ الخيل
قدامي، وأشلاءُ
المغنين ورائي
كن رشيقاً ، مثل ظبي ،
أيُّها الموتُ
وكن كامرأةٍ
تقبلُ من مملكةِ
الرمانِ ، كي تمسحَ
بالمسكِ خطايايَ،
وبالدموع ردائي.."( ).

بداية ، نشير إلى أن الصور المركبة – في قصائد العلاق- هي بؤرة تفاعل المتخيلات الشعرية وتعميقها النسقي، بوصفها الجامع الفني لشذرات المتخيلات التصويرية الجزئية وتفاعل حيثياتها النسقية ؛ وتبعاً لهذا تتحدد بلاغة الخطاب الشعري- لدى العلاق – بمقدار تفاعل المتراكبات النسقية وانسجامها على مستوى الأنساق الاستعارية والتصويرية المتراكبة أو المعمقة ؛ وهذا دليل أن اللغة الشعرية "ليست إرشادية بمقدار ما هي شعرية ؛ وهي شعرية كلما ابتعدت عن الإرشادية" ( ). وتزداد خصوبتها الجمالية كلما تجاوزت إشارتها أو علامتها اللفظية إلى مخزونها الدلالي؛ وما ينضاف إلى هذه المخزون من جراء النسق الشعري الجديد المشكلة فيه ؛ وهذا ينعكس- بدوره -على الصور المركبة ؛ فبمقدار ما تتجاوز هذه الصور سطحية المدلول والأشكال النسقية التصويرية المعتادة بمقدار ما تستثير الشعرية وتفجر مكنوناتها الداخلية؛ وهذا ما نلمسه- عند العلاق- في صوره المركبة ومتخيلاتها الشعرية اللامتوقعة.
وبالنظر- فيما تحدثه الصور المركبة من مؤثرات ودلالات إيحائية في المقبوس الشعري -نلحظ أن فاعلية المتخيلات الشعرية تزداد عمقاً ، عبر حيثيات الصور المركبة التي تنطوي على أ كثر من شقين في التشبيه ، أو أكثر من طرفين في الإسناد ؛ وفق نمط مكثف من الرؤى والدلالات ، والمحفزات النصية ، كما في الصور المركبة:
مثل ظبيٍ
• كن رشيقاً كامرأةٍ
تقبل من مملكةِالرمَّان
إن هذا التراكب الفني- في الصور الشعرية- هو ما يمنحها ألقها الفني وتناميها الجمالي ، ويفتح فضاء متخيلها الشعري ؛ إذ إن القارئ قد يذهب ذهنه إلى النسق الأول من النسق التصويري المتراكب؛ ثم سرعان ما يفاجأ بالنسق الثاني ، ثم الثالث، محققاً المفاجآت النسقية، وانفتاح فضاء متخيلها الشعري ؛ وهذه الخصيصة هي خصيصة جمالية في قصائد العلاق تفعل قصائده على المستويات كافة.
8- جمالية المتخيل الشعري/ وبداعة التلاعب أو التحوير النسقي في التاريخ أو التراث:
إن لجوء الشاعر المعاصر إلى التاريخ، أو تحوير الأحداث التاريخية في مضمنات قصائده ومركباتها الفنية لدليل على أهمية الانفتاح على المرجعيات التاريخية في لغة الشعر ؛ فالشاعر الحقيقي لا ينفصل عن التاريخ؛ وإنما يكون التاريخ منطلقاً تحفيزياً له لمحاكمة الواقع وتطوير منظوراته ؛ فما الماضوية إلا المقوم الرافد أوالمحفز الدائم للرؤى المستقبلية ؛ لتجاوز ما هو آني إلى ما هو مستقبلي ؛ فالمعاصرة انفتاح في الرؤية؛ لا تستغني عن الماضي أو مفرزات التراث ؛ تقول الناقدة بشرى البستاني :" إن لجوء الشعر إلى الفنون الأخرى كان واحداً من وسائل التعبير عن ضرورة تطوير الشكل الشعري، وإثراء مضامينه ؛ فللشكل وظائف تقترن به ، وتتحول بتحولاته ، وهكذا ، كان الشعر قد لجأ إلى التاريخ ، والأسطورة ، والحكاية بأنواعها ليس نقلاً لوقائع وحكايات سابقة، بل كشفاً عن كيفية التوظيف للنفاذ إلى رؤية معاصرة ، لمعاينة الواقع ، وتحليل مكوناته في ضوء النماذج والمكونات الحضارية العليا في تاريخ الإنسان ؛ وما نظرية اقتراض الفنون بعضها من بعض وتأثيرها إلا محاولة لدمج التجربة الإنسانية في كلية مخصبة، وحركية نابضة بحيوية الثراء والتلوين الطافح بلواعج الروح الإنسانية وتوقها المشتعل لاختراق المجهول ورفع سدول الظلام عن كوامنه"( ).

والشاعر المعاصر لجأ إلى التاريخ بوصفه متكأً فنياً ، لتحفيز رؤاه ومنظوراته المعاصرة ، ليوائم بين واقعه وماضيه ، ورؤاه المستقبلية للأحداث والوقائع المعاصرة ؛ وتبعاً لهذا؛ يمكن أن نعد النص الإبداعي وثيقة تاريخية تؤسس لمردوده المستقبلي ؛ إذ إن " النص الإبداعي ليس مجرد إيصال لكاتبه هدف مسبق يريد أن يحدثه كالتأثير في قارئه ؛ وإنما هو مشروع ، ويريد كاتبه أن يدخل القارئ في مشروع دلالي متحرك ، لا أن "يعلمه " ، أو ينقل إليه " تأثيراً فكرياً أو سياسياً؛ والنص الإبداعي ، إذن ، ليس تلبية أو جواباً ، وإنما هو ، على العكس ، دعوة أو سؤال ، وقراءته هي حوار معه ، لذلك لا بد من أن تكون إبداعية ، هي أيضاً . وهو، بالأحرى ، ليس وثيقة ، بل لقاء بين سؤال وسؤال ، لقاء بين المبدع والقارئ الذي هو مبدع آخر"( ).

وتبعاً لهذا المنطلق؛ فإن ما يحفز النسق الشعري تحوير الحدث التاريخي أو المدلول التاريخي للحادثة المستحضرة أو الشخصية التاريخية المستدعاة، ليحكي على لسانها واقع تجربته ، بربطها بمثيرات تجربته الماضوية ؛ لخلق المفاعلة النصية وموازاتها ضمن النسق الشعري .

وقد لجأ العلاق إلى التحوير النسقي للأحداث التاريخية أو الشخصيات المعاصرة؛ ليحكي على لسانها واقعه المعاصر وإحداثياته الشعورية العميقة ، بمتخيلات نسقية تحايث واقع الشخصية؛ وتنأى عنها أحياناً؛ كما في قوله:

" ليلُ البئرِ غربانُ من الفولاذِ تنقضُّ
على يوسفَ: هل يوسفُ
طفلُ البئرِ أم حيرتُنا
الكبرى؟
.........
أقمارٌ مدمَّاةٌ .. سماواتٌ من الأشلاءِ،
من كانَ قتيلَ البئرِ، يا يوسفُ
فجرٌ همجيٌّ ورياحٌ مبهمة
أيُّنا شمَّ غبارَ الشجرِ المظلمِ يدنو
أينا شمَّ دمَهْ؟"( ).

بداية نشير إلى:أن التلاعب بالأحداث والشخصيات التاريخية- في القصائد العلاقية- هو لإثراء الجانب الفني ، أو التداولي النصي، لاستنهاض ألقها الشعوري وامتدادها النصي، فالحدث التاريخي لدى العلاق- هو محايث للواقع المعاصر، أو مدبلج لصيروة اللحظة الآنية وإبراز كينونة المغزى؛ واستشراف آفاق الرؤيا المستقبلية ؛ لتبدو الشخصية المستحضرة بؤرة فاعلية الحدث المعاصر ؛ أو الواقع الراهن.

وبالنظر – في مستوى فنية الاستحضار الحداثاوي الفني للرموز التاريخية في المقبوس الشعري- نلحظ أن العلاق اعتمد الرمز الديني التاريخي" يوسف" ؛ ليكون محور الحراك التخييلي والنبض الشعوري في القصيدة؛ ليعير على لسان يوسف بمساءلته وحواره التأملي المفتوح عن واقعنا المظلم، رابطاً بين حيرة يوسف ومأساته وحيرتنا وضحالة رؤيتنا الحبيسة ضمن غياهب جب الجهل المظلم والتخلف والظلم والهشاشة والعقم والاضمحلال؛ ليستشرف- من خلال أبعاد هذه الشخصية- واقعنا المهترئ الراهن العقيم الذي لن يؤذن بالتغيير والثورة على الطلاق؛ وهذه المحاورة الفنية الكاشفة في عملية الاستحضار الفني تسهم في خلق التحاور الفني الكاشف:" وهو تحاور الوعي في لحظة التجلي[ بين الحدث الماضوي/ والحدث الآني الراهن] لتشكيل فضاءات المعنى، فتكتسب الدوال شعريتها من انفتاحها على ترجمة الوعي، على أنه قراءة للمستقبل ، فشعرية الغد تتمخض من اقتدار الدوال على تهشيم تضاريس الزمن الآني المثقل بالتناقضات والنتوءات ، إلى زمن آخر تتلاشى فيه التناقضات ، وتصقل النتوءات مستنبطاً هاجس صيرورته في ضوء حدث الذات، وإيمانها المطلق بعقلانيتها التي تنفي وجود أي ظاهرة أو رؤية، إذا لم تتسلح بموجهات صيرورتها"( ).

• نتائج واستدلالات:
1- إن جمالية المتخيلات الشعرية- في القصائد العلاقية- تنطلق من مثيرات النسق الجزئية ، وصولاً إلى مثيراته الكلية ، التي تتمحور حول جوهر الرؤيا ومحور تجسيدها وتحفيزها وانفتاحها النصي ؛ لتؤكد تحولاتها النصية الفاعلة على مستوى الجزء وصولاً إلى الكل؛ وتبعاً ؛لذلك ؛فأي تحول في نسقها الداخلي ومضمراتها النصية سينعكس لا محالة على جوهر الرؤية ومضموناتها من الغنائية إلى الدرامية إلى السردية إلى الوصفية، وهذا دليل تفاعل متخيلاتها وملفوظاتها النسقية تفاعلاً يشي باكتنازها الرؤيوي وحيثياتها التفعيلية المؤثرة.
2- إن اختزال الرؤى في مضمار النسق الواحد إلى رؤية نصية واحدة ، لدليل أن فضاء متخيلها أحادي الجانب، أو بسيط المغزى؛ لهذا؛ اعتمد العلاق النسق الشعري المركب لينفتح في فضاءات متخيلاته الشعرية على رؤى عديدة، لا تكاد تدرك إحداها حتى تنزلق منها الأخرى، مما يجعل القارئ في بحث دائب وحراك مستمر؛ وهذا شأن النصوص الإبداعية المكتنزة أو المعبأة فنياً بالتقنيات والمؤثرات الفنية التي تمثلها نصوص العلاق خير تمثيل وتجسيد إبداعي مثمر.
3- إن حرص العلاق على تشعير قصائده بتراكم الأسئلة ومحفزاتها النصية جعلها ذات حراك دلالي مستمر ، لتنفتح على ما لا نهائية التأويل ، والكشف، والامتداد النصي؛ وبهذا، تكمن قدرتها وفاعليتها الشعرية، فكثرة التشعبات النصية اللامبررة قد تضعف شعرية القصيدة وتحطم سيرورتها الإبداعية المحفزة للقارئ.
4- إن منظورات العلاق المنفتحة في التثقيل الفني للألفاظ والصور المتراكبة ، جعل قصائده غابة مكثفة من الاحتمالات والرؤى النصية المنفتحة؛ وهذا مصدر غناها وثرائها الفني.
5- إن فاعلية التشكيلات اللغوية التي تفجرها أنساقه التصويرية تضاعف من جمالية متخيلاتها الشعرية؛ مما يجعلها قمة في تبيان زخم التجربة الشعرية؛ وأهم ما تنطوي عليه من بعد معرفي ووجداني وتأملي تخطها على مستوى أنساقها الجزئية والكلية ، من أجل أن تحقق وظيفتها الشعرية وبؤرتها الرؤيوية الخصبة؛ وهذا ما يجعل قصائد العلاق ذات مرجعية خالقة لمتحولاتها النصية في المخيلة الإبداعية .


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى