السبت ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

فلسفةُ النُّورِ في فكرِ ميخائيل نعيمة

قبلَ الولوجِ إلى معاني النُّورِ في فلسفةِ نعيمةَ، أستعرضُ معانيَها كما وردتْ في معاجمِ الضَّادِ وفي هديِ القرآنِ وأشعارِ العربِ ومأثوراتِ الأدبِ، وبذلكَ أستطيعُ أنْ ألتمَّسَ الجماليَّاتِ المعنوية لكلمةِ النُّورِ في فلسفةِ نعيمةَ، ولكيْ أصلَ إلى غايةِ البحثِ لا بدَّ لي من الوقوفِ على تلكَ الأقوالِ مع التَّحليلِ والتَّأويل لاستنضاحِ تلكَ المعاني..
النُّورُ في معاجمِ العربِ
النُّورُ: ضَوْءٌ وسطوع، ضدّ الظُّلمة والجمع: أنْوَارٌ.. النُّورُ :ما يُبَيِّن الأشْياءَ ويُرِي الأبْصَارَ حقيقتها.. العِلْم نورٌ: مُرشد.. انطفأَ نورُ عينَيهِ: أُصيبَ بالعَمى.. خرَج العملُ إلى النُّور: ظهرَ.. رأى النُّورَ: ظهرَ وانكشفَ.. على نورٍ: على بيِّنة.. على وَجْهِه نورٌ: أثرُ الصَّلاحِ والتَّقْوى.. عليكَ نورٌ: وُفِّقْتَ، أو أحسنْتَ القولَ.. نورُ العينِ: الحبيْبُ.. النُّور: اسمٌ من أسماءِ اللهِ الحُسنى، ومعناهُ: صاحبُ النّور، والّذي نوَّر السّمواتِ والأرضَ بما بيّنَه من حججِ وبراهينِ وحدانيّتِه..
النُّورُ في القرآنِ الكريمِ
ذُكرَت كلمةُ النُّورِ في القرآنِ الكريمِ في خمسةٍ وأربعينَ (45) موضِعاً، وردَتْ جميعُها بصيغةِ الاسمِ، ولم تردْ بصيغةِ الفعلِ. وقد جاءَت في الإشارةِ إلى اللهِ، والنَّبيِّ محمَّدٍ، والقرآنِ، والكتابِ، والتَّوراةِ، والقمرِ والمؤمنينَ من الرِّجالِ والنِّساءِ. وقد اقترنَت مع كلمةِ الظُّلماتِ لتصِفَ حالةَ الانتقالِ من الظُّلماتِ إلى النُّورِ، ومن الجهلِ إلى الإيمانِ. وسأقتصرُ على ذكرِ بعضِ تلكَ الآياتِ الّتي وردَت فيها كلمةُ النُّورِ ممَّا يُغْني البحثَ دونَ إطنابٍ. وقدْ جاءتْ في عدَّةِ معانٍ، منها:
1- مَعنى (الإسلام)، من ذلكَ قولُه عزَّ وجلَّ: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ (التّوبة: 32).
2- مَعنى (الإيمان) من ذلكَ قولُه تعَالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (البقرة:275)، (النّور) هو الإيمانَ، والظُّلماتِ ظلماتِ الكفرِ وشكوكَه.
3- معْنى (القُرآن) من ذلكَ قولُه سبحانَه: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ (الأنعام:122)، (النُّورُ) هو: القرآنُ.
4- مَعنى (الهَادي) من ذلكَ قولُه عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (النور: 35)، قالَ الطَّبريّ: هَادي مَن في السَّماواتِ والأرضِ، فهم بنورِه إلى الحقِّ يهتدُون، وبهداهُ من حيرةِ الضَّلالةِ يعتصِمُون.
5- معْنى (النَّبي) -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم- ، من ذلكَ قولُه تعَالى: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ﴾ (المائدة:15)، قال الطّبريّ: يعْني بـ (النُّور) محمَّداً صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، الّذي أنارَ اللهُ به الحقَّ.
6- معْنى (ضَوء النَّهار) من ذلكَ قولُه عزّ وجلَّ : ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ (الأنعام:1)، قالَ السدّي: (النُّور) نورُ النَّهار.
7- مَعنى (ضوء القَمر) من ذلكَ قولُه تعَالى-: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً﴾ (يونس:5)، يعْني: مضيئاً لأهلِ الأرضِ.
8- معْنى (بيانُ الحلالِ من الحرامِ في التَّوراة)، من ذلكَ قولُه تعَالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ﴾ (المائدة:44)، قالَ الطَّبريّ: فيها جلاءُ ما أظلمَ علَيهم، وضياءُ ما التبسَ من الحُكم.
9- معْنى (العدل)، من ذلكَ قولُه تعَالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ (الزمر:69)، أيْ: بعدلِ ربِّها.

النُّورُ في أقلامِ الأدباءِ
طاغور:
فيلسوفٌ ومفكّرٌ وأديبٌ هنديٌّ (1861 - 1941) من ألمعِ أدباءِ ومفكّري العالمِ، تُرجم الكثيرُ من مؤلَّفاتِه إلى عددٍ كبيرٍ من لغاتِ العالمِ، وأُقيمَت معارضُ عديدةٌ لفنِّه الرَّفيعِ.
نجدُ في كتاباتِ طاغُور كلمةَ النُّورِ بمعانٍ رمزيَّةٍ عديدةٍ تنِمُّ عن عمقِ فلسفتِه وتفكيرِه، منها قولُه: "لن تجدَ قوَّة اللهِ العظيمةَ في العاصفةِ، وإنَّما تجدُها في النَّسيمِ الرَّقيقِ، الظَّلامُ يرحلُ صوبَ النُّورِ، ولكنَّ العَمى يرحلُ صوبَ الموتِ، أصدافُ اللُّؤلؤِ الَّتي قذفَها البحرُ على شاطئِ الموتِ العقيمِ تبديدٌ خلّاقٌ لحياةٍ خلّاقة.".
ومن ذلكَ قولُه حينَما يشبِّهُ نورَ الحبِّ بنورِ الشَّمسِ في تشبيهٍ مقلوبٍ وذلكَ ببيانِ قوَّةِ تأثيرِه على الكونِ وفتحِ كنوزِ العالمِ: "إنَّ نورَ الشَّمسِ يفتحُ بابَ الكونِ، كمَا أنَّ نورَ الحبِّ يفتحُ كنوزَ العالمِ.
ويعبِّرُ عن تأثيرِ النُّورِ في نفسِه حينَما يمتزجُ نورُ القمرِ وظلمتُه مساءً في ذاتِه؛ فتَمتزجُ حياتُه بوحدةِ الكونِ: "لقدْ أحببْتُ هذا العالَمَ، وتعلَّقتُ به بكلِّ وَترٍ من أوتارِ كياني، مثلَ النَّبتَةِ المتسلِّقةِ، وطافَ في وجْداني نورُ القمرِ وظلمتُه، الممتزجانِ بالمساءِ، وذابَا فيهِ، بحيثُ أمسَتْ حياتي والكونُ واحداً، في نهايةِ حيَاتي".
ونراهُ يرمزُ إلى البقاءِ بالنُّورِ ويعبِّرُ عن حبِّه للحياةِ في ذاتِها، لكنَّه لا يَرى مفرّاً من حتميَّةِ الموتِ والفناءِ، وأنّ مسيرةَ أحاسيسِه ستتوقَّفُ بنظرةٍ وكلمةٍ أخيرتينِ: "إنّي أُحبُّ نورَ العالمِ، وأُحبُّ الحياةَ في ذاتِها. ولكنْ، ليسَ أقلَّ حقيقةً أنَّ الموتَ واجبٌ عليَّ. فذاتَ يومٍ، ستتوقّفُ كلماتي عن الإزهارِ في المدَى، وستَكفُّ عينايَ عن الاستِسلامِ للضِّياءِ، ولن تسمعَ أُذنايَ، بعدُ، رسائلَ الليلِ السّرِّيَّةَ، ولن يَهرعَ قلْبي مستجيباً لدعوةِ شروقِ الشَّمسِ الصَّاخبةِ، ولا مفرَّ لي من الانتهاءِ بنظرةٍ أخيرةٍ، وبكلمةٍ أخيرةٍ".

أبو القَاسِم الشَّابيّ:
أبو القاسمِ بنُ محمَّد بن أبي القاسمِ الشَّابِّي الملقَّبُ بـشاعرِ الخضراءِ (24 فبراير 1909 -9 أكتوبر 1934) شاعرٌ تونسي، ولِد في بلدةِ الشَّابّةِ من ضواحي مدينة تُوزر في جنوبِ غربِ تونسَ أيّام الحمايةِ الفرنسيَّة، ونشأَ بها. من أشهرِ أعمالِه ديوانُ (أغاني الحياة)، وكتابُ (الخيالُ الشِّعريُّ عندَ العربِ).
يعبِّرُ أبو القاسم في قصيدتِه (نشيدُ الجبَّار أو هكذا غنَّى برومِيثيوس) عن موقِفه الصّلبِ تجاهَ الحياةِ وأعدائِه، ويؤكّدُ بأنّه سيَحْيا برغمِ مرضِه الّذي يوهِنُه، وقدْ استعارَ لنفسِه اسمَ الجبَّارِ دلالةً على إصرارِه ووقوفِه ضدَّ طوفانِ الحياةِ الهائجِ!
و نرى أنَّ أبا القاسم قد استعارَ شخصيَّةَ (بروميثيوس) و هو إلهٌ في الأساطيرِ اليونانيَّةِ القديمةِ، دافعَ عنِ الإنسانِ، فعاقبَتْه الآلهةُ الأُخرى عقاباً شديداً، لكنَّه كان صلْباً لم يتزحزحْ، و ظلَّ متحدّياً كلَّ ما يواجهُه!
في هذهِ القصيدةِ ينظرُ الشّابّي إلى الشَّمسِ ولا يُبالي بالسُّحبِ والأمطارِ ولا يهتمُّ بالظِّلالِ الكئيبةِ؛ لأنَّ نفسَه مُترعةٌ بالنُّورِ يحلِّقُ بجناحَيهِ كطائرٍ في السَّماءِ، فلا يَخشى المسيرَ في الظَّلامِ، فهو قويٌّ يتحدّى محنَ الدَّهرِ وعادياتِ الزَّمانِ ولا يُبالي بالأعداءِ:
أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئاً بالسُّـــحْبِ والأَمطارِ والأَنــــــــــواءِ
لا أرْمــــــقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى مَا في قَـــــرارِ الهُــــوَّةِ السّـــوداءِ
النُّــور في قـلبي وبينَ جــوانحي فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ

النُّورُ في قلمِ نعيمةَ
بعدَ أن استعرَضْنا معاني كلمةِ النُّورِ في المعجمِ العربيِّ وهديِ القرآنِ وديوانِ الأدبِ، نستطيعُ الولوجَ إلى معاني النُّورِ الّتي ينضحُ بها يراعُ نعيمةَ، فمَن يتأمَّلُ فلسفةَ كاتبِنا ومفكِّرنا ميخائيلَ نعيمةَ يدركُ عمقَ التَّأمُّلِ والتَّفكيرِ والتَّحليلِ والوصفِ، إضافةً إلى عبقريَّةِ صياغةِ الأفكارِ بأسلوبٍ أقربَ إلى السُّهولةِ والوضوحِ وعباراتٍ ناصعةٍ تنأَى عنِ التَّعقيدِ في سبكِ المفرداتِ في عِقدٍ منَ المعاني تنضحُ فيهِ بكلِّ ما فيها من عمقٍ معنويٍّ وجمالٍ جوهريٍّ.
ولعلَّ من أجملِ ما عبَّر عنهُ نعيمةُ في دلا لةٍ على النُّورِ والهدايةِ بعدَ الدَّيجورِ والضَّلالِ ما ما فاضَ حكمةً في نهجِ قلمِه الّذي كسرَه مرَّتينِ: مرّة حينَما شغلَ فكرَه في التَّحليلِ في غمارِ إيمانِه باللهِ، ومرَّةً أخْرى حينَما غاصَ بكلِّ ما أُوتيَ من تأمُّلٍ وبحثٍ إلى إيمانِه بنفسِه، لكنَّ قلمَه رأى نورَ الحكمةِ والقوَّةِ حينَما نأَى بريشتِه عنِ التَّحليلِ؛ ليصبَّ جامَ عبقريَّتِه في التَّسجيلِ والكتابةِ. يقولُ نعيمةُ: "كسرتُ قلمي مرّتين: مرّةً عندما حاولتُ أن أحلِّلَ إيماني باللهِ. وأخْرى يومَ حاولْتُ أن أحلِّلَ إيماني بنفْسي. أمّا اليومَ فقدْ جمعْتُ كِسَرَ قلَمي وجبرْتُها. فعادَ قلَمي أقْوى ممّا كانَ. وهو في شُغلٍ عنِ التَّحليلِ بالتَّسجيلِ." ( )
وهَا هوَ يعبِّرُ عنِ النُّورِ بالشُّعاعِ المنبثقِ منْ أشعَّةِ الشَّمسِ، لكنَّهُ ربَّما يرمزُ بهِ إلى الإنسانِ، إذْ يتنافسُ كلٌّ بحسبِه ونسبِه، لكنَّ الأيَّامَ تدولُ وتدولُ، فينقلبُ ظهرُ المِجنِّ، وتتبدَّلُ الأحوالُ ليعودَ الغنيُّ فقيراً، ويغدوَ الفقيرُ غنيَّاً، ويسودَ العبيدُ ليصبحُوا أسياداً، وينحدرَ السَّادةُ ليَؤُولُوا إلى عبيدٍ، ولكنَّ الجميعَ يتساوونَ في الفَناءِ كما يفْنى الشُّعاعُ السَّادرُ في الفضاءِ، يقولُ نُعيمةَ: "تنافسَ شُعاعانِ من أشعَّةِ الشَّمسِ وكانَ أحدُهما قدْ دخلَ قارورةَ طيْبٍ والآخرُ مِحبرةً. فقالَ الأوّلُ للثّاني: لو لم تكنْ خسيسَ المحتدِ لما رضيْتَ بالمحبرةِ مسكناً. ودارتِ الشّمسُ فانتقلَ الأوّلُ إلى المحبرةِ والثّاني إلى قارورةِ الطّيبِ. فقالَ الثَّاني: عدْتُ إلى أصلي وعدْتَ إلى أصلِكَ. ثمّ دارتِ الشّمسُ ثانيةً وإذا بالشُّعاعينِ شعاعٌ واحدٌ سائحٌ في الفضاء." ( )
عصرُ نعيمةَ بينَ النُّورِ والدَّيجورِ
(بينَ الحقيقةِ والتّزييفِ)
لعلَّ قلمَ نعيمةَ من الأقلامِ المعدودةِ الّتي ميَّزتِ الزَّيفَ من الحقيقةِ في عصرٍ لم يبلغْ فيهِ الزَّيفُ والتَّشويهُ أدْنى درجةٍ ممّا وصلَ إليهِ عصرُنا ما بعدَ نعيمةَ، ولكنْ قلَّما نجدُ قلَماً عبقريَّاً شجاعاً يمتلكُ جناحَي التَّحليقِ في فضاءاتِ الحرّيَّةِ والانعتاقِ من أسرِ التَّبعيَّةِ والعبوديَّةِ والنِّفاقِ والمجاملةِ والمداجاةِ، إنَّه حقَّاً عصرُنا الّذي سطَتْ فيهِ التِّكنولُوجيا على روحِ الإنسانِ وفكرِه، وصارَ الزَّيفُ برنامجاً ألكترونيَّاً يُحيلُ الفضَّةَ ألماساً، و النُّحاسَ ذهباً، والكتَّانَ حريراً، والدَّيجورَ نوراً، وتفنَّنَ الغواةُ في تزييفِ صورةِ الإنسانِ في رفعِ ما انخفضَ، وخفضِ ما ارتفعَ وشدِّ ما تهدَّلَ، وترنيحِ ما سكنَ، فتنقلبُ الملامحُ وتتغيَّرُ تضاريسُ الخلقةِ البشريَّةِ ما بينَ البشاعةِ والجمالِ، والشَّيخوخةِ والفتوَّةِ، والذُّكورةِ والأنوثةِ وما بينَهما، فمَا بالُكم بالتَّزييفِ الّذي شوَّهَ قيمَ الحقِّ والعدالةِ والجمالِ الرُّوحيِّ وغيرَها، حتّى أضْحى اللصُّ رجلَ الشَّرفِ والكرمِ، والحاكمُ المستبدُّ قائدًا مُلهماً، والتَّاجرُ الغشَّاشُ حاذقاً ماهراً مُحاطاً بنعمِ اللهِ، والنَّمَّامُ والثَّرثريُّ رجلاً حكيماً، وقائدُ الجيشِ المهزومِ أمامَ عدوِّهِ والقاتلِ لشعبِه فاتحاً عظيماً يحملُ خارطةَ الوطنِ الكبيرِ على صدرِه نياشينَ عزٍّ وفخارٍ.. فقدْ غطّى الزَّيفُ جميعَ وجوهِ الحياةِ مادّيّةً ومعنويَّةً، فما بالُ نعيمةَ لو أدركَ زمناً ما بعدَ زمنِه، فهلْ كان قلمُه إلّا كِسراً لا يستطيعُ أن يجمعَ أشتاتَه إلّا لعناتٌ وويلاتٌ من فؤادِه تنصبُّ بركاناً على السّاعةِ التي نسبَتْه فيها إلى أرضٍ ومحتدٍ غريبٌ في فكرِه عنهُما، ولربَّما عجزَ قلمُه أمامَ صورِ التَّسجيلِ والتَّعبيرِ..
فها هوَ يصبُّ كيمياءَ فكرِه على مفرداتِ اللُّغةِ ليبيِّنَ أنواعَها، فمِنها الكريمُ النَّادرُ الّذي يلحقُه التَّزييفُ والتَّزويرُ والتَّشويهُ، ومنها شبهُ النَّادرِ، ومنها الخسيسُ وهو الكثيرُ الّذي لا يشُوبُه أيُّ تزييفٍ أو تزويرٍ، كمَا الحالُ في المعادنِ: "المفرداتُ في اللُّغةِ كالمعادنِ والحجارةِ في الأرضِ: منها الكريمُ وهو النادرُ. ومنها شبهُ الكريمِ وهوَ أقلُّ ندرةً. ومنها الخسيسُ وهو الكثيرُ الكثيرُ. والنَّادرُ هو المعرَّضُ أبداً للتَّزييفِ. فأنتم قلّمَا تسمعُونَ بالحديدِ أو القصديرِ أو النُّحاسِ المزيَّفِ. وتسمعُونَ بالفضَّةِ المزيَّفةِ، وبالذَّهبِ والبلاتينِ المزيَّفينِ، ولا تسمعُون بالحجارةِ الرَّمليَّةِ أو الكلسيَّةِ المزيَّفةِ ولا بالزُّجاجِ المزيَّفِ، وتسمعُون باليَشْبِ والياقوتِ والألماسِ المزيَّفِ. كذلكَ لا تسمعُون بالحقارةِ والوضاعةِ والرَّجاسةِ والخساسةِ والدَّعارةِ والشَّقاوةِ المزيَّفةِ، وتسمعُون بالجلالةِ والرِّفعةِ والقداسةِ والفخامةِ والعِصمةِ والسَّعادةِ المزيَّفةِ." ( )
ويبيّنُ نعيمةُ الخطرَ القادمَ على مستقبلِ الأممِ نتيجةَ التَّزييفِ الّذي يَعْتري قيمَها الرُّوحيَّةَ العاليةَ، ولا تُبالي بذلكَ أيّةَ مبالاةٍ، بينَما نراهَا تقيمُ الدُّنيا ولا تُقعِدُها على التَّزويرِ الّذي يلحقُ بقيمِها المادّيّةِ: "لقدْ تفشَّى التَّزييفُ والتَّقليدُ والتَّزويرُ والتَّمويهُ في القيمِ الرُّوحيَّةِ العاليةِ تفشيَّاً لا يبشِّرُ الإنسانيَّةَ بغدٍ أغرَّ قشيبٍ، وينذِرُها بيومٍ عَبوسٍ عصيبٍ. ولو أنَّ ما يشبهُ ذلكَ تفشّى في أسواقِها الماليَّةِ لقامتْ قيامتُها وراحَت تبثُّ العيونَ في كلِّ جانبٍ لتهتديَ إلى المزوِّرينَ والمزيِّفينَ والمقلِّدين والمموِّهين، فتقتصَّ منهم قصاصَ المتآمرينَ على كيانِها، المارقينَ من نظامِها، العابثينَ بأقداسِها. فحرصُها على سلامةِ فلسِها من التَّزييفِ أشدُّ بكثيرٍ من حرصِها على سلامةِ ذوقِها من العفنِ، وقلبِها من الغشِّ، وفكرِها من الضَّلالِ.." ( )
ثمَّ يوجّهُ نعيمةُ سهامَ نقدِه اللّاذعِ إلى عصرِه الّذي يصفُه الكثيرونَ بأنَّهُ عصرُ النُّورِ، لكنَّ نعيمةَ ينفِي عن عصرِه أيّةَ صفةٍ من صفاتِ النُّورِ ويتَّهمُ هؤلاءِ الواصفينَ بالبساطةِ وتسطُّحِ الفكرِ: "ولعلَّ أكبرَ مذمَّةٍ نوجِّهُها إلى عصرٍ نحنُ فيهِ هي نعتُنا إيَّاهُ بـعصرِ النُّورِ. فما أكثرَ الألسنةَ والأقلامَ الّتي تنزلقُ عنها كلمةُ النُّورِ بسهولةٍ متناهيةٍ كلَّما حدَّثَتْ عن هذا العصرِ. حتّى كأنَّ النُّورَ نقْدٌ متداولٌ في أسواقِ النَّاسِ، أو وسامٌ يسكُّهُ مَن يشاءُ ساعةَ يشاءُ ويعلِّقُه حيثُ شاءَ. وعندي أنّ مَن استخفَّ بالنُّورِ إلى حدِّ أنْ يجعلَهُ صفةً لعصرٍ كهَذا العصرِ إنّما يستخِفُّ بالنَّاسِ ويَنقدُهم نقْداً زائِفاً. فهوَ عدوُّ نفسِه، وعدوُّ النَّاسِ، وعدوُّ النُّورِ." ( )
ولكيْ يُزيلَ اللَّبسَ عن فهمِ معْنى كلمةِ النُّورِ الَّتي يقصدُها معاصرُوه الّذين وصفُوا عصرَهم بالنُّور، نجدُ نعيمةَ يوجِّهُ إكسيرَ نقدِه إلى المعْنى الّذي قصدُوه من كلمةِ النُّور، فليسَ قصدُهم نورَ الشَّمسِ الّذي رافقَ الكونَ منذُ ولادتِه، وإنّما هو عصرُ التحضُّرِ والتَّمدُّنِ والتَّطوُّرِ وتحرُّرِ البشريَّةِ، لكنّه في نظرِ نعيمةَ عصرٌ مثلَ غيرِه من العصورِ مثقلٌ بالعثراتِ والأوجاعِ والآلامِ والمآسِي والويلاتِ والنَّكباتِ والظُّلماتِ: "منَ الأكيدِ أنّنا لا نَعني نورَ الشَّمسِ. فالشَّمسُ كانتْ قبلَ أن نكونَ، وما من جيلٍ مضَى أو عصرٍ انقضَى إلّا رافقَ الشَّمسَ ورافقَتْه الشَّمسُ. فمَا نجَا جيلٌ، ولا انعتقَ عصرٌ من العثراتِ والنَّكباتِ والويلاتِ والأوجاعِ والظُّلماتِ الّتي ما برحَتْ تكتنِفُ الحياةَ والموتَ.." ( )
وحينَما يوضِّحُ نعيمةُ حقيقةَ مفهومِ النُّورِ الّذي أطلقَه معاصرُوه على عصرِهم، فإنَّه يتساءلُ ما النُّورُ الّذي يميِّزُ عصرَه عمّا سبقَه من عصورٍ، وهل هَذا النُّورُ حقيقيٌّ أم مزيَّفٌ؟ ويُجيبُ نعيمةُ على تساؤلِه بأسلوبٍ منطقيٍّ وعباراتٍ واضحةِ الدِّلالةِ: "إنّ ما يعْنِيه أولئكَ السُّذَّجُ بالنُّورِ ليسَ أكثرَ من بصيصِ الحُباحِبِ في الدَّيجورِ. فقدْ طابَ لهُم أن يُقسِّمُوا تاريخَ البشريَّةَ إلى أدوارٍ أو عصورٍ، وأن يُلصِقُوا بكلِّ عصرٍ رقعةً ويخُطُّوا على كلِّ رقعةٍ كلمةً تكونُ بمثابةِ صفةٍ لذلكَ العصرِ تميِّزُه عن غيرِه من العصورِ، وقد رأَوا أنّ العصرَ السّابقَ لعصرِنا - وهو الأجيالُ الوُسطى - كان عصراً صرَفَ جُلَّ همِّه إلى الشَّعوذاتِ العلميَّةِ والمُماحكاتِ الدِّينيَّة. فنكَّلَ أفظعَ التَّنكيلِ بمَنْ سوَّلَت له نفسُه الخروجَ على قشورِ العلمِ المألوفِ وعلى التُّرّهاتِ الّتي لا تنتسبُ إلى الدّينِ إلّا كما ينتسبُ التُّرابُ إلى التِّبرِ والحسَكِ إلى الحَبِّ..". ( )
وبالرّغمِ منَ التَّطوُّرِ الّذي شهدَتْه البشريَّةُ نتيجةَ تقدُّمِ العلومِ، فإنَّ ذلكَ لم يبلغْ شأوَ النُّورِ الّذي يقصدُه نعيمةُ، وإنّما هو مثلَ بصيصِ الخنافسِ المضيئةِ في الظَّلامِ الّذي يحيطُ بهِ من كلِّ جانبٍ: "لئن حقَّ لنا أن نُباهي بصرحٍ شدْناه للعلمِ فلا يحقُّ لنا أن ندعوَه ملجأً أو منارةً. فهو، كما قلتُ، ما يزالُ بغير سقفٍ. وبصيصُ النُّور الّذي نلمحُه فيه ما يزالُ أضعفَ من أن يخترقَ الدّياجيرَ من حولِه. فهيَ من فوقِه ومن تحتِه وعن جانبَيهِ حالكةٌ، كثيفةٌ، ساحقةٌ". ( )
ثمَّ تتبلْور فلسفةُ النُّورِ في أبْهى معانيها الفكريَّةِ عندَ نُعيمةَ حينَما يَرى أنَّ الإنسانَ مازالَ في دياجيرِ عالمِه الأرضيَّ والسَّماويِّ، فكيفَ للدَّيجورِ أن يُنيرَ الدَّياجيرَ من حولِه، ولا سيَما أنَّ الإنسانَ ما برحَ في مجاهلِ نفسِه، لا يدركُ مَن هُو وما غايتُه من وجودِه، فكيفَ لهُ أن يدركَ مجاهلَ ما حولَه وغايتَه من هَذا الوجودِ؟: "نحنُ في دياجيرِ عالمِنا الأرضيّ. فكيفَ بالعالمِ السّماويِّ؟ ونحنُ من العالمِ الأرضيّ والسَّماويّ في دياجيرَ لأنَّ الإنسانَ ما يزالُ في ديجورٍ. فكيفَ للدّيجورِ أن يُنيرَ الدَّياجيرَ؟ كيفَ لمن لا يَعرفُ مَن هوَ أن يعرفَ ما حولَه؟ ولمَن يَجهلُ غايتَهُ من الوجودِ أن يُدركَ غايةَ الوجودِ؟ ( )
ولكيْ يُبرِّرَ نعيمةُ ما ذهبَ إليهِ من أنَّ الإنسانَ لم يبلغْ بعدُ مرحلةَ النُّورِ؛ لأنَّه لم يتعلَّمْ بعدُ كيفَ يستعملُ فكرَه وخيالَه ووجدانَه؛ ليُخلِّصَ بها نفسَه وغيرَه من دياجيرِ الغريزةِ ليصلَ إلى نورِ المعرفةِ والقدرةِ والحرّيَّةِ: "ونحنُ ما تعلّمْنا بعدُ كيفَ نستعملُ الفكرَ والخيالَ والوجدانَ لنَخلُصَ بها ونُخلِّصَ سِوانا من دياجيرِ الغريزةِ إلى نورِ المعرفةِ والقدرةِ والحرّيّةِ. ولو أنّنا تعلَّمْنا لما وجَّهْنا سلاحَنا يوماً من الأيّامِ ضدَّ إنسانٍ من النَّاسِ أو ضدَّ أيّ كائنٍ سواهُ من الكائناتِ، بل ضدَّ ما فيْنا من غرائزَ تدفعُنا على مخاصمةِ النَّاسِ والكائناتِ.. لذلكَ نقاتلُ النّاسَ ونُخاصمُ الطَّبيعةَ فنَشْقى ونُشْقي ولا نُريحُ ولا نَستريحُ" ( ).
وها هيَ فلسفةُ نعيمةَ في بيانِ معْنى النُّورِ تشعُّ نوراً؛ لتُبيِّن لنا حقيقةَ النُّورِ الّتي يُؤمنُ بها، فمَن يدركُ قيمةَ النُّورِ في نفسِه يُدركُها في الآدميّينَ مِن حولِه: "مَن أدركَ قيمةَ النُّورِ في روحِه أدركَها في كلِّ إنسانٍ فكانَ عوناً لأخيهِ في حربِه معَ نفسِه لا عوناً عليهِ كيمَا يكونَ أخوهُ عوناً لهُ في حربِه معَ نفسِه لا عوناً عليهِ. فشمعتانِ تُضيئانِ معاً لأقْوى على تبديدِ الظّلامِ من واحدةٍ" ( ).
وها هيَ أنوارُ حكمتِه تنصبُّ على الجاهلينَ الّذينَ يُضعفُون النُّورَ في أرواحِهم وفي عيونِ الآخرينَ، من خلالِ الأذى والطَّمعِ وتقييدِ حرّيّةِ الآخرينَ وسلبِ حياتِهم، فتنطلقُ تلكَ الأنوارُ بصيغةِ (ما أفعلَ) للدِّلالةِ على شدَّةِ الجهلِ والدَّيجورِ والبعدِ عن العلمِ والنُّورِ: "ما أجهلَ مَن يَفْقأُ عينَ أخيهِ ولا يَعرفُ أنّه بذلكَ يُضعِفُ النُّورَ في عينِه. فكلُّ عينٍ بشريَّةٍ، أينَما كانتْ، هي نورٌ يُضافُ إلى النّورِ في عيونِكم".
• ما أجهلَ مَن يكسِرُ يداً بشريّةً أو رِجلاً بشريّةً. فرِجلُ كلِّ إنسانٍ ويدُه هُما قوَّتانِ تُضافانِ إلى قوَّةِ أرجلِكُم وأيديْكُم.
• ما أجهلَ مَن يأكلُ خبزَ أخيهِ لشبعٍ ويَجوعُ أخوهُ. فكلُّ جائعٍ في الأرضِ هو شاهدُ اتّهامٍ على الشِّباعِ والمتْخمينَ أمامَ محكمةِ الحياةِ والنُّورِ، وحجرُ رحىً في أعناقِهم.
• ما أجهلَ مَن يُطلقُ لسانَه على هواهُ ويعقِل لسانَ أخيهِ. فلِسانٌ معقولٌ عنِ النّطقِ بمَا في الفكرِ والضَّميرِ والخيالِ لجَمْرةٌ حرَّاقةٌ تحتَ ألسنةِ الطُّغاةِ والثَّرثارينَ.
• ما أجهلَ مَن يسلبُ إنساناً حياتَهُ. فكلُّ إنسانٍ، أينَما كانَ، جنديٌّ مساعدٌ في الحربِ الّتي يشنُّها النُّورُ فيكُم على الدَّيجورِ.
وبناءً على صفةِ النُّور الّتي أُلصقَتْ على صفحاتِ عصرِ نعيمةِ، فإنَّه يَبني عليها قاعدةً فكريَّةً ستجعلُ من العصرِ الّذي يليهِ عصرَ تألُّقٍ وتألُّهٍ: "إذا كانَ عصرُنا عصرَ النّورِ وعصرَ الحريّةِ والإخاءِ والمساواةِ فالعصرُ الّذي يليهِ سيكونُ، من غيرِ شكٍّ، عصرَ التَّألُّقِ، بلْ عصرَ التّألُّهِ. وها نحنُ على عتبةِ ذلكَ العصرِ. فهل مَن يَشعرُ بأنّ الإنسانَ يُوشكُ أن يتألّهَ؟ إنّ الكثيرَ من النَّاسِ يشعرُ عكسَ ذلكَ بالتَّمامِ. فالإنسانُ في نظرِ هؤلاءِ يتقهقرُ سِراعاً إلى الحيوانِ ويوشكُ أن يُمسَخَ قِرداً".
ويَرى نعيمةُ أنّ عصرَه بعيدٌ كلَّ البعدِ عنِ التألُّقِ والتَّألُّهِ (المرادُ بالتألُّه: أنَّ الإنسانَ صورةُ اللهِ ومثالُهُ)، وبالتّالي فهوَ في هوَّةٍ سحيقةٍ عنِ النُّورِ؛ لأنَّه في منأىً شاسعٍ عنِ الحرّيّةِ والإخاءِ والمساواةِ: "ما دمْنا بعيدينَ كلَّ البعدِ عنِ التألّقِ والتّألُّهِ فنحنُ بعيدونَ عنِ النُّورِ، وعن الحريّةِ الّتي لا تعيشُ إلا بالنّورِ وفي النّورِ، وعن الإخاءِ الّذي لا ينبتُ إلّا في حِمى الحرّيّةِ، وعنِ المساواةِ الّتي لا تقومُ بغيرِ الإخاءِ..".
وتتألّقُ فلسفةُ النُّورِ في فكرِ نعيمةَ حينَما يقارنُ بينَ الإنسانِ والحيوانِ، فيَرى أنَّ غريزةَ الحيوانِ في طعامِه وشرابِه وتناسُلِه وتكاثُرِه هيَ النُّورُ الّذي يَهتدي بهِ ويُقاومُ أمراضَه وأعداءَه، ويهربُ من الأوجاعِ والأخطارِ المحيقةِ بهِ: "يسلكُ الحيوانُ سبيلَه في الحياةِ على هديِ الغريزةِ. فهوَ بالغريزةِ يأكلُ ويشربُ. وبالغريزةِ يتناسلُ ويتكاثرُ. وبالغريزةِ يقاومُ أمراضَه وأعداءَه ويهربُ من الأوجاعِ والأخطارِ. فالغريزةُ هي النُّورُ الّذي يستنيرُ بهِ الحيوانُ".
أمّا الإنسانَ فإنَّهُ يملكُ فوقَ نورِ الغريزةِ نوراً آخرَ يتجلَّى في الفكرِ والخيالِ والوجدانِ، لكنَّ الإنسانَ مازالَ غِرّاً لم يُتقِنْ استعمالَهُ بعْدُ، وهذهِ الأقانيمُ الثَّلاثةُ هي الّتي تحرِّرُ الإنسانَ من غرائزِه الحيوانيَّةِ، فتسمُو بهِ نحوَ أن يكونَ صورةً للإلهِ ومثالاً له على الأرضِ: "أمّا الإنسان فله فوقَ نورِ الغريزة نورُ الفكرِ والخيال والوجدانِ. وهو حديثُ العهدِ بذلكَ النُّورِ فمَا أتقنَ استعمالَه بعدُ، ولا أتقنَ السَّيرَ على هديِه. لذلكَ يستسهِلُ السَّيرَ على هديِ الغريزةِ إذ لا يُلاقي فيه من المشقَّةِ ما يُلاقيهِ في السَّيرِ على هديِ الفكرِ والوجدانِ. ولكن فكرَه ما استيقظَ ليعودَ فينامَ. وكذلك وجدانُه وخيالُه. وهذهِ الثَّلاثةُ تعملُ بغيرِ انقطاعٍ، منفردةً ومتَّحدةً، على تحريرِ الإنسانِ من ربقةِ الغرائزِ الحيوانيّةِ والسّموّ به إلى حيثُ يصبحُ حريّاً بالميراثِ المعَدِّ له منذُ الأزلِ - ألا وهو الألوهةُ. أما قيلَ – وما أصدقَ ما قيلَ – إنّ الإنسانَ صورةُ اللهِ ومثالُه؟".
وأختتمُ فلسفةَ النُّورِ في فكرِ نعيمةَ في عصارةٍ أشبهَ بعقدِ الجُمانِ في فلسفةِ كلِّ الأزمانِ، قد يفقَهُها فكرُ المتنوِّرينَ الّذين سمَوا بأقانيهم الآنفةِ الذِّكرِ (الفكرُ والخيالُ والوجدانُ)، وقدْ يَجهلُها فكرُ حديثي العهدِ في التَّحليقِ بها، وسيغفلُ عنها مَن أنعمَ اللهُ عليهِ بنورِ الغريزةِ وحرمَه من نورِ الأقانيمِ الثَّلاثةِ، وأتركُ أمامَ غيري دياجيرَ تخترقُ حجُبَها أنوارُ أفهامِهم، فيَرى نعيمةُ أنَّ نورَ الإنسانِ لا يبتدئُ بولادتِه، ولا يندثرُ بفنائِه؛ لأنَّ الإنسانَ من اللهِ وفيهِ، ولا بدَّ لهذا النُّورِ أن يستمرَّ حتّى يكتشِفَ أسرارَ ذاتِه وحياتِه ويستَكْنِهَ أسرارَ الربوبيّةِ فيهِ: "أمّا ما نراهُ من تقلُّبٍ وتبدُّلٍ في المحسوساتِ فليسَ أكثرَ من تحوُّلٍ في طبقاتِ الدَّياجيرِ تكتنفُ النّورَ فينا. لكنّما النّورُ باقٍ. وهو لا يتحوّلُ ولا يتبدَّلُ. فلا الولادةُ تشعلُه ولا الموتُ يُطفئُه. وما الموتُ إلا انتقالُ النّورِ من مصباحٍ إلى مصباحٍ - من إناءٍ إلى إناءٍ – من حالٍ إلى حالٍ. ونحنُ ما أوتيْنا حدَّةَ البصرِ ما يمكِّنُنا من رؤيةِ أجسامٍ كثيرةٍ نشربُها في الماءِ الذي نشربُ ونتنشَّقُها في الهواءِ الذي نتنشَّقُ. فأيُّ عجبٍ إذ ذاكَ أن لا نُبصرَ المصابيحَ أو الآنيةَ الّتي ينتقلُ إليها النّورُ بعد الموتِ، وقد تكونُ من موادَّ ليستْ من الكثافةِ والخشونةِ بحيثُ نتمكَّنُ من الاتّصالِ بها مباشرةً بحواسِّنا الكثيفةِ الخشنةِ؟".

وخلاصةُ القولِ في فلسفةِ نورِ نعيمةَ أنَّهُ نورُ الحرّيّةِ والإخاءِ والمساواةِ والسُّموِّ بالإنسانِ فوقَ غرائزِ الحيوانِ بالفكرِ والخيالِ والوجدانِ، فلا يَطغى إنسانٌ على غيرِه في حقٍّ من حقوقِه أو كسرةِ خبزٍ من طعامِه، ولا يُفني غيرَه ليعيشَ ذئباً بينَ قطيعٍ في الغابةِ، وما دامتِ البشريَّةُ تنتهكُ هذهِ الحرماتِ، فهي بعيدةٌ كلَّ البعدِ عنِ النُّورِ وعلى الدُّنيا السَّلامُ!
الشارقة في /15/12/2021

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى