الخميس ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠٢١

في دائرة الدائرة

صالح البياتي

في ظهيرة يوم صيفي، عبرت سيارة جسراً على نهر، تحمل نعشا على سطحها، أخذت تنهب طريقا بين حقول مفتوحة على الجانبين، متجهة شمالا؛ مارة بمدن وبلدات؛ وأراض تكسوها نباتات واشواك برية.

أثارت رتابة الطريق ودرجة الحرارة المرتفعة، الكآبة والضجر في نفس الشاب، وصدته عن التطلع الى جانبيه، وقبل ان تجتاز السيارة منتصف المسافة، ظهرت بعض الأشجار القليلة، التي خدشت وجه الطريق بظهورها المفاجئ، متناثرة هنا وهناك، كسرت شيئا ضئيلا من رتابته القاتلة، وحيث انه سينتهي قبيل هبوط الظلام بمقبرة وادي السلام، التي تمتد على ارض بمساحة مدينة كبيرة، إستحقت ان يطلق عليها مدينة الأموات، إلا انها في ساعات النهار تموج بحركة الأحياء، وتخمد عند حلول الظلام، فتدخل في حرمة الأرواح التي تسكنها.

إنطلقت السيارة في إتجاه معاكس للريح، التي كانت تهب بشدة رافعة أطراف الغطاء الذي يلف التابوت، فكأنه هو الآخر يطير فوقها.

نظر السائق امامه، الى الطريق الممتد؛ الذي تآلف معه فصار بإمكانه إغماض عينيه؛ ورؤيته مرسوما بدقة في رأسه.

إختلس نظرة من خلال المرآة؛ الى الشاب الجالس في المقعد الخلفي، حاول مغافلته لأخذ رشفة سريعة؛ من زجاجة الخمر التي بجانبه، لكن عيونهما التقت فعدل عن محاولته، اشعل سيجارة ورمى بصره في الفراغ؛ متشاغلا بمتابعة الطريق، متذكرا معاناته في شتاءات قديمة، عندما تتقطع أوصال الطريق عند هطول الأمطار، آنذاك يُدفن الأموات في قبور وقتية، حتى يجف التراب وتدب عليه الحركة، فرغم أنه يفقد مورد اساسي لمعيشته، لكن في ذلك جانب إيجابي، يتيح لأهل الفقيد الوقت الكافي لزيارته، لحين يتم نقله لمثواه الأخير.

يقبع الشاب في المقعد الخلفي لائذا بصمت لا يحيد عنه، يفكر بأبيه الذي يرافقهما في رحلة دون إرادته، إثنان عيونهم تنظر الى الأمام بإتجاه الطريق، اما الراكب الثالث فعيناه تنظران للسماء؛ في ما إذا انفتح الجفنان ورُفع غطاء التابوت.

فوجئ بالسائق يسأله عن سبب وفاة الأب، فكر ماذا يجيب هذا المتطفل، أيقول أنه سقط عن السرير ومات فورا؛ أيصدقه.. ربما لا .. قد يفكر انه سقط بركلة قوية من زوجته، لا يدري هذا الغبي انه ارمل منذ سنوات، تظاهر بعدم السماع، لكن السائق كرر السؤال بصيغة آخرى.
هل كان المرحوم يعاني من مرض ما.

نعم كان مريضا جدا.
وكبيرا في السن.
لا لم يكن كبيرا جدا.

فتح السائق مسجلة السيارة، بعد ان شعر ان رفيق السفر لا يرغب بمواصلة الحديث، فغمرت سورة ياسين المكان بجو من الخشوع والرهبة، أحدثت صدمة في نفسه، ذكرته بجبروت الموت الذي طالما كان قريبا منه، فرغم أنه ينقل الأموات، وتلك مهنته منذ سنوات، وليس بينه وبينهم سوى سقف السيارة. لكنه تعجب؛ لماذا جثم الموت الآن على انفاسه، وكأنه هو الذي يقوده ويُسخِرهُ لهذا العمل، كان يريد ان يدحض هذه الفكرة، ويبدد تأثيرها السلبي، وأن يؤمن بأن عمله جزء من عملية متكاملة، يشترك فيها أيضا آخرون، فالذين يقومون بالتنظيف والغسل هم الحلقة الهامة، وأخيرا يأتي دورالذين يقومون بعملية الدفن، كل منهم يؤدي عمل في غاية الأهمية، ولولا ذلك لأنتصر الموت وأخرج لسانه ضاحكا على الجميع.

رأى الشاب فلاحين يرفعون ايديهم بالتحية؛ عندما يشاهدون السيارة، فكان الشاب يرد التحية، رآه السائق عدة مرات من خلال المرآة التي امامه.

هم لا يحيوننا.
فمن يحيون .
لا أحد.
يحيون الميت إذاً
بل يحيون الموت.

ألقت الشمس في دقائق غروبها الأخيرة، آخر مشاعلها على السيارة، فبدا التابوت يشتعل في لهيبها، أثارت تلك اللحظات إحساسا صامتا بالضياع في نفس الشاب، شعورا بالأسى والرغبة في التواري عن هذا العالم، لكنه تماسك حينما تذكر نظرة والده للموت، فهو يراه حقيقة هائلة، لكنها مع ذلك ليست مخيفة، اذا نظرنا اليها من دون مواربة.

إقتنع أنها أقدم حقيقة عرفها الإنسان في غمرة حياته، وتساءل لماذا نتحاشاها كما لو أنها لا تمت للواقع بصلة، أو أنها خارج إطار الزمن.

إنجرف الشاب في تأملاته فتذكر شيئا قرأه لشاعر روسي نسي اسمه، يقول فيه: لو اننا إعتدنا التنزه بين القبور، منشدين ترانيم بديعة، وسط بخور زكي الشذا، لإرتاحت قلوبنا وهدأت مخاوفنا، ولبتسم الموتى لنا تحت التراب، وقالوا لا تخافوا، الأمر على ما يرام..

لم يفكر يوما ان يطور علاقته بوالده خارج إطارها الأبوي، كم من الأسئلة كانت تدور في رأسه، لكن لم يجرؤ أن يسأله.. فكر ان يكتبها في رسالة، لكن مع فوات الفرص لم تعد ذات اهمية.

في مرحلة مبكرة من حياته لم يكن يتصور ان بإمكان الأب أن يهرب الى الموت؛ من مسؤوليته كأب، حين يكون الأبناء بحاجة اليه.

كانت ثمة خيوط مائية تسللت من خشب التابوت، تذوب من الثلج الذي يغطي الجثمان، نزلت وإنسابت على زجاج نافذة السيارة التي بجانبه، تلوت على سطحها برهة، لكن الريح سرعان ما سحقتها، فتبعجت وفقدت شكلها الأفعواني، قطعت عليه مشقة الإستمرار في إقتناص الذكريات، واثارت في نفسه حكايات سمعها من امه عن الأطفال الذين يموتون صغارا، يستقبلون أمهاتهم بكؤوس من المياه المبردة؛ يوم الحشر الكبير.

الثلج بدأ يذوب وأخشى ان ... قاطعه السائق مطمئنا.

لا تخف، سنصل قريبا للمغتسل، ولن نحتاج للثلج، فهناك يجهزونه بكل ما يحتاجه قبل الدفن.

مرة أخرى إقتسما الصمت، وعادا ينسحبان لعالميهما الداخليين، حاول الشاب ان يستعيد ذكرياته مع ابيه، وأن تكون في أروع صورها، ولكنه وجد انها ذات وجهين، أحدهما الأنسان والآخر الموت، وهو لا يستطيع ان يرى والده دون ان تكون الحرب جزءا من نسيج تلك الذكريات، لقد نحتت الحرب الوجه البارز والناتئ لشخصيته، تذكر قوله، لقد قدتني كصخرة صغيرة في جبل هائل من العذاب والقهر، وكان يقول ايضا، بالرغم من أنها لم تصبن حتى بخدش بسيط، لكنها مزقتني تمزيقا، فكيف إذاً تهشمت تلك الصخرة لمجرد سقطة تافهة..

كان يرى الإنسان مهزوما في والده، عندما يتعلق الأمر بالموت، ولكنه منتصرا ايضا في مواقف كثيرة، وبهذا طوى الماضي كورقة في كتاب، ولم يعد اليها مطلقا.

عاد يولد افكاره دونما رقيب يوقفه عند حده، ماذا ابقت لنا الحرب، بعد ان خلطت الأشياء بعضها ببعض، وصار من الصعب جدا ان تعثر على حقيقة لا غبار عليها، يتفق عليها الناس جميعا، صرخ في داخله يسأل ابيه، عندما تذكر قوله ان هذه الحرب مقدمة لكتاب الجحيم الذي لم نقرأه بعد.. أبي اتسمعني، أكنت مغفلا طوال سنواتها الثمان، ولم تفهم انك في النهاية بيدقا مقتولا في رقعة الشطرنج.. سمع رده.. لا لم اكن مغفلا كما تعتقد، بل كنت افهم اللعبة منذ بدايتها، أعرف ان الشاه لن يموت ما لم تمت كل البيادق.

كانت السيارة قد توقفت، وهو لا يزال غارقا في لجة افكاره.

ماذا حدث.

لا ادري.. إنحرفنا عن الطريق، ولا أعلم اين نحن.

توقفت السيارة على ارض لا أثر فيها للحياة، كمركبة فضائية حطت على كوكب مجهول، أو أنها نقطة في محيط دائرة كبيرة، غطت المكان بظلام كثيف، وأستجمعت أرواحها الشريرة لتحيط بهم. إنتظرا معجزة ما تنقذهما من خطورة المكان، تحفزا لأي شئ طارئ، فتسلحا بقضيبين حديدين، ولكن رغم انهما شعرا بالحماية داخل السيارة، الأ انها كانت سجنا جمد شجاعتمها في مواجهة الخطر، فجأة تخيلا مجموعة سيارات تقدمت نحوهم، أضاءت مصابيحها وسط الظلام.

أترى ما ارى

ساد صمت رهيب بدده عواء وحشي ، أعاد اليهما صوابهما، فإستعدا للمعركة الوشيكة، أندفعت الحيوانات الضارية نحو السيارة.

لو نبقى بالسيارة فلن تنال منا..

ولكنها ستثب على التابوت وتنهش الجثة.

خرج السائق وقف امام السيارة واستعد للقتال، وتسلق الشاب واستقر على سطحها فوق التابوت، وبدأت معركة شرسة، اختلط فيها العواء بصرخاتهم اليائسة، لم يستطع السائق مواصلة القتال، فأنسحب وإحتمى بداخل السيارة، نزل الشاب اسند ظهره الى مقدمتها، سمع صوت عيارات نارية، كلما اقترب الصوت أكثر، أفزعها فتراجعت وهربت أخيرا، عاد الشاب للسيارة، سأله السائق.

أرأيت كم كان شجاعا.
من .. لم أر أحدا.
الذي دافع عنك بشراسة.. كان يرتدي كفنا..

لم يقل الشاب شئيا للسائق، لكنه كان في تلك اللحظة راضيا عنه، لأنه لم ير والده عاريا كآدم في الجنة.

تساءل في سره.. أرآه حقا..

إبتسم ، ثم تساءل؛ أبإمكانه ان يرى الأبتسامة أيضا.. لا، لأنها لا تُرى في حلكة ليل كالحبر الأسود.

صالح البياتي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى