الخميس ٢ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠
بقلم رامز محيي الدين علي

فلسفةُ الحُبِّ والجمالِ في الفكرِ والأدبِ (دراسةٌ نظريّةٌ)

الفصلُ الثّاني- فلسفةُ الجَمالِ:

مدخلٌ:

اختلف النّاسُ في ماهيةِ الجمالِ اختلافَهم في الأذواقِ والمشاربِ، واختلفتْ مقاييسُ الجمالِ ومعاييرُه باختلافِ الأممِ والشُّعوبِ، وليس ثمّةَ جزءٌ من أجزاءِ هذا الكونِ أو شِلْوٌ من أشلائِه إلّا وأُوِدع فيه معنىً من معاني الجمالِ أو نُسِب إليه عنصرٌ من عناصرِ الجاذبيّة.

والإحساسُ بالجمالِ قديمٌ قدمَ الوجودِ البشرىِّ على وجهِ البسيطةِ، ويتّضِحُ ذلك من خلالِ الرُّسوماتِ والزّخارفِ الّتي تزخرُ بها الكهوفُ والآثارُ العمرانيّةُ للحضاراتِ القديمة، كما اهتمَّ الفلاسفةُ بالجمالِ على مرِّ العصورِ اهتماماً كبيراً، فنشأ في الفلسفةِ فرعٌ سُمِّي علمَ الجمالِ، كما نشأ في علمِ النّفسِ فرعٌ مستقِلٌّ أطلقُوا عليه تسميةَ سيكولوجيّةِ الجمالِ تهتمُّ بدراسةِ الجمالِ دراسةً تجريبيَّةً وتُعنى بتحديدِ المبادئِ التي يُبنى عليها التَّعبيرُ الجماليُّ بمختلِفِ وسائلِه.

أولاً- الجمالُ في اللُّغة:

نستعرضُ هنا مفاهيمَ الجمالِ لغويّاً؛ لنقفَ على معنى كلمةِ الجمالِ وأصلِها ومشتقّاتِها، وذلك من خلالِ البحث في مختلفِ معاجمِ العربيّةِ قديمةً وحديثةً، ومن خلالِ الغَورِ في آراءِ اللُّغويّين العربِ في مختلفِ عصورِهم.

فقد جاءَ في (معجمِ المعاني الألكترونيِّ)

أنّ الجَمالَ: (اسمٌ) مصدرُ جَمُلَ، جَمِلَ.

◦جَمَالُهَا فَاتِنٌ: حُسْنُهَا، بَهَاؤُهَا.

◦جَمَال : اِسْمُ عَلَمٍ للذُّكُورِ.

◦الجَمَالُ: (عند الفلاسفةِ) : صِفَةٌ تُلْحَظُ في الأَشياءِ، وتبعثُ في النَّفسِ سُرُوراً ورِضاً.

◦جَمَالَكَ: اصَبِرْ وتجمَّلْ.

◦وجَمَالَكَ أَلاَّ تَفْعَلَ هذا: لا تفعلْهُ، والتزِم الأَمْرَ الأجْمَلَ.

◦صفةٌ تُلحظُ في الأشياءِ، وتبعثُ في النُّفوسِ سروراً أو إحساساً بالانتظامِ والتّناغمِ، وهو أحدُ المفاهيمِ الثَّلاثةِ التي تُنسبُ إليها أحكامُ القِيمِ: الجمالِ والحقِّ والخيرِ، عكسُه القبحُ، والجمالُ بلا طِيْبةٍ لا يُساوي شيئًا، إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ [حديث].

◦علمُ الجمالِ: (في الفلسفةِ والتّصوُّفِ) بابٌ من أبوابِ الفلسفةِ، يبحثُ في الجمالِ ومقاييسِه ونظريّاتِه.

◦مذهبُ الجمالِ: (في الفلسفةِ والتَّصوُّفِ) اتِّجاهٌ يُعليْ من شأنِ الجميلِ، ويجعلُ من قيمِ الجمالِ أعلى قيمِ الحياةِ، ويطلبُ الجميلَ لذاتِه لا لمنفعتِه.

◦ملِكةُ الجَمالِ: اسم يُطلقُ على الآنسةِ التي تُنتخَبُ في مبارياتٍ دوليَّةٍ أو محليَّةٍ، وتتحقّقُ فيها كلُّ مقاييسِ الجمالِ المتعارفِ عليها.

والجمالُ مصدرُ الجميلِ، والفعلُ جَمُلَ، والجمالُ في قولِه تعالى: (ولَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ) (النّحل: 6)، كلُّ ما يُتجمَّلُ به ويُتزَيَّنُ. والجمالُ:الحسنُ. وقد جمُلَ الرَّجلُ – بضمِّ الميمِ - جمالاً فهو جميلٌ، والمرأةُ جميلةٌ، وجملاءُ أيضا، عن الكسائيِّ. وأنشد:

فهي جملاءُ كبدرٍ طالعٍ
بزّتِ الخلْقَ جميعاً بالجمالِ

وقولُ أبي ذُؤيبٍ:

جَمالَكَ أَيُّها القَلبُ القَريحُ
سَتَلْقى مَن تُحِبُّ فَتَستَريحُ

يريدُ: الزمْ تجمُّلَك وحياءَك، ولا تجزعْ جزعاً قبيحاً. قال علماؤُنا: فالجمالُ يكونُ في الصُّورةِ وتركيبِ الخِلْقةِ، ويكون في الأخلاقِ الباطنةِ، ويكون في الأفعالِ.

فأمّا جمالُ الخلقةِ، فهو أمرٌ يُدركُه البصرُ، ويُلقيهِ إلى القلبِ متلائماً، فتتعلَّقُ به النَّفسُ من غيرِ معرفةٍ بوجهِ ذلك ولا نسبتِه لأحدٍ من البشرِ.

وأمّا جمالُ الأخلاقِ، فكونُها على الصِّفاتِ المحمودةِ من العلمِ والحكمةِ والعدلِ والعِفّةِ، وكظمِ الغيظِ، وإرادةِ الخيرِ لكلِّ أحدٍ.

وأمّا جمالُ الأفعالِ، فهو وجودُها ملائِمةً لمصالحِ الخَلْقِ، وقاضيةً لجلبِ المنافعِ فيهم، وصرفِ الشَّرِّ عنهم.

وجمالُ الأنعامِ والدَّوابِّ من جمالِ الخِلقةِ، وهو مرئيٌّ بالأبصارِ موافقٌ للبصائرِ . ومن جمالِها كثرتُها، وقولُ النَّاسِ إذا رأَوهَا: هذه نِعمُ فلانٍ، قاله السّدي. ولأنّها إذا راحتْ توفَّرَ حسنُها، وعظُمَ شأنُها، وتعلَّقتِ القلوبُ بها؛ لأنَّها إذ ذاكَ أعظمُ ما تكونُ أسنِمةً وضُروعاً، قالَه قُتادةُ. ولهذا المعنَى قدَّم الرّواحَ على السّراحِ؛ لتكامُلِ درِّها وسرورِ النَّفسِ بها إذ ذاكَ. واللهُ أعلمُ.

وروَى أشهبُ عن مالكٍ، قال: يقولُ اللهُ - عزَّ وجلَّ – "ولكم فيها جَمالٌ حين تُريحونَ وحينَ تسرحُون"؛ وذلك في المواشِي حين تروحُ إلى المرعى وتَسرحُ عليه. والرَّواحُ رجوعُها بالعشِيِّ من المرعى، والسَّراحُ بالغداةِ، تقولُ: سرَّحتُ الإبلَ أسرِّحُها سرْحاً وسُروحاً، إذا غدوتَ بها إلى المرعَى فخلَّيتَها، وسرحَتْ هي. المتعدّي واللّازمُ واحدٌ.

وقال ابنُ سِيْده: الجمال الحُسْنُ يكون في الفعلِ والخلُقِ، وقد جَمُل الرّجلُ -بالضَّمِّ- جمالاً فهو جميلٌ، والجُمَّالُ -بالضّمِّ والتّشديدِ- أجملُ من الجميلِ، وجَمَّلَه أيْ زيَّنهُ، والتَّجمُّلُ: تكلُّفُ الجميلِ.

وقال ابنُ الأثيرِ: والجمالُ يقعُ على الصُّورِ والمعاني؛ ومنه الحديثُ: "إنَّ اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمالَ"، أي حَسَنَ الأفعالِ كاملَ الأوصافِ. والمُجَاملةُ: المعاملةُ بالجميلِ، ويتَّفقُ رأيُ مجدِ الدّينِ الفيروزِ أبادي والخليلِ بنِ أحمدَ مع الرّأيِ السّابقِ في تعريفِ الجمالِ وأنَّه مصدرُ الجميلِ الذي يعبِّرُ عن البهاءِ والحُسْنِ.

وفى (مُجمل اللُّغة) لأحمدَ بنِ فارسٍ بنِ زكريّا، و(المصباحِ المنيرِ) لأحمدَ بنِ محمّدٍ بنِ عليٍّ الفيوميِّ المقَّريِّ و(جمهرةِ اللُّغةِ) لمحمَّدَ بنِ الحسنِ بنِ دريدٍ: الجمالُ ضدُّ القُبْحِ، والجميلُ ضدُّ القبيحِ، وأجملتُ الشَّئَ إذا حصّلتُه، ويُقال: جمالَكَ أيْ أجمِلْ ولا تفعلْ ما يشينُكَ.

والجمَاليُّ: الرّجلُ العظيمُ الخلقِ، قال سيبويه: الجمالُ رقّةُ الحسنِ، والأصلُ جمالَه بالهاءِ، لكنَّهم حذفُوا الهاءَ تخفيفاً لكثرةِ الاستعمالِ، وتجمَّلَ تجمُّلاً: تزيَّنَ وتحسَّنَ إذا اجتلبَ البهاءَ والإضاءةَ، وأجملْتُ الشَّيءَ إجمالاً: جمعْتُه من غيرِ تفصيلٍ عن تفرقةٍ، وأكثرُ ما يُسْتعملُ ذلك في الكلامِ الموجَز.

أمّا في (مُختار الصِّحاحِ) لمحمَّدَ بنِ أبي بكرٍ بنِ عبدِ القادرِ الحنفيِّ الرَّازي، و(المنجدِ في اللُّغة) للويس معلُوف: الجمالُ: الحُسْنُ، وجَمُلَ جَمَالاً: حَسُنَ خَلْقاً وخُلُقاً فهو جميلٌ وهي جميلةٌ، وجَمَّلَ: صيَّره جميلاً، وجامَلَ: أحسنَ معاملتَه وعشرتَه أو عاملَه بالجميلِ ولم يُصْفِه الإخاءَ، وأجملَ الشَّيءَ: حسَّنَه وكثَّره، وفى الكلامِ: تلطَّفَ، وفى الطّلبِ: اعتدلَ. والجميلُ: الإحسانُ والمعروفُ، الجمالُ: الأجملُ من الجميلِ، المجاملةُ: المعاملةُ بالجميلِ.

وفي (المعجمِ الوجيز): (جَمُلَ) جمَالاً: حَسُنُ خلُقُه. (أجملَ في الطَّلبِ): أتَّأدَ واعتدلَ، وفى الحديثِ "أجمِلُوا في طلبِ الرِّزقِ، فإنَّ كلّاً مُيسَّرٌ لما خُلِقَ له"، والشَّيءَ: جمعَه عن تفرُّقٍ، (تجمَّلَ): تكلَّفَ الحُسْنَ والجمالَ واتَّصفَ بما يُجمِّلُ.

وفى معجمِ (ألفاظِ القرآنِ الكريمِ) وقاموسِ (الألفاظِ والأعلامِ القرآنيّةِ): الجمالُ البهاءُ ورقَّةُ الحُسْنِ، والصَّبرُ الجميلُ الّذي لا تبرُّمَ معهُ، والصَّفحُ الجميلُ الّذي لا عتبَ فيه، والسَّراحُ الجميلُ: ما كان مصحوباً بإحسانٍ، وهو كنايةٌ عن الطَّلاقِ، والهجْرُ الجميلُ: الذي لا أذىً فيه.

ممّا قدَّمناهُ من تعريفاتٍ للجمالِ عند علماءِ اللُّغة نرى أنَّ الجمالَ: مصدرُ الجميلِ، وضدّه القُبْحُ، ويَعنِي: الرِّقّةَ والحُسْنَ والبهاءَ، وهو ما يبعثُ في النّفسِ الإنسانيّةِ السُّرورَ والارتياحَ والاطمئنانَ والرِّضا، كما نرى أنَّه ليس ثمَّةَ خلافٌ بين الحُسْنِ والجمالِ، ويمكنُنا القولُ: إنَّ الجمالَ هو ما يُدْرَكُ من خلالِ النَّظرةِ الأولى إلى الشَّيءِ الجميلِ، أمّا الحُسْنُ فهو ما يتناولُ الأجزاءَ بالتَّفصيلِ، وهو ما يُدرَكُ بالتّأمُّل، وإعادةِ النَّظرِ في الشَّيءِ ودقّةِ التَّمحيصِ؛ وقد رأيْنا معانيَ عديدةً للجمالِ، منها: الملاحةُ والوَسامةُ والنُّضرةُ والوضاءةُ والبهجةُ والمسرَّةُ، لكنَّها لم تكنْ في حقيقةِ الأمرِ سوى مترادفاتٍ لمعنىً واحدٍ هو الجمالُ الذي لا يُمكن صياغتُه في سبيكةٍ محدَّدةٍ من التَّعريفِ؛ لأنَّ مقاييسَه تختلفُ باختلافِ الأزمنةِ والأمكنةِ و النَّظراتِ والأذواقِ.

ثانياً- الجمالُ اصطلاحاً:

إنَّ الجمالَ بوجهٍ عامّ هو صفةٌ نُدركُها في الأشياءِ، فتبعثُ في النَّفسِ سروراً ورضاً، والجمالُ على وجهِ الخصوصِ هو إحدى القيمِ الثّلاثِ التي تؤلِّفُ مبحثَ القيمِ العُليا: الحقِّ والخيرِ والجمالِ. والجمالُ عند الفلاسفةِ المثاليِّين: صفةٌ قائمةٌ في طبيعةِ الأشياءِ، فهي ثابتةٌ لا تتغيَّرُ، ويُصْبحُ الشَّئُ جميلاً أو قبيحاً في ذاتِه، بغضِّ النَّظرِ عن ظروفِ مَن يُصْدِرُ الحُكمَ.

أمّا الطّبيعيُّون، فإنّهم يرَون أنَّ الجمالَ مصطلحٌ تعارفَ عليه النَّاسُ متأثِّرينَ بظروفِهم؛ ولذلك فإنَّ الحكمَ بجمالِ الشيءِ أو قبحِه يختلفُ باختلافِ البشر الّذين يُصدِرونَ الحكمَ.

ويُعَرَّفُ الجمالُ بأنَّه إدراكُ العلاقاتِ المريحةِ التي يَستجيبُ لها الإنسانُ في شتّى أنواعِ العناصرِ، سواءٌ أكانت متوفِّرةً في الطّبيعةِ من صنعِ الخالقِ العظيمِ، أو كان الإنسانُ – الفنَّانُ – هو الذي صاغَها في قوالبَ مختلفةٍ من الفنِّ التَّشكيليِّ والعمارةِ والموسيقا والرَّقصِ والغناءِ والشِّعرِ والقصَّة والمسرحيّةِ.

ويتضمَّنُ إدراكُ الجمالِ تعميماً على سائرِ الأشياءِ: طبيعيّةً، أو مصنوعةً، وإنّ ما يجعلُ الشّيءَ جميلاً مجموعةٌ من الخصائصِ، إذا توافرتْ دلَّ ذلكَ على جمالِ هذا الشّيءِ، وقد اهتمَّ الجماليُّون بهذه الخصائصِ منذُ العصورِ القديمةِ حتّى وقتِنا الحاضر.

وممّا تقدَّمَ يمكنُنا القولُ: إنَّ الجمالَ مظهرٌ هامٌّ من مظاهرِ رقيِّ الحضارةِ وتقدُّمِها، ونقيضُه القُبْحُ وهو مظهرٌ يدلُّ على التّخلُّفِ والانحطاطِ، ومن المؤكَّدِ أنَّ الإنسانَ توّاقٌ إلى الجمالِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وممَّا يؤكّدُ ذلك سعيُ الإنسانِ الدَّائمُ إلى البحثِ عن الجمالِ وتذوُّقُهُ والإحساسُ به، والاستمتاعُ بالأشياءِ الجميلةِ.

ثالثاً- فلسفةُ الجمالِ في الفكرِ الغربيِّ:

يُعدُّ اليونانيُّون أوّلَ مَن اهتمَّ بالظّاهرةِ الجماليَّةِ اهتماماً كبيراً، كما نرى ذلك عندَ (هيروقليطس) و(سقراط)، و(أفلاطون)، و(أرسطو)، وغيرِهم.

أمّا (هيروقليطس)، فقد جعلَ من الإلهِ المثالَ الأعلى للجمالِ، وشدّد على استحالةِ قيامِ علمٍ يُعنى بالجمال، نظراً لنسبيَّة الأحكامِ الجماليّة لدى النّاس.

ويتّفق (سقراط) مع (هيروقليطس) في مبدأ النّسبيّةِ، لأنّه يرى أنّ للجمالِ مثلاً أسمى يستحيلُ أن تبلغَ الأشياءُ مرتبتَه، ويتجلّى هذا المثلُ الأعلى في الفضيلةِ، وكان يؤمنُ بمبدأ الغائيّةِ حين رأى أنّ الشّيءَ لا يكون جميلاً إلا إذا اقترنَ بمنفعةٍ، وإلّا اعتُبر قبيحاً.

وقد استطاعَ سقراطُ أن يضعَ الشُّروطَ الأساسيّةَ لنظريّةٍ إيجابيّةٍ في الفنِّ ترى أنّ الفنَّ سواءٌ ما كان منه فنّاً جميلاً أو فنّاً صناعيّاً له وظيفةٌ تخدمُ الحياةَ الإنسانيّةَ، ولا سيّما الحياةَ الأخلاقيّةَ.

أمّا الجمالُ فهو جمالٌ هادفٌ، إذ أنّ الجمالَ هو ما يحقِّقُ النّفعَ أو الفائدةَ أو الغايةَ الأخلاقيّةَ العليا. غيرَ أنّ سقراطَ لا يأبهُ بالجمالِ الحسّيِّ الذى يتغنّى به فنّانو عصرِه وشعراؤُه قدرَ اهتمامِه بجمالِ النّفسِ والخلُقِ الفاضلِ. فنجدُه يتساءلُ باحثاً عن الجمالِ: (أيمكنُ ألّا ينطوي هذا الجمالُ السّاحرُ على نفسٍ تناسبُه جمالاً وخيراً؟).

وأمّا معاييرُ اللّذّةِ الجماليّةِ التي فصلتْ بين الجمالِ وقيمِ الحقِّ والخيرِ ، فلم تكنْ في رأيِ سقراط سوى نوعٍ من أنواعٍ التّدهورِ الفنّي والانحلالِ الخلقيِّ، فالمعيارُ الحسّي المرتبطُ بنظريّةِ اللّذّةِ الجماليّةِ عند (جورجياس) وغيرِه من الفنّانينَ والخطباءِ، والقواعدُ المدروسةُ التي كانوا يحفظونَها عن ظهرِ قلبٍ ويعلّمونَها النّاسَ، كانت كلُّها في رأيِ سقراط لا تكفي لخلْقِ الفنِّ الأصيلِ، وتفتقدُ إلى العنصرِ الجماليِّ الذى تَنطوي عليه أخلاقيّةُ الإنسانِ.

وأمّا أفلاطون فقد استطاعَ أن ينحتَ للجمالِ الذي يَنتمي إلى عالمِ المحسوسِ أو المعقولِ مثالاً هو (الجمالُ بالذَّات)، ومن ثمّ استطاعَ أن يربطَ بين الحقِّ والخيرِ والجمالِ. ويُعدُّ أفلاطون من الفلاسفةِ الجماليّينَ الموضوعيّين المثاليّين الذين يَرون إمكانيةَ تحديدِ أساسٍ موضوعيٍّ للحكمِ الجماليِّ الذي يقتضي أن يكونَ واحداً عندَ أغلبِ النّاسِ حين تقييمِ شيءٍ معيَّن، وبالتّالي فإنَّ مصدرَ هذا الحكمِ هو مثالٌ واحدٌ في العالمِ المعقولِ وهو (مثالُ الجمالِ بالذَّات).

وقد بحثَ أفلاطون في فكرةِ الجمالِ، وكيف تتمثّلُ في الموجوداتِ المحسوسةِ والأعمالِ الفنّيّة، إلاَّ أنَّها مثالٌ خالدٌ في عالمِ المُثُلِ أو العالمِ الذي يفوقُ الواقعَ، ويُشيرُ أفلاطون إلى أنَّ الجمالَ: " أمرٌ موهومٌ بالحقيقةِ، موجودٌ بالعرَضِ، فهو عرضٌ ظاهرٌ تشعرُ به الحواسُّ أو إحداها فترتاحُ إليه، وتُسَرُّ به النَّفسُ، ويَنْشَرحُ له الصدرُ، ويبتهجُ به القلبُ فهو مشترَكٌ بين الحواسِّ كلِّها"، والجمالُ لا يمكنُ حصرُه في نطاقٍ، ولا تحديدُه بحدودٍ معيَّنةٍ. وفى ذلك يقولُ أفلاطون: "الجمالُ الحقيقيُّ إنَّما هو عاملٌ غيرُ محسوسٍ، هو كامنٌ في نفسِ الشَّخصِ، في الفيضِ الرُّوحيِّ الذي ينبثقُ من ملامحِه، لأنَّ الشَّخصيَّةَ تنفخُ في الملامحِ روحَها، وتجعلُها ذاتَ معنىً وتأثيرٍ في النّفسِ".

ويري أفلاطونُ -كما أشارَ (دنيس هويسمان) مؤلِّفُ كتابِ علمِ الجمالِ(الإستطيقا) أنَّه في أصلِ كلِّ جمالٍ لا بدَّ من وجودِ جمالٍ أوّلَ، وحضورُه هو الذي يجعلُ الأشياءَ الجميلةَ جميلةً على أيِّ نحوٍ كانتِ الصِّلةُ التي تقومُ بين الأشياءِ الجميلةِ وذلك الجمالِ الأوّلِ، والحبُّ هو الجمالُ المثاليُّ، غيرَ أنَّ الجذبَ الرّوحيَّ الموصِلَ إليه ليس بالأمرِ البسيطِ، وليس هذا فحسبُ، فإنَّ محبّةَ القواعدِ الأخلاقيّةِ تترقّى إلى حبِّ الأخلاقِ المطلقةِ، وسرعانَ ما يقدِّرُ المبتدِئُ الهُوَّةَ التي تفصلُ بين الأخلاقِ والمعرفةِ، وإذ ذاكَ يقذفُ بنفسِه دونَ رويَّةٍ؛ للبحثِ عن معارفَ مختلفةٍ، وفيما يَحتوي عليه اختلافُها من جمالٍ، ولن يجدَ الجمالَ إلّا في شُمولِ المعرفةِ، وعندَ هذا الحدِّ تحصُلُ رؤيةُ الجميلِ المطلقِ الشّاملِ والمتعَالي.

وممّا تقدَّم نستطيعُ القولَ بأنَّ البداياتِ الأولى لعلمِ الجمالِ وفلسفتِه كانت في محاوراتِ ومناقشاتِ أفلاطون وآرائِه عن الفنِّ والجمالِ، فقد كان أفلاطونُ يري أنَّ هناكَ عالمَاً أسْمى من العالمِ المحسوسِ، عالماً مثاليّاً تكونُ فيه لهذه الأشياءِ الموجودةِ في الحياةِ المادّيّةِ صورٌ تتَّسِمُ بالكمالِ، فتكونُ تامّةً لا يشُوبُها نقصٌ يشبهُ النَّقصَ الذي تتّسمُ به الأشياءُ المادّيّةُ، وأنَّ كلَّ الأشياءِ التي تُشاهَدُ في الطّبيعةِ تُعَدُّ صوراً ناقصةً ومشوَّهةً، وأقلَّ من تلك الصُّورِ الموجودةِ في عالمِ المُثُلِ.

وأمّا أرسطو فقد بحثَ في عالمِ الفنِّ، وانتهى إلى أنَّ الفُنونَ الجميلةَ هي نوعٌ من المحاكاةِ، لكنّها محاكاةٌ لا تتساوَى بالنّزعةِ الطّبيعيّةِ أو النَّقلِ الحرفيِّ لِما هو في الطَّبيعةِ، وإنّما هي محاكاةٌ لما ينبغِي أنْ يكونَ.

وقد تناولَ أرسطو الجمالَ في كتابيهِ: (فنِّ الشِّعر) و(الخطابة). أمّا كتابُه (فنّ الشّعر)، فقد احتلَّ مكانةً رفيعةً وأبديَّةً في تاريخِ نظريَّةِ الجمالِ، إذ رفضَ أرسطو المُثُلَ الأفلاطونيَّةَ، بإحالتِه الجمالَ إلى جوهرِ الأشياءِ وحقيقتِها الأصليّةِ، بدلاً من ردِّه إلى عالمِ المُثُلِ على نحوِ ما وردَ في التّصوُّرِ الأفلاطونيِّ.

وأمّا كتابُه (الخطابة)، فهو مزيجٌ من النّقدِ الأدبيِّ والخَطَابةِ والمنطقِ والسِّياسةِ والقانونِ، لكنَّ هدفَه الأساسيَّ هدفٌ علميٌّ يَرمي إلى إحياءِ القدرةِ البلاغيَّةِ، وتحقيقِ الأغراضِ العلميَّةِ.

ويمكنُنا أنْ نلاحظَ أنَّ التّناسقَ والانسجامَ والوضوحَ هي أهمُّ خصائصِ الجميلِ عندَ أرسطو، فهو يختلفُ مع أفلاطون في إثباتِه وجودَ جمالٍ حقيقيٍّ في هذا العالمِ الذي نستلهِمُ منه وعيَنا الجماليَّ، كما نستمِدُّ منه أعمالَنا الفنِّيَّةَ، فالفنُّ ينشأُ عن الميلِ الغريزيِّ للإنسانِ إلى التَّقليدِ، وهذا ما يتَّضحُ جليَّاً في حبِّه للشِّعرِ والموسيقا والرَّقصِ، ولذلك نرى أنَّ أرسطو كانَ أوّلَ من قسَّم الفنونَ إلي نوعينِ: فنونٍ نافعةٍ، وفنونٍ جميلةٍ.

والجمالُ عندَ أرسطو هو التَّناسُبُ والتَّماثُلُ والتَّوافُقُ في الأشياءِ ذاتِها، والتَّرتيبُ العضويُّ للأجزاءِ في كلٍّ مترابِطٍ، ونحنُ لا نُحِسُّ الجمالَ إلاَّ عندما نُدرِكُ هذا التَّناسُبَ ونُميِّزُه، ويكونُ حاضِراً في الذِّهنِ كالمقياسِ أو الميزانِ، وكلُّ ما يبدو منسجِماً يبعثُ على الارتياحِ والاطمئنانِ والأُلفةِ، وكلّما كانت صورةُ الشّيءِ متناسقةً، منسجمةَ الأجزاءِ، أحرزَت قصبَ السَّبقِ في نيلِ الرّضا البشريِّ، واقتربَت من النَّفسِ الإنسانيَّةِ.

ممّا ذكرناهُ آنِفاً يمكنُنا القولُ: بأنَّ الجميلَ في نظرِ أرسطو هو الشَّيءُ المتَّسقُ والمنظَّمُ، فالكائنُ أو الشَّيءُ المكوَّنُ من أجزاءٍ متباينةٍ، لا يتمُّ جمالُه ما لم تترتَّبْ أجزاؤُه في نظامٍ؛ وذلك لأنَّ الجمالَ ما هو إلاَّ التَّنسيقُ والتّنظيمُ والوحدةُ والتّماثلُ، وغايةُ الفنونِ الجميلةِ أنْ يتلمَّسَ الإنسانُ من معرفتِه بالشَّيءِ الجميلِ سُبُلَ الخيرِ.

وظلَّ البحثُ -بعد أرسطو- في هذا المجالِ مستمرّاً في تاريخِ الفلسفةِ ومرتبِطاً بالتّأمُّلاتِ الميتافيزيقيَّةِ، فتحدَّثَ الفلاسفةُ عن الجمالِ والجمالِ العقليِّ في العصورِ الوُسطى، باعتبارِه مظهراً وجزءاً من علمِ الإلهيَّاتِ، أمّا الفنونُ التي تُعرَفُ بالفنونِ الجميلةِ، فقد توزَّعتْ في تصنيفِ العلماءِ؛ فارتبطَ الشِّعرُ بالنَّحوِ والخطابةِ؛ ليكوِّنُوا ما يُسمَّى بالفنونِ الثَّلاثةِ، وضُمَّت الموسيقا إلى الحسابِ والفلَكِ والهندسةِ؛ ليكونَ عددُها أربعةً، وبذلك يُصبحُ عددُ الفنونِ الحُرَّةِ سبعةً، أمّا التّصويرُ والنّحْتُ والعمارةُ، فقد صُنِّفتْ مع الصِّناعاتِ، ولم تُصنَّفْ مع الفنونِ الجميلة.

ومن الملاحَظِ أنَّ كلَّ الجهودِ التي بُذلتْ في بحثِ الجمالِ بعد أرسطو لم تقدِّم شيئاً مُهمّاً، وظلَّت أفكارُ أرسطو في ذروةِ ما توصَّلَ إليه الفكرُ الإغريقيُّ، وكلُّ ما جاء بعدَه من أفكارٍ حتّى العصورِ الوُسطى، لم يقدِّم شيئاً ذا بالٍ، فالعقلُ الغربيُّ لم ينطلقْ إلاَّ في القرنِ الخامسَ عشرَ الميلاديِّ، حينَما تأثَّر الفكرُ الأوربيُّ بالفكرِ الحضاريِّ الإسلاميِّ في الأندلسِ، وكذلك إبَّانَ الحملاتِ الصَّليبيَّةِ على الشَّرقِ، وكانت هذهِ الصِّلاتُ بالعالمِ الإسلاميِّ رافداً من أهمِّ روافدِ النَّهضةِ الأوربّيّةِ التي وسَّعَت آفاقَها.

ومع بدايةِ العصرِ الحديثِ الذي أسَّسَ لميلادِ فكرٍ جديدٍ نأى بالجمالِ عن مفهومِ النَّفعيَّةِ التي كانت سائدةً في عهدِ سقراط، كما أنَّ مفهومَ الجمالِ لم يعدْ لصيقاً بالأخلاقِ والفضائلِ، كما كان يَرى أفلاطون، فقد تطوَّر مفهومُ الجمالِ في العصرِ الحديثِ نتيجةَ تأثُّرِه بالتَّطوُّراتِ العلميَّةِ والأبحاثِ الّتي تُعنى بعلاقةِ الجمالِ بالفلسفةِ، والفنِّ، والهندسةِ والطِّبِّ، وغيرِها من العلومِ الأُخرى.

ولعلَّ أهمَّ ما يميِّزُ هذهِ الحِقبةَ من التَّفكيرِ الإنسانيِّ هو سيطرةُ النَّزعةِ العقليَّةِ الدِّيكارتيّة في التَّقييمِ الجماليِّ الذي يدعُو إلى الحكمِ النِّسبيِّ الذَّاتيِّ للجمالِ، إذ يُمكنُ إطلاقُ العنانِ للأحاسيسِ والأهواءِ الفرديّةِ؛ لتأسيسِ هذا الحكمِ انطلاقاً من العقلِ. ومن هذا المنطلقِ نرى استحالةَ صياغةِ تعريفٍ جامعٍ مانعٍ لمعنى الجمالِ، وذلك بسببِ تغيُّرِ العواملِ الفكريّةِ والمجتمعيَّةِ والذَّاتيّةِ التي يَنتجُ عنها اختلافٌ في الأذواقِ، كما ذهبَ إلى ذلك الفيلسوفُ والعالمُ الرّياضيُّ والفيزيائيُّ الفرنسيُّ (ديكارت).

ونقفُ مع (إيمانويل كانط) () في نظرتِه للجمالِ في كتابِه المعروفِ (نقد ملكة الحُكْم)، إذ يرى أنَّ إدراكَنا للجمالِ هو شيءٌ متأصِّلٌ في نفوسِنا، فهو شيءٌ أوَّليٌّ، ولسْنا بحاجةٍ إلى استحضارِ مثالٍ نقيسُ من خلالِه الأشياءَ الجميلةَ ما دامَ كلُّ جميلٍ يُشعِرُنا بالسُّرورِ بشكلٍ تلقائيٍّ. ولذلك فإنَّ الحكمَ الجماليَّ في رأيهِ لا يقومُ في الموضوعاتِ الجماليَّةِ، بل يقومُ في النُّفوسِ.

أمَّا (هيجل) فيُعمِّقُ النِّقاشَ في موضوعِ الجمالِ من خلالِ مؤلَّفاتِه العديدةِ في علمِ الجمالِ أو الإستطيقا (aesthetics)، فيرى أنَّ الجمالَ هو التَّجلِّي المحسوسُ للفكرةِ؛ وذلك لأنَّ الفنَّ يمثِّلُ في كنهِه عالمَ الأفكارِ، وفي صورتِه السَّطحيَّةِ عالمَ المحسوساتِ. فهو يرى صعوبةَ و ربَّما استحالةَ وجودِ حقيقةِ الجمالِ في العالمِ المادّيِّ المحسوسِ من حولِنا في الطّبيعةِ.

ويُعدُّ (هيجل) في مقدِّمةِ الفلاسفةِ تعمُّقاً في مفهومِ الجمالِ، وقد سلكَ في عرضِه لمذهبِه الجماليِّ مسلكاً ميتافيزيقيّاً، ويرى أنّ الجمالَ نمطٌ معيَّنٌ لتمثيلِ الحقيقةِ وإظهارِها في طابعٍ حسّيٍّ، لذلك فقدْ بدأَ محاضراتِه في علمِ الجمالِ بالرّدِّ على (كانط)، وذهبَ إلى أنَّ ماوصلَ إليه كانط هو نتيجةَ فصلِه بين عالمِ الظّواهرِ وبين عالمِ الشّيءِ في ذاتِه، ورأى أنَّ الجمالَ ليس تجريداً لملكةِ الفهمِ، وإنّما هو في ذاتِه العينيِّ والمطْلقِ، ولذلك فقد رفضَ، منذُ البدايةِ، الجمالَ في الطَّبيعةِ؛ لأنَّه يرى أنْ لا جمالَ سوى الجمالِ العقليِّ، وهو الجمالُ الموجودُ في الفنِّ الذي هو نتاجُ العقلِ مع الإحساسِ، فهو يرى أنَّ الجمالَ الفنّيَّ أرقى من الجمالِ الطّبيعيِّ؛ لأنَّه متولِّدٌ من العقلِ ونتاجُ الرّوحِ، وأنَّ كلَّ مايأتينا من الرُّوحِ أسمى ممّا هو موجودٌ في الطَّبيعةِ.

والجمالُ هو الفكرةُ المتصوَّرةُ التي توحِّدُ مباشرةً بين المفهومِ والواقعِ، ويرى (هيجل) أنَّ الفكرةَ هي الجمالُ الكاملُ في ذاتِه، بينما يرى أنّ الطّبيعيَّ هو الجمالُ النّاقصُ، والجمالُ عنده فكرةٌ، والفكرةُ تتقدَّمُ باتّجاهِ الواقعِ، وهي لاتَلقى هذا الواقعَ إلّا من الذَّاتيّةِ الواقعيَّةِ المطابقةِ للمفهوم، وبذلك يَرى أنَّ الجمالَ الحقيقيَّ هو الذي يتجسَّدُ في الفكرةِ والمضمونِ، لا في الشَّكلِ الخالصِ؛ حتّى أضحى الجمالُ عندَه فكرةً تطوّرتْ خلالَ حقبِ التَّاريخ، وتحوَّلَ الجمالُ من سيطرةِ المادّةِ إلى سيطرةِ الفكرةِ، ومن الشّكلِ إلى المضمونِ.

ويرى (هيجل) أنَّ الفكرةَ إذا تشكَّلتْ تشكُّلاً دالاً على تصوُّرِها العقليِّ، فإنّها تتحوَّلُ إلى مثالٍ (ideal)، فالفكرةُ العينيَّةُ هي وحدَها التي يُمكنُها أن تولِّدَ الشَّكلَ الصّحيحَ المناسبَ لها ومن اتِّفاقِها، وهذا الشّكلُ يولِّدُ المثلَ الأعلى أو مثالَ الجمالِ.

ويرى كذلك أنَّ المثالَ أو المثلَ الأعلى للجمالِ لا يتحقَّقُ بمجرّدِ مطابقةِ المضمونِ للشَّكل، وإنّما يجبُ أن يكونَ المضمونُ نفسُه على مستوىً عالٍ من السُّموِّ والكمالِ، وفي رأيِه أنَّ أهلَ الشَّرقِ القديمِ في الصِّينِ والهندِ ومصرَ لم يتوصَّلُوا إلى تحقيقِ هذا المثلِ الأعلى للجمالِ في أعمالِهم الفنِّيّة،لأنَّ أفكارَهم الميثولوجيَّةَ التي تضمَّنَتها أعمالُهم الفنِّيّةُ لم تكنْ محدَّدةً ولا معقولةً إلى حدٍّ كافٍ، ولم تكن حقيقيَّةً ولا كاملةً، فالعملُ الفنِّي إنّما يسمُو في المستوى بقدرِ ما يسمُو المضمونُ الفكريُّ.

وخلاصةُ الكلامِ في رأيِ (هيجل) الجماليِّ أنّ الجمالَ لا يوجدُ إلا في الإنسانِ؛ لأنَّ الجمالَ تعبيرٌ عن الصُّورةِ العقليَّة، والصُّورُ العقليَّةُ لا تُوجدُ إلّا في عقلِ الإنسانِ. أمّا الجمالُ في المناظرِ الطّبيعيّة، فلا يُعدُّ جمالاً بالمعنى الحقيقيِّ؛ لأنَّ المنظرَ الطّبيعيَّ جمادٌ خالٍ من العقلِ. وكذلك الجمالُ في الحيوانِ الأعجمِ، إنّما هو مرتبةٌ دنيا من الجمالِ، ولا يتجلّى إلّا في حركاتِه ووحدةِ أعضائِه في أداءِ وظائفِها؛ ولهذا كان الجمالُ أبرزَ في الحيوانِ ذي الحركةِ السَّريعةِ، وكان القُبحُ من نصيبِ الحيوانِ الهامدِ القليلِ الحركةِ.

رابعاً- فلسفةُ الجمالِ في الفكرِ الإسلاميِّ:

اهتمَّ المسلمونَ بالظّاهرةِ الحسّيَّةِ للجمالِ سواءٌ عن طريقِ البصرِ أو السَّمع، والتزمُوا بالشَّرعِ في تعاملِهم مع الجمالِ؛ فاللهُ جميلٌ يُحبُّ الجمالَ، ويُعدُّ التَّدبُّرُ في حسنِ صنعتِه تمجيداً للخالقِ وتسبيحاً لعظمتِه. ولذلك يمكنُنا القولُ: إنَّ مفهومَ الجمالِ في الإسلامِ ارتبطَ ارتباطاً وثيقاً بمقاصدِ الشَّريعةِ الإسلاميّة.

وقد ظلَّ مفهومُ الجمالِ عند العربِ والمسلمين متجاذباً بين أهلِ النَّقلِ وأهل العقلِ، فتأثَّر المعتزلةُ بما جاءتْ به الأفلاطونيّةُ من أنَّ الحقَّ والخيرَ والجمالَ هي ماهيةٌ واحدة. وعبَّرُوا بوصفِهم ممثِّلي التّيَّار العقلانيِّ في الإسلامِ عن هذه النَّظرةِ، وربطُوا الجمالَ بالعقلِ والشَّرع معاً، فما هو حسَنٌ في نظرِ الشَّرع يُعدُّ حسناً في نظرِ العقل، فالعقلُ هو أساسُ القيمةِ الجماليَّة، ولكن لم تكنْ للمعتزلةِ أبحاثٌ تفصيليَّة في هذا الصَّددِ.

ويرى المسلمونَ أنَّ الجمالَ الذي يتّصلُ بالأخلاقِ والأفعالِ مُسَّلمٌ به وثابتٌ وغيرُ قابلٍ للتغيُّر أو التّبديلِ، أمَّا الجمالُ الذي يتّصلُ بالخَلْقِ أو الهيئةِ أو صفاتِ الأشياءِ المادّيةِ المحسوسةِ، فإنَّ الإسلامَ قد حثَّ الإنسانَ إلى أنْ يكونَ جميلاً في ملبسِه ومسكنِه، ومطعمِه ومشربِه، ومظهرِه وجوهرهِ وتعاملِه، وأن يتمتَّعَ بجمالِ مخلوقاتِ اللهِ، وأنْ يجعلَ كلَّ ما حولَه جميلاً متناسقاً مترابطاً نظيفاً يحقِّقُ له السّعادةَ والرِّضا، فينالُ في عبادتِه رضا اللهِ الذي يتَّصفُ بالجمالِ المطلَقِ.

ولو تأمّلْنا صُورَ الجمالِ في الحياةِ والكونِ، لأدركْنا قدرةَ الخالقِ وعظمتَه وحكمتَه، وعرفْنا القيمَ العُليا في الدِّياناتِ السَّماويَّة، ولا سيّـَما في الدِّينِ الإسلاميِّ الحنيفِ، فهي ترمزُ إلى نواحٍ جماليَّةٍ مُثلى؛ لأنَّها يُنبوعُ السَّعادةِ الحقيقيَّةِ المتمثِّلةِ في الحقِّ والخيرِ والجمالِ، والحبِّ والصدقِ، والعدلِ والرّحمةِ، والتآخي والبِرِّ، والعَفافِ والطُّهرِ، وغيرِها من القيمِ المثلى الّتي تبثُّ في النَّفسِ الإنسانيّةِ الأمنَ والطُّمأنينةَ.

وقد وردَ في القرآنِ الكريم ما يدلُّ على التَّناسقِ فيما أبدعَه الخالقُ في خلقِه، قال تعالى: (ما تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ)، (سورة الملك الآية 3) أيْ ليس في خلقِ اللهِ أيُّ تباينٍ واختلافٍ، فالانسجامُ والتّناسقُ بين الأشياءِ هو سرُّ جمالِها، وهو من أقدمِ المفاهيمِ التي أثَّرت في صياغةِ النَّظريّةِ الجماليَّة عند الفلاسفةِ المسلمينَ، إذ نرى مفهومَ التَّناسقِ متحقِّقاً بين مجرّاتِ الكونِ وأجرامِه وذرّاتِه، والنِّظامِ الدَّقيقِ الذي تخضعُ له من خلالِ السّيرِ الدّائريِّ المنتظمِ والجاذبيّةِ الموجودةِ فيها، كلُّ ذلك بتقديرٍ إلهيٍّ لا يعرفُ الزَّللَ أو الحُؤُولَ، ولا الكسلَ أو الخُمولَ.

ويتحدّث القرآنُ الكريم عن آثارِ الجمالِ على العينِ أو النَّفسِ، وقد جاء في الآياتِ الكريمةِ ما يوضِّحُ ذلك، قال تعالى: (إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (البقرة 69). فالسُّرورُ أثرٌ من آثارِ رؤيةِ الجمالِ.

وقال تعالى في الحديثِ عن نعيمِ الجنّة: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (الزّخرف 71)، فلذَّةُ العينِ أثرٌ من آثارِ رؤيةِ الجمالِ.

وقال تعالى مخاطباً رسولَه - صلّى اللهُ عليه وسلّم-: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ)، (الأحزاب: الآية 52)، فالإعجابُ تعبيرُ النّفسِ عن تأثُّرِها بالحسنِ.

واللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيلٌ، بَلْ لَهُ الْجَمَالُ التَّامُّ الْكَامِلُ؛ ولذا فإنّ أعظمَ نعيمٍ في الجنّةِ هو النَّظرُ إلى وجهِه الكريمِ، قال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ . إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، ( القيامة الآية 22-23).

وجمالُه سُبْحَانَهُ وتعالى على أَربعِ مَرَاتِب: جمالُ الذَّاتِ، وجمالُ الصِّفَاتِ، وجمالُ الْأَفْعَالِ، وجمالُ الْأَسْمَاءِ، فأسماؤه كلهَا حُسنَى، قال عزّ وجلَّ: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ). (الأعراف:180).

وَصِفَاته كلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، وأفعالُه كلُّهَا حِكْمَةٌ ومصلحةٌ وَعدلٌ وَرَحْمَةٌ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً). (الأنعام الآية 115).

وقال تعالى في بدايةِ سورةِ النَّحل: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ).(الآية 6)، قال الزّمخشريُّ في تفسيرِه: (منّ اللهُ بالتّجمُّلِ بها كما منّ بالانتفاعِ بها، لأنّه من أغراضِ أصحابِ المواشي، بل هو من معاظمِها، لأنّ الرّعيانَ إذا روَّحوها بالعشيِّ وسرَّحوها بالغداةِ – فزيَّنتْ بإراحتِها وتسريحِها الأفنِيَةَ، وتجاوبَ فيها الثُّغاءُ والرُّغاءُ – آنستْ أهلَها وفرّحتْ أربابَها، وأجلَّتْهم في عيونِ النّاظرين إليها، وأكسبَتْهم الجاهَ والحُرمةَ عند النّاس).

وفي تعليقِ القرطبيِّ على هذه الآيةِ يقول: (قال علماؤنا: الجمالُ يكون في الصُّورةِ وتركيبِ الخِلقةِ، ويكون في الأخلاقِ الباطنةِ، ويكون في الأفعالِ.

فأمّا جمالُ الخلقةِ: فهو أمرٌ يدركُه البصرُ ، ويُلقيه إلى القلبِ متلائِماً، فتتعلَّقُ به النَّفسُ من غير معرفةٍ بوجهِ ذلك ولا نسبتِه لأحدٍ من البشرِ، وأمّا جمالُ الأخلاقِ: فكونُها على الصِّفاتِ المحمودة، من العلمِ والحكمةِ، وكظمِ الغيظِ، وإرادةِ الخيرِ لكلِّ أحدٍ، وأمّا جمالُ الأفعال: فهو وجودُها ملائِمةً لمصالحِ الخلْقِ، وقاضيةً لجلبِ المنافعِ فيهم وصرفِ الشّرِّ عنهم).

ويقول الإمامُ الغزالي في تعريفِ الجمالِ: "اعلمْ أنَّ المحبوسَ في مضيقِ الخيالاتِ والمحسوساتِ ربَّما يظنُّ أنَّه لا معنىً للحُسْنِ والجمالِ إلّا بتناسُبِ الخِلْقةِ والشّكلِ وحسنِ اللَّون، وكونِ البياضِ مُشرَباً بحُمرةٍ، وامتدادِ القامةِ إلى غيرِ ذلك ممَّا يُوصفُ من جمالِ شخصِ الإنسانِ، فإنَّ الحُسْنَ الأغلبَ على الخلْقِ حسنُ الإبصارِ، وأكثرُ التفاتِهم إلى صورِ الأشخاصِ. وهذا خطأٌ ظاهرٌ، فإنَّ الحُسْنَ ليس مقصوراً على مُدركاتِ البصرِ، ولا على تناسبِ الخِلقةِ وامتزاجِ البياضِ بالحُمرةِ، فإنَّا نقولُ هذا خطٌّ حَسَن، وهذا صوتٌ حَسَنٌ، وهذا فرسٌ حَسَنٌ، بل نقولُ هذا ثوبٌ حَسَنٌ، وهذا إناءٌ حَسَنٌ، فأيُّ معنىً لحُسْنِ الصَّوتِ والخطِّ وسائرِ الأشياءِ إنْ لم يكنِ الحُسْنُ إلّا في الصُّورةِ؟ ومعلومٌ أنَّ العينَ تستلِذُّ بالنَّظرِ إلى الخطِّ الحَسَنِ، والأذنُ تستلذُّ استماعَ النَّغماتِ الحسنةِ الطيِّبةِ، وما من شيءٍ من المدركاتِ إلّا وهو منقسِمٌ إلى حَسَنٍ وقبيحٍ".

يبيِّنُ الإمامُ الغزالي في النَّصِّ السّابقِ خطأَ مَن يظنُّ أنَّ الجمالَ والحُسْنَ يكون في المحسوساتِ فقط، أو الذي تقعُ عليه العينُ من الصُّورِ، ثمَّ يوضِّحُ أنَّ الجمالَ والحُسْنَ ليس مقصوراً على المدْركاتِ البصريَّةِ، واستدلَّ باستِلْذاذِ العينِ بالنَّظرِ إلى الخطِّ الجميلِ، واستلذاذِ الأذنِ بسماعِ اللَّحنِ الجميلِ، إذن فالجمالُ -في رأيه- أعمقُ من ذلك وأشملُ.

ويوضِّحُ المعنى الحقيقيَّ للجمالِ بقولِه: "كلُّ شيءٍ جمالُه وحُسْنُه في أنْ يحضرَ كمالُه اللّائقُ به الممكِنُ له، فإذا كانت جميعُ كمالاتِه الممكنةِ حاضرةً، فهو في غايةِ الجمالِ، وإنْ كان الحاضرُ بعضَها فلهُ من الحُسْنِ والجمالِ بقدْرِ ما حضرَ، فالفرسُ الحَسَنُ هو الذي جمعَ كلَّ ما يَليقُ بالفرسِ من هيئةٍ، وشكلٍ، ولونٍ، وحُسْنِ عَدْوٍ، وتَيسُّرِ كَرٍّ وفَرٍّ عليهِ. والخطُّ الحَسَنُ كلُّ ما جمعَ ما يَليقُ بالخطِّ من تناسبِ الحروفِ، وتَوازيها، واستقامةِ ترتيبِها، وحُسْنِ انتظامِها، ولكلِّ شيءٍ كمالٌ يليقُ به، وقد يليقُ بغيرِه ضدُّه، فحُسْنُ كلِّ شيءٍ في كمالِه الذي يليقُ به. فلا يَحسُنُ الإنسانُ بما يَحسُنُ به الفرسُ، ولا يَحسُنُ الخطُّ بما يحسُنُ به الصَّوتُ، ولا تحسُنُ الأواني بما تحسُنُ به الثِّيابُ، وكذلك سائرُ الأشياءِ".

ويُعدُّ تعريفُ الإمامِ الغزالي السَّابقُ من أجودِ ما قيلَ في الجمالِ، فقد بسطَ فيه القولَ بعباراتٍ جامعةٍ مانعةٍ، كشفَ فيها عن مدلولاتِ هذه الكلمةِ وما تحملُه من معانٍ، وينتهيْ إلى تقريرِ وجودِ الجمالِ في غيرِ المحسوساتِ؛ لأنَّ وجودَه في المحسوساتِ بديهةٌ لا تحتاجُ إلى فكرٍ أو برهانٍ.

ويؤكِّد الغزالي وجودَ الجمالِ في غيرِ المحسوساتِ بقوله: "فاعلم أنَّ الحُسْن والجمال موجودٌ في غيرِ المحسوساتِ إذ يُقال هذا خُلُقٌ حَسَنٌ، وهذه أخلاقٌ جميلةٌ، وإنَّما الأخلاقُ الجميلةُ يُرادُ بها العلمُ، والعقلُ، والعفّةُ، والشّجاعةُ، والتّقوى، والكرمُ، و المروءةُ، وسائرُ خلالِ الخيرِ ، وشيءٌ من هذه الصّفاتِ لا يُدركُ بالحواسِّ الخمسِ، بل يُدركُ بنورِ البصيرةِ الباطِنةِ، وكلُّ هذه الخلالِ الجميلةِ محبوبةٌ، والموصوفُ بها محبوبٌ بالطّبع".

ويشيرُ الإمامُ الغزالي عقبَ ذلك إلى أنَّ نفوسَ البشرِ من طبيعتِها أنْ تُحبَّ كلَّ جميلٍ، وهي تتفاوتُ فيما بينَها في محبَّتِها للأشياءِ الجميلةِ، فيقول: "بل المُحْسِنُ في نفسِه محبوبٌ، وإنْ كان لا ينتهيْ قطُّ إحسانُه إلى المحِبِّ، لأنَّ كلَّ جمالٍ وحسْنٍ فهو محبوبٌ والصُّورةُ ظاهرةٌ وباطنةٌ والحُسْنُ والجمالُ يشملُهما، وتُدْرَكُ الصُّورةُ الظَّاهرةُ بالبصرِ الظَّاهرِ والصُّورةُ الباطنةُ بالبصيرةِ الباطنةِ، فمَن حُرِمَ البصيرةَ الباطنةَ لا يُدركُها، ولا يستلِذُّ بها، ولا يُحبُّها، ولا يميلُ إليها؛ ومَن كانت البصيرةُ الباطنةُ أغلبَ عليه من الحواسِّ الظَّاهرةِ، كان حبُّه للمعاني الباطنةِ أكثرَ من حبِّه للمعاني الظَّاهرةِ، فشتَّانَ بينَ مَن يُحبُّ نقْشاً مصوَّراً على الحائطِ لجمالِ صورتِه الظَّاهرةِ، وبينَ مَن يُحبُّ نبيَّاً من الأنبياءِ لجمالِ صورتِه الباطنةِ".

ويُلاحظُ من خلالِ حديثِ الإمامِ الغزالي عن الجمالِ أنَّه يميِّزُ بين طائفتينِ من الظَّواهرِ الجماليَّةِ؛ طائفةٍ تُدْرَكُ بالحواسِّ، وهذه تتعلَّقُ بتناسقِ الصُّورِ الخارجيّةِ وانسجامِها، والطَّائفةُ الثّانيةُ تُدْرَكُ بالقلبِ وهى طائفةٌ الجمالِ المعنويِّ التي تتّصلُ بالصِّفاتِ الباطنةِ، فالمُدركاتُ إذن كما يَراها الغزالي تنقسمُ إلى قسمينِ: مدركاتٍ بالحواسِّ، ومدركاتٍ بالقلبِ. والقلبُ أشدُّ إدراكاً من العينِ، وجمالُ المعاني المُدْرَكةِ بالقلبِ والعقلِ أعظمُ من جمالِ الصُّورِ الظّاهرةِ المَدْرَكةِ بالحواسِّ.

وحينما نتحدّثُ عن فلسفةِ الجمالِ في الإسلام، لا بدّ لنا من الوقوفِ عند التّفسيرِ الصُّوفي للجمالِ الذي يتجلّى بوضوحٍ في آراءِ الفيلسوفِ الإسلاميِّ أبي حامدٍ الغزالي الذي تحدّث عن السَّماعِ الصُّوفي، فهو يرى أنّ هذا النّوعَ من السَّماعِ يُحدِثُ حالةً في القلبِ تُسمّى (الوَجْدُ)، ثمّ يُوضّحُ أنّ كلَّ سماعٍ يتمُّ بواسطةِ قوّةِ الإدراكِ الحسّيّةِ (الحواسّ الخمس) التي تؤدّي حتماً إلى إدراكٍ باطنيٍّ يتمُّ عبرَ العقلِ والقلب. فكلُّ قوّةٍ من هذه القوى الإدراكيّةِ تتلذّذُ بموضوعِها الجماليّ.

ويؤكّدُ الغزالي رأيَه بقولِه: "واعلمْ أنّ كلّ جمالٍ محبوبٌ عند مدركِ ذلك الجمالِ، واللهُ جميلٌ يحبُّ الجمالَ. ولكنّ الجمالَ إن كان يتناسبُ والخلقةَ وصفاءَ اللّونِ أُدركَ بحاسّةِ البصر. وإن كان الجمالُ بالجلالِ والعظمةِ وعلوِّ الرّتبةِ وحسنِ الصّفاتِ والأخلاقِ وإرادةِ الخيراتِ لكافّةِ الخلقِ وإفاضتِها عليهم على الدّوامِ، إلى غيرِ ذلك من الصِّفاتِ الباطنةِ، أُدركَ بحاسّةِ القلبِ".

ويتبدّى مفهومُ الجمالِ الصّوفيّ في فكرِ أبي حيّان التّوحيديّ الذي يرى أنّ جمالَ الموجوداتِ التي كانت في علمِ اللهِ قبل أن تكونَ، موجودٌ في مصدرِها. ولا يُمكن لإنسانٍ معرفةُ كنهِ هذه الموجوداتِ وجمالِها إلّا بمعرفةِ الخالقِ وصفاتِه من خلالِ استعمالِ العقلِ على حسابِ الحواسّ.

ويصفُ التّوحيديّ صفاتِ اللهِ تعالى الجميلةَ وأفعالَه الحسنةَ بأنّها "من الحسنِ في غايةٍ لا يجوزُ أن يكونَ فيها وفي درجتِها شيءٌ من المستَحسَناتِ، لأنّها هي سببُ حُسنِ كلِّ حَسنٍ، وهي التي تُفيضُ الحسنَ على غيرِها، إذ كانت معدنَه ومبدأَه، وإنّما نالتِ الأشياءُ كلُّها الحسنَ والجمالَ والبهاءَ منها وبها".

ويربطُ التّوحيدي مفهومَ الجمالِ المادّيّ بمفهومِ الغايةِ التي لا بدَّ أن تكونَ إيجابيّةً وخيِّرةً لبني البشرِ. فإذا قدّم المرءُ شيئاً ما خيراً للإنسان، عُدَّ نافعاً وجميلاً، وإذا ما أدّى الشّيءُ المقدَّمُ وظيفةً شرّيرةً، صار غيرَ نافعٍ، وصار قبيحاً. ولا يمكنُ معرفةُ المنفعةِ (الحسنِ) من عدمِها (القبح) إلّا إذا انطلقَ في "البحث اللّطيفِ عنهما؛ حتّى لا يجورَ فيرى القبيحَ حسناً والحسَنَ قبيحاً، فيأتي القبيحُ على أنّه حسنٌ، ويرفضُ الحسنَ على أنّه قبيحٌ".

ونرى مفهومَ الجمالِ الصوفيِّ عند محيي الدينِ بنِ عربيّ، إذ أنّ تصوُّرَه للجمالِ يقوم على حقيقتَي الجلالِ والجمالِ؛ فقد جعلَ الجلالَ للقهرِ، والجمالَ للرّحمةِ.

أمّا ابنُ القَيِّمِ، فيتجلَّى موقفُه من الجمالِ في قولِه: "اعلمْ أنَّ الجمالَ ينقسمُ إلى قسمينِ: ظاهرٍ وباطنٍ، فالجمالُ الباطنُ هو المحبوبُ لذاتِه، وهو جمالُ العقلِ والعلمِ والجودِ والعفّة والشّجاعةِ، وهذا الجمالُ الباطنُ هو محلُّ نظرِ اللهِ من عبدِه وموضعُ محبَّتِه كما في الحديثِ الصَّحيح: "إنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى صورِكم وأموالِكم، ولكنْ ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم".

ويُعرِّفُ الجمالَ الباطنَ بقولِه: "فهذا الجمالُ الباطنُ يزيِّنُ الصُّورةَ الظَّاهرةَ، وإنْ لم تكنْ ذاتَ جمالٍ، فتكسُو صاحبَها من الجمالِ والمهابةِ والحلاوةِ بقدرِ ما اكتسبتْ روحُه من تلك الصِّفاتِ. فإنّك ترى الرّجلَ المحسنَ ذا الأخلاقِ الجميلةِ من أحلى النّاسِ صورةً وإنْ كان أسودَ. وممّا يدلِّلُ على أنَّ الجمالَ الباطنَ أحسنُ من الجمالِ الظَّاهرِ أنَّ القلوبَ لا تنفكُّ عن تعظيمِ صاحبِه ومحبَّتِه والميلِ إليه.

ثمَّ يستطردُ في توضيحِ النَّوع الثّاني من أنواعِ الجمال بقوله: "وأمَّا الجمالُ الظّاهرُ فزينةٌ خصَّ اللهُ بها بعضَ الصُّورِ عن بعضٍ، وهي من زيادةِ الخلْقِ التي قال اللهُ فيها : "يزيدُ في الخلْقِ ما يشاءُ"، قالُوا: هو الصَّوتُ الحسَنُ والصُّورةُ الحسَنةُ. والقلوبُ كالمطبوعةِ على محبَّتِه كما هي مفطورةٌ على استحسانِه.

فالجمالُ عند ابنِ القيّم ظاهرٌ محسوسٌ، وباطنٌ معنويٌّ: الباطنُ هو الجمالُ المحبوبُ لذاتِه؛ وهو سببُ نظرِ اللهِ لعبدِه إذا تحلّى به، و أحسنُ وأشرفُ من الجمالِ الظّاهر. ولكنَّ الجمالَ بنوعيهِ الظّاهرِ والباطنِ ذو أهميّةٍ، وهو نعمةٌ من اللهِ تستوجبُ الثّناءَ والشُّكر، وتؤدِّي بالإنسانِ إلى كمالِ الأوصافِ، فإنْ فَقَدَ الإنسانُ جمالَ الباطنِ قَبُحَ ظاهرُه، وإنْ فَقَدَ جمالَ الظّاهرِ ، حَسَّنَهُ وجمَّلَه جمالُ الباطنِ.

ثمَّ يتحدَّثُ ابنُ القيّمِ عن حقيقةِ الحُسْنِ والجمالِ بقوله: "الحُسْنُ- الجمال- أمرٌ مركَّبٌ من أشياءَ وضّاءةٍ وصبّاحةٍ وحسنِ تشكيلٍ وتخطيطٍ ودمويّةٍ في البشرةِ، وهو معنىً لا تنالُه العبارةُ، ولا يحيطُ به الوصفُ، وإنَّما للنَّاسِ من أوصافٍ أمكنَ التّعبيرُ عنها، وقد كان رسولُ اللهِ في الذَّروةِ العُليا منه".

ويمكنُنا أن نتلمَّس مفهومَ الجمالِ في تعاليمِ الإسلامِ التي تركِّزُ على أنّ الجمالَ سمةٌ بارزة من سماتِ هذا الكونِ، فالخالقُ سبحانَه وتعالى صنعَ الكونَ وأحسنَ صنعَه، وخلقَ فأبدعَ، وأمرَنا بأنْ ننظرَ ونتبصَّرَ ونتدبّرَ خلقَه في السَّمواتِ والأرض، وفى عالمِ البحارِ والنّباتِ، وعالمِ الحيوانِ والطّيورِ والحشراتِ ، وذلك لإدخالِ السُّرورِ والبهجةِ إلى النَّفسِ إلى جانبِ تقويةِ العقيدةِ في قدرةِ الخالقِ المبدع.

من خلالِ عرضِنا السّابقِ وقفْنا على آراءِ علماءِ وفلاسفةِ الإسلامِ بشيءٍ من التَّبسيطِ والاقتضابِ؛ لأنّ البحثَ في هذا السّياقِ قد يستغرقُ مجلّداتٍ عديدةً، لكنّني آثرتُ الإيجازَ والتّنويعَ في الآراءِ حول مفهومِ الجمالِ في القرآنِ والسُّنّة النّبويةِ، وفي مؤلَّفاتِ المفسِّرين والفلاسفةِ الميامينِ.

وحتّى يكونَ هذا المبحثُ متكامِلاً، فقد رأيتُ أن أستعرضَ آراءَ بعضِ المحدثينَ في مفهومِ الجمالِ، ولاسيّما فيما عُرفَ بالأدبِ الإسلاميِّ الذي باتَ يؤطِّرُ لنظريّةٍ جماليّةٍ تُعدُّ امتداداً لنظريّاتِ الجمالِ عند علمائِنا وفلاسفتِنا المتقدِّمين.

فها هو عمادُ الدِّين خليل يعرِّفُ الجمالَ بأنّه "ذلك الإبداعُ الذي يتضمّنُ قدراً من التّناسبِ والتّناظرِ والإحكامِ والإثارةِ، والذي يبعثُ في النّفسِ الدّهشةَ والتّجاوبَ والإعجابَ والانسجامَ، ويمنحُها قدراً من التَّوحُّدِ والتَّناغمِ والامتلاءِ".

كما يرى أنّ الجمالَ يتضمّن "ثلاثَ دوائرَ : تضمُّ الأُولى منها الكونَ والوجودَ والحياةَ والإنسانَ بحثاً عن عناصرِ الجمالِ. أمّا الثانية فتشملُ النّشاطَ الأدبيَّ والفنّيَّ باعتبارِه نشاطاً جماليّاً. أمّا الثّالثةُ فتَنطوي على تاريخِ الجمالِ والفلسفةِ.

ويبيّنُ قيمةَ الجمالِ وغائيَّتَه بقولِه: "إنَّ الجمالَ في المنظورِ الإسلاميِّ ليس هدفاً بحدِّ ذاتِه، كما قد يتبادرُ إلى الذِّهنِ، فالجمالُ في الإسلامِ جمالٌ قيميٌّ، فما يقودُ إلى قيمٍ إيجابيّةٍ تبشيراً وتعزيزاً هو الجمالُ المطلوبُ".

أما الدّكتور نجيبُ الكيلاني فيرى أنّ "الجمالَ سببٌ من أسبابِ الإيمانِ وعنصرٌ من عناصرِه، والقيمُ الجماليّةُ والفنّيّةُ تحملُ على جناحَيها ما يعمِّقُ هذا الإيمانَ ويقوِّيه"، كما يوضّحُ أنّ "المنفعةَ في العملِ الأدبيِّ لا تتناقضُ مع القيمِ الجماليّةِ، وهذا راجعٌ إلى قدرةِ الكاتبِ وبراعتِه في الأداءِ".

وممّا تقدّم نرى أنّ الإسلامَ اهتمَّ بالجمالِ، وأعلى من شأنِ القيمِ الجماليّةِ التي تحقِّقُ الخيرَ والفضيلةَ والنَّفعَ، وتعمِّقُ الإيمانَ، وتُعلي من مكانةِ الإنسانِ، وتضمنُ له السَّعادةَ والطُّمأنينةَ وجمالَ الحياةِ في كلِّ ما يحيطُ به.

خامساً- أصنافُ الجمالِ:

وفى ضوءِ ما سبقَ من النّظرةِ الشَّاملةِ للجمالِ بجوانبِه، يُمْكن للباحثِ أنْ يُصَنِّفَ الجمالَ في ثلاثةِ أصنافٍ هي:

* الجمالُ الماديُّ: ويكون في الأمورِ المادّيةِ المحسوسةِ من سماءٍ وأرضٍ وحيواناتٍ وأجسادٍ وغيرِ ذلك، وقد أشارتْ آياتُ القرآنِ في العديدِ من المواضعِ إلى هذا اللّون، فالسّماءُ مزيّنةٌ جميلةٌ ، والأرضُ مخضرّةٌ وفيها ما يسحرُ الألبابَ، والإنسانُ مخلوقٌ في أبهى وأحسنِ صورةٍ، والأنعامُ والدّوابُّ فيها ما فيها من الجمالِ والرّوعةِ، والكثيرُ من الآياتِ والأحاديثِ النّبويّةِ يتناولُ إلى هذا الصِّنفَ من أصنافِ الجمالِ الذي يُدْرَك بالحواسِّ، ويُعدُّ من نعمِ اللهِ على عبادِه.

* الجمالُ المعنويُّ: ويكون في المجرّداتِ، ويدركُه العقلُ والقلبُ، فالإيمانُ زينةُ القلوبِ، والهجرُ جميلٌ عندما يكونُ في مقاطعةِ السُّفهاءِ واعتزالِهم برفقٍ ولينٍ، دونَ استفزازِهم، وفراقُ الزّوجةِ جميلٌ حينما يتمُّ بلا طردٍ أو حقدٍ أو كراهيةٍ، والصّبرُ جميلٌ حينَما يكون في مواطنِ الشّدّةِ والابتلاءِ، وهكذا ينتقلُ الجمالُ من المحسوساتِ الملموسةِ إلى المعنويّاتِ المجرَّدةِ؛ ليُضْفيَ على السُّلوكِ تميُّزاً وجمالاً ؛ ليُصْبحَ الإنسانُ في ذروةِ الجمالِ.

* الجمالُ الماديُّ المعنويُّ معاً: وهو جمالٌ يجمعُ بين الصّنفينِ السّابقينِ: المحسوساتِ والمجرّداتِ، ويُدْرَك بالحواسِّ والعقلِ معاً، وهو صفةُ من سارَ على منهجِ اللهِ من الأنبياءِ والصّالحينَ، فهم أكملُ الخلقِ خَلْقاً وخُلُقاً، وتضرب الدراسة لذلك مثلاً من سنة النبي حينما قال: (حُبّبَ إِلَيَّ مِنْ دنياكُمُ النّساءُ والطِّيبُ، وجُعِلَتْ قرّةُ عينِي في الصّلاةِ).

فالطِّيبُ والنِّساءُ من الأمورِ الجميلةِ المحسوسةِ، والصَّلاةُ من الأمورِ الجميلةِ المعنويّةِ، وقد جمعَ النّبيُّ بين الطّيبِ والنّساءِ والصّلاةِ؛ حتّى لا يقفَ الإنسانُ عند حدِّ جمالِ المادّيّاتِ، بل يتجاوزُها ليجمعَ بين الجماليّاتِ المادّيةِ والمعنويّةِ اقتداءً بالرّسولِ الكريمِ الذي تحلّى بكلِّ خصالِ الجمالِ.

سادساً- أهميّةُ وجودِ الجَماليّاتِ الطّبيعيّةِ:

إنّ الإحساسَ بالجمال شعورٌ موجودٌ لدى الإنسانِ البدائيِّ مثلما هو عند النّاسِ الأكثرِ تحضّراً .. فالإنسانُ يتأمّلُ بسرورٍ وبهجةٍ مكنوناتِ الطَّبيعةِ من الأزهارِ والأشجارِ، والخضارِ والثّمارِ، والأرضِ والسّماءِ، والأنهارِ والبحارِ والمحيطاتِ، وكلِّ ما أبدعَه اللهُ في الكونِ من مخلوقاتٍ.

وتُعدُّ مرحلةُ الشّبابِ إحدى المظاهرِ المهمَّةِ للجمالِ الطّبيعيِّ، فإذا هرمَ الإنسانُ، فقدَ القدرةَ التي كان يتمتَّعُ بها في شبابِه، وزال عنه جمالُ الشَّبابِ، وفقدَ وجهُه بريقَه ونعومتَه، ولهذا فإنَّ مرحلةَ الشّبابِ لها عظمتُها، وجمالُها، ولها الأثرُ البالغُ في تكاملِ حياةِ الإنسانِ ومستقبلِه. وهذا ما أكّده الأديبُ العربيُّ الكبيرُ ميخائيلُ نُعيمة في قولِه: "وأنا إذْ أعزو شرفَ التَّجدُّدِ ومجدَه وجمالَه إلى الشَّبابِ دون غيرِه من أدوارِ الحياةِ، فلستُ أقصدُ أن أقلِّلَ من شأنِ الطُّفولةِ والصِّبا، والكهولةِ والشّيخوخةِ فى بنيانِ الحياةِ البشريّة. ولكنّ شأنَ هذه دونَ شأنِ الشّبابِ بكثيرٍ ؛ لأنّ الشّبابَ هو المتنُ، وتلك مقدِّماتُه وحواشِيه وخواتيمُه".

ومن الفلاسفةِ الذين اهتمُّوا بالطَّبيعةِ، الفيلسوفُ الفرنسيُّ جان جاك روسّو ، وقد بنَى منهجَه التّربويَّ بالاعتمادِ على الطَّبيعةِ، وأكّد بأنّ كلَّ شيءٍ يأتي من الطّبيعةِ، فهو جميلٌ وحسنٌ وخيرٌ ، طالما لم تمتدَّ إليه يدُ الإنسان، وكانت المدرسةُ الطّبيعيّةُ التي كان هو رائدَها، تتبنّى اتّجاهاً يدعو للعودةِ إلى الطّبيعة، والبعدِ عن المدنيّةِ والحضارةِ المعاصرة، فهو يدعُو للعودةِ إلى الطّبيعة من حيثُ البساطةُ، وتجنُّبُ التّعقيدِ، والعودةُ إلى الحياةِ البدائيّةِ والمجتمعِ الطّبيعيّ.

يعتقدُ روسّو أنّ دراسةَ الجانبِ اللّا عقليِّ هو الفلسفةُ الحقيقيّةُ لفهمِ جمالِ الطّبيعة، والانتفاعِ بها. ولذلك فقد اهتمَّ بالإنسانِ الطّبيعيِّ الذي يفعلُ الخيرَ بطبيعتِه، وقد أراد أن يجعلَ من الإنسانِ إنساناً قبل أن يجعلَه فيلسوفاً، وهذا ما نراهُ في قولِه: "إنّ العقلَ يُفسدُ الطّبيعةَ الإنسانيّةَ، وإنّ التّأمُّلَ يعملُ على تأصيلِها". ومن هذا المنطلقِ أبرزَ روسّو أهميّةَ الجانبِ الوجدانيِّ في التّعليمِ حين قال: "إنّ تنميةَ الشّخصيّةِ لا تقتصرُ على الجانبِ المعرفيِّ فقط بقدرِ ما تعتمدُ على المعرفةِ والجانبِ الوجدانيِّ معاً".

وقد ربطَ روسّو بين الفنِّ والحياةِ، كما ربط الفنَّ بالواقعِ، وهو الفنُّ الذي يمتلكُ القدرةَ على التّأثيرِ على عواطفِنا وانفعالاتِنا، كما انتقدَ روسّو الفنونَ المصطنعةَ مثلَ فنونِ الصَّالوناتِ الأرستقراطيّةِ، وتبنّى في مقابلِ ذلك الفنَّ المتَّسِمَ بالبساطةِ والطّبيعيّةِ والقوّةِ والجمالِ، وهو الفنُّ الحقيقيُّ المرتبطُ بحياةِ النّاس، لكنّ ذلك لا يَعني إطلاقاً أنّ روسّو كان ضدَّ الفنِّ، وإنّما كان ضدَّ الفنِّ المتَصَنَّعِ السَّائدِ في عصرِه.

في ختامِ هذهِ الدّراسةِ النّظريّةِ لفلسفةِ الجمالِ نرى أنّ مفهومَ الجمالِ وأنواعَه قد شغَلا فكرَ الإنسانِ وخيالَه، فتعدَّدتِ الآراءُ، وتنوَّعتِ المذاهبُ، وهذا ما رأيناه فيما قدَّمناهُ من بحثٍ معجميٍّ وفكرٍ فلسفيٍّ ودينيٍّ وأدبيٍّ وتربويٍّ، وقد احتلَّتِ المؤلّفاتُ والدّراساتُ التي اهتمَّت بالجمالِ وعلومِه مساحةً كبيرةً في ميدانِ الكتابةِ والتّأليفِ والنّشر منذُ أن بدأَ الإنسانُ يبحثُ عن الجمالِ في النّفسِ والخيالِ والطّبيعةِ والخلقِ والكونِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى