الخميس ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٢
بقلم رندة زريق صباغ

في عيدها الثمانين، تحضرني الذكريات

خالتي بكر جدتي فايزة وجدي خليل، تكبر أمي بحوالي ثماني سنوات، كانت لهما أخت ثالثة اسمها نوال عاشقة جريدة الاتحاد (سأكتب عن ذلك لاحقاّ) وعاشقة الرسم والفن.

ولدت ليلى 1/9/1942 وولد في نفس اليوم طارق فريد زريق ابن عمتها نايفة سليم زريق، بفارق بضع ساعات فقط. ارتبط اليوم الأول لدخول المدارس بعيد ميلاد خالتي التي إن نسيتا عيدها ذكرتنا به المدرسة. تجاوزت السادسة من العمر وقت مجزرة وتهجير عيلبون، لكنها لا تذكر الكثير من التفاصيل حيث غادر جدي واخوته وعائلاتهم الى لبنان قبل دخول الجيش الى القرية بأيام. في حين أنها لا تنسى أبدا العذاب، القهر والجوع كما البرد الذي عانت منه واخوتها الأطفال حين اضطرت أمها(جدتي فايزة) العودة الى لبنان على أقدامها ذهاباً واياباّ وهي حامل بجنين عاهدت نفسها إن ولدته بخير وسلامة وأن فرَج الله عليها وعادت لأطفالها ستطلق عليه اسم فرج. وهكذا كان فبعد معاناة الطريق والوقوع في الأسر بطريق العودة لأربعة أشهر لا يعلم بها الّا ربنا عادت الى أطفالها وولد الطفل في 5/3/1952 ليكون الفرج حاملاّ هذا الاسم بكل ما به من معان ومشاعر.

خلال هذه الفترة كانت ليلى التي لم تبلغ العاشرة بعد أماً طفلة لأخوتها الأطفال:

شوقي، نوال، سليم وكميليا، تستذكر أياماً يصعب وصفها تشبه حياة المخيمات رغم وجودهم في البيت الذي هو عبارة عن عقد قديم وبارد، تستذكر كيف غزا القمل شعور أخوتها ولا ماء وصابون لتحممهم ولا معين لها في هذه الأزمة، تستذكر كيف حاولت أن تقلّد أمها في تنظيف الرؤوس من هذه الحشرات المقيتة. طبعا طيلة هذه المدة لم يتناولوا وجبة ساخنة فهذه الطفلة لا تجيد الطهي هذا إن توفر العدس والبرغل أصلاّ.

تمتلىء ذاكرتي بكل ما هو جميل فيما يختص بأمي وخالتي اللتين كانتا ولا زلن أجمل بنات المنطقة على الاطلاق، اضافة للأخلاق الدمثة ، النفوس الطيبة وعيون استمدت لونها من البحر.

العريس الرفيق

تزوجت خالتي عام 1958 من الشاب الذي بكبرها بعشر سنوات فكتور رزق ابن قرية الرينة ويسكنون في الناصرة، كان نجاراً موهوباّ ثم افتتح له محل بيع موبيليا وأثاث في منطقة الخانوق على الشارع الرئيسي. روت جدّتي حادثة طريفة في فترة خطوبة ليلى -التي كانت تحمل الجمال كله وليس قسطاً منه، ذات بشرة ياسمينية اللون بخدود وردية، شفاه كرزية وعيون سماوية اللون-: في السادسة صباحاً قرع أحدهم على الباب، فتحت جدتي فإذ به أبو الأمين حما ليلى، اعتذر عن قدومه في ساعة المبكرة واستأذن قائلا: أريد أن أرى عروستنا حال استيقاظها من النوم. قال جدي خليل: ما هذا الطلب يا نسيبنا!!!! تعالي يا ليلى تعالي. أيقظتها جدتي من النوم فجاءت ليلى كنجمة تشع نوراً وجمالاّ.

قال أبو الأمين:- الآن أصدق أن جمالها طبيعي، سبحان الرب الذي خلقها على اجمل صورة، ضحك الجميع وعادت خالتي والأخوة للنوم.

يقال إن عائلة زريق أخذت هذا الاسم بسبب عيون معظم رجالها ونسائها الزرقاء بدرجات هذا اللون المتدرجة، أما أمي وأخوالي فكان نصيبهم مضاعفاً، فعائلة جدتي فايزة شحادة يمتلكون عيوناً بزرقة السماء والبحر أبًا عن جد.

كان فكتور رفيقاً ناشطاً في الحزب الشيوعي، وهذا أهم الأسباب التي جعلت جدي بوافق على تزويجه ابنته، فهذا المعيار هو الأساس لاتمام أي نسب بالنسبة لجدي خليل سليم زريق الذي كان واخوته فهيم، لطف، منير ومعين من أوائل شيوعيي البلاد وأول من أدخل الشيوعية الى عيلبون والمنطقة بعد العودة طبعاً. دفع جدي وعائلته ثمناً باهظاّ جراء ذلك على يد الظلاميين التعسفيين، جريمة حرق بشعة نكراء مدبرة هدفها التخلص من لطف ليروح ضحيتها الاخ الأصغر سهيل 14 عاماً الذي نام في فراش لطف تلك الليلة المشئومة التي تعتبر نكبة ثانية لآل زريق في عيلبون والمهجر خاصة انها بفعل وتدبير أبناء البلد الواحد.(كتبت عنها في مادة سابقة).

بداية المشوار

في البداية استأجرا بيتاً صغيراً على قد الحال في حارة الأورفنج عند عائلة لبّس النصراوية العريقة( عائلة السيدة نائلة عزام لبَس) التي لا تزال تربطنا بهم أواصر الصداقة وعلاقات الاحترام والود المتبادل حتى اليوم، تجدر الاشارة الى أنُ الناصرة حافظت على أغلبية مسيحية من السكان حتى اواسط الستينات من القرن الماضي. من المعروف ان عدد سكان الناصره تضاعف بعد نكبة فلسطين اذ سكن فيها الكثيرون من مهجري القرى المجاوره اهمهم سكان صفوريه ومعلول والمجيدل.

حارة الصفافرة:-

عام 1973 اشترى بيتا في مركز حارة الصفافرة الذي اطلق عليها هذا الاسم نسبة لمهجري قرية صفورية الذين لجأوا لهذه المنطقة من الناصرة لقربها من قريتهم، صفورية كانت من أكبر قرى الجليل وكل سكانها من المسلمين.

كنا ننزل من باص عيلبون في الخانوق ونسير عدة كيلومترات حتى نصل لبيت خالتي تنتظرنا بابتسامة ووجبة غذاء عادة ما تكون القرع والباذنجان المحشي، كان عمي فكتور يقطع حبات المحشي بالعرض ويغمرها بمرقة البندورة، كطفلة استغربت كيف لا يفتحها بالطول كما نفعل نحن، فالطفل يعتقد أن عادات عائلته هي مطلقة للجميع، كان عمي فكتور يجلس في كرسيه على الرأس الداخلي لطاولة المطبخ أمام البراد والغاز قريبا من خزانة المكابيس التي امتازت خالتي بتحضيرها خاصة الفلفل الأخضر الحلو الكبير المحشو بكل أنواع الخضار المقطعة قطعاّ صغيرة، ما أن تفتح الحبة حتى ترى أجمل وردة مكونة من خضار ذات نكهة لذيذة جداً. الويل لمن يجلس على كرسي عمي فكتور فالاخير لا يجامل بل يأمره بالقيام حتى لو كان ضيفاً لا يعرف هذا النهج، كان رجلاً مرحاً محباً للحياة، المرح والغناء، خفيف الظل يدمج الجد بالمزاح لتلطيف الأجواء. اعتبرني ابنتاً له وتمنى لو رُ زق وخالتي بابنة مع أولادهم الأربعة: جرير، عزمي، عماد وسموأل، لم أسأل لماذا اختار اسمين لشاعرين لولديه البكر وآخر العنقود لكن طالما تساءلت عن ذلك. أذكر تفاصيل بيتهم بالتفصيل ففوق الحمام الكبير سدّة/ عليَة كبيرة مدخلها من المطبخ، لها باب خشبي ومن الداخل رفوف خشبية مثبتة بالحديد وضعت عليها مونة البيت من معلبات، زيت، وبعض الامور الموسمية، كانت خالتي تستعين بي أساعدها بترتيب الأغراض حيث يتعذر عليها صعود السلم والدخول من خلال الباب والسقف المنخفض وكنت أنا أحب هذه المهمة كثيراً، استمتع بترتيب المعلبات حسب النوع والحجم، كانت هذه السدًة عبارة عن دكان صغير تحوي كل المستلزمات.

صديقات جدد:

كعادتي منذ الطفولة فأنا أبني الصداقات بشكل جيد وسرعان ما أصبحت شادية، سامية، نعامة من صديقاتي العزيزات جداً، بنات جارات خالتي يصغرنني بعام واحد، كنت أذهب الى بيوتهن لنلعب معاً ويأتين هن أيضاّ لزيارتي في بيت خالتي ام جرير التي على ما أطن لم تعرفن اسمها الشخصي، فمن العار حسب ثقافتهن أن بعرف الناس اسم المرأة وينادونها به، كانت هذه المرة الأولى التي اسمع فيها شيئاً كهذا، وهكذا بدأت اتعرف عن كثب على نهج حياة العائلات المسلمة وأفهم التشابه والاختلاف فيما بيننا ليكون ذلك لبنة في بناء شخصيتي، معظم سكان حارة الصفافرة من المسلمين، أطلق عليها هذا الاسم لأنهم لجأوا الى الناصرة من صفورية 1948

لكل منهم قصة موجعة وحكاية قاسية كتبها التاريخ بدماء الفلسطينيين، وهكذا بدأت تتقاطع المعلومات لدي بجيل مبكرة فأربط مجزرة عيلبون وطرد سكانها لمثيلتها صفورية أكبر قرى الجليل ذات الاراضي الزراعية الخصبة التي دخلها الجيش في تموز 1948 وطرد من تبقى فيها ، عاد بعض من أهلها في ايلول لكن الجيش طردهم مرة أخرى فلجأوا لقرية عيلوط والناصرة وغيرها، كانون ثاني1949 طرد الجيش آخر 14 عادوا اليها متسللين. وفي شباط أقيمت مستوطنة تسيبوري على أراضي صفورية.

نوادي الناصرة ومؤسساتها المسيحية

لبيت خالتي بلكونة طويلة من الجهة الشمالية تطل على جبال ومناظر جميلة وعلى ما أذكر قالوا اننا نرى سفح جبل الشيخ من هنا، لها مخرج من الصالون ومخرج اخر من غرفة نوم الأولاد، كل ليلة كنا نجلس هناك نتبادل اطراف الحديث نأكل التسالي والفواكه والبوظة مع خالتي وزوجها وأحياناً ينضم لنا الأولاد إن كان لديهم متسع من الوقت بعد الدراسة ودورات الرياضة في نادي الروم الأرثوذكسي

وهو من أعرق نوادي الناصرة والبلدات العربية، احدى المؤسسات التابعة لكنيسة الروم الارثوذكس، تأسس عام 1969 بهدف تشجيع التربية الاجتماعية والرياضة والروح الانسانية من خلال دورات وفرق كرة القدم، كرة السلة، الكارتيه، تربية بدنية للطفولة المبكرة وغيرها، كان النادي مفتوحاّ لسكان الناصرة بكافة طوائفها وشرائحها -كعادة كل المؤسسات التربوية والثقافية المسيحية في كل مكان- بدء من جيل ثلاث سنوات. تجدر الاشارة الى أن نادي الروم رعى وخرّج الكثير من المواهب الشبابية والنسائية ووصل بهم ومعهم الى مراتب عالية وجوائز عينية مهمة.

أذكر أن فرع كرة السلَة كان الأبرز من صمن فعاليات نادي الروم وقد أقام النادي مدرسة كرة السلة التحق بها العشرات من أبناء وبنات الناصرة وعدد كبير من الفرق النصراوية التي انضمت للدوري العام لكرة السلة. أولاد خالتي عزمي وعماد كانا من المتميزين في كرة السلة وشاركوا في العديد من المباريات، أذكر أن سموأل كان يفضل كرة القدم ولعبة البنانير مع أولاد الحارة.

سمح لي المدربون بالمشاركة كضيفة بتدريبات فريق البنات خاصة أنني طويلة القامة أجيد ادخال السلال، لكن لم انضم رسمياً للفريق لأنني لست من سكان الناصرة وازورها فقط في الأعياد والعطل المدرسية. ولا أنسى نادي جمعية الشبان المسيحية YMCA وهو الأول لدورات ومسابقات التنس الأرضي كما مسابقات لعبة الشطرنج التي ضمت العديد من الصغار والكبار، وحين تذكر YMCA فهذا بعني أحد أوائل وأرقى مطاعم الناصرة الذي لا زال محافظاً على اسمه واكلاته الطيبة، كانت هناك قاعة أفراح جميلة ومميزة تابعة لهذا الصرح الجميل تميزت بجلستها المريحة وخدمتها الممتازة، أذكر على سبيل المثال لا الحصر أن سهرة خالي سليم كانت هناك عام 1969, أُعتُبِرَت سهرة عرس في قاعة وليس في البيت آنذاك من حصة ميسوري الحال رغم أن المأكولات من سلطات، كبة مقليّة، كباب ولحوم كانت تُحضر في البيت ويتم جلبها مع الفواكه والحلويات كما المرطبات ًالمشروبات الروحيّة، كذلك فإن عمي الأصغر رياض -الذي ولد في لبنان بعد أيام من مجزرة عيلبون والتهجير- كانت مراسيم اكليل زواجه عام 1979 في باحة YMCA والسهرة في قاعتها. رغم أن العائلة تعيش في عيلبون الّا أن السهرة في الناصرة، كان ذاك تتويج لفرحة أبي واعمامي بمسيرة تربيته والاعتناء به والوقوف لجانبه حتى تخرجه طبيباً من جامعة تشيكوسلوفاكيا كرفيق فاعل في الحزب الشيوعي. حين ولد سالماً معافىً أوائل تشرين الثاني 1948 وبقاء جدتي سروة على قيد الحياة والأمل بعد معاناة طريق الهجرة ومقتل والدهم ، قام عمي الكبير الياس 19 عاماّ برفع أخيه المولود الى الأعلى ناظراً الى السماء ليتعهد أمام الجميع بأن بعلمه الطب اذا منَ الله عليهم بالعودة الى عيلبون. تحقَق الحلم والوعد ليكون عمي رياض ابن الشهيد نعيم غنطوس زريق أول طبيب في عيلبون ومن الأوائل في المنطقة.
المخيمات الصيفية

اشتهرت الناصرة بمخيماتها الصيفية على أنواعها وكان يسمح لي بالاشتراك كضيفة مع اولاد خالتي في مخيمات نادي الروم التي تعرفت من خلالها على صديقات كثيرات ومجالات رياضية وفنية ام اعرفها من قبل، هذا اضافة لحفلات فترة الميلاد ورأس السنة في الواي وهو ما لم اشهد له مثيلاّ في عيلبون.

أحد الشعانين

زار معطم مسيحيو القرى المجاورة وغير المجاورة مدينة السيد المسيح بالعشرات بل المئات للمشاركة بمسيرة أحد الشعانين المهيبة والتي تقطع شارع بولص السادس كله حتى تصل كنيسة البشارة للروم الارثوذكس قرب عين العذراء مركز المدينة، يتقدم المسيرة رجال الدين والكهنة الموقرون بمختلف رتبهم الكنسية، كما شاركت في هذه المسيرات العديد من فرق الكشافة من الناصرة وخارجها من كافة الكنائس وغيرها ليكون ذلك حدثاً استثنائيا المسيحيين خاصة فهو اليوم الذي دخل به السيد المسيح عليه السلام لاورشليم إذ قال:-" دعوا الاطفال يأتون الي" لذلك ترى الأطفال بالمئات في هذا الاحتفال يرتدون ثياب الملائكة البيضاء يشاركون مع ذويهم فرحين مسرورين، وهنا استذكر فلافل الجبالي وحلويات مساد التي كان لزاماّ أن نشتري منها في ذلك اليوم حتى ونحن مدعوين على الغذاء عند دار خالتي ليلى أو عن دار عمي نمر (أبو نزار) الذي أشترى أرضاً وبنى بيتاً جميلاً في حي النمساوي في سنوات السبعين.

العمل التطوعي

لا يمكن أن أتحدث عن الناصرة دون ذكر (مخيمات العمل التطوعي) العظيمة جداً والتي اقيمت صيف كل عام بمشاركة

الالاف من أبناء الكادحين ورفاق الشبيبة الشيوعية من البلاد كافة والتي استضافت المتطوعين من الضفة، كنت أنا عضواً فعالاّ في الحزب وكافة نشاطاته خاصة المخيم التطوعي الدي لم اتغيب عنه عاماّ واحداً والدي أثرى تجربتي الانسانية الأممية حتى المنتهى وكنت أتقاسم أيام المبيت بين بيت عمي نمر وخالتي ليلى ،وزاد حبي وانتمائي الحزب الشيوعي خلال هذه المخيمات ونشاطاتها، الطاقات الشبابية التي بنت الأسوار والجدران كما زينتها بالرسومات، تنظيف الشوارع وتعبيدها، أعمال ترميم وحفر قنوات للمياه، صب الساحات وغيرها من الأعمال المهمة، ولا أنسى الطاقات النسائية التي حضرت الفطور ووجبات الغذاء لالاف المتطوعين بكل المحبة. أما سهرات ليالي المخيم المنظمة بأجمل ما يكون التي تحييها الفرق العربية الفلسطينية والأصوات الشابة التي شقت طريقها في المخيم التطوعي. كل ذلك وأكثر جعلني أكيدة أن الحزب هو من سيحقق لي حلمي بالشهادة الجامعية التي لن يقدر أبي على مصاريفها بعد أن أنهكته المسئوليات العائلية التي أعطاها الأولوية على حساب بيته وأسرته الصغيرة.

إلا أن حدثاّ معيناّ في قريتنا غيّر مجرى الرياح التي جرت ضد ما تشتهي سفينتي لاخسر منحة تعليمية في الاتحاد السوفييتي كانت هي حلمي الذي بسذاجتي لم أشك يوماً بعدم تحقيقه.

الخياطة والحياكة

في حين أجاد ت امي كميليا تصميم وخياطة الثياب، تعلمت خالتي ليلى حياكة الصوف على الماكنة، كان لي النصيب الأكبر من الفساتين والمعاطف الشتوية ، وكم تفاجأت بوجود خيطان صيفية الخامة لأحظى من حياكة خالتي أيضا بشتى أنواع الثياب كما حظيت أختي وشاح واخوتي فراس وسراج وطبعاّ أمي، وحتى أبي كان له نصيب من جراسي الصوف الشتوية الدافئة. ونذكر جميعا جمال وشياكة ما كانت تحيكه خالتي على هذه الماكنة، فقد تميز أولادها خاصة في الشتاء بكتزاتهم وبلوزاتهم الأنيقة متعددة الألوان والموديلات.
وهنا استذكر هالتي نوال التي أبدعت في التطريز وشغل الصنارة من شراشف للتخت، لطاولة السفرة والصغيرة اضافة للفساتين والشالات التي حاكتها بيديها طويلتي الأظافر حيث اعتنت دوماً بهم وتفننت بألوان الطلاء والمناكير الذي أحبت أن تدلًل نفسها من خلاله.

رايحين مشوار

حبن اذكر عمي فكتور تخطر ببالي سيارته التندر الفولس فابكن التي ينقل بها بضاعة الزبائن من الموبيليا الى بيوتهم. كان يصطحبني وخالتي معه نتعرف على بلدات لم نرها من قبل، ونبني صداقات جديدة مع أناس طيبين، طالما اصطحبنا الى محلات تجارية في منطقة راسكو مجمع القادمين الروس الجدد في الناصرة العليا المدينة التي أقيمت عام 1956 بقرار من رئيس الحكومة دافيد بن جوريون بهدف ابتلاع مدينة الناصرة التضييق عليها وجعلها تابعة للمدينة اليهودية حديثة العهد.

لا أنسى سهول ومزارع صفورية المهجرة التي كنا نذهب اليها للتنزه ولشراء أجود الخضراوات، لا تزال طعمة ملوخية صفورية في فمي وأظنها أطيب ملوخية على وحه الأرض، أحببتها جداً من يدي خالتي قبل اضافة اللحم اليها أي ملوخية ورق محيوسة مع الكثير من الثوم شريطة أن تؤكل مغمًسة بالخبز العربي ومعها الباذنجان البلدي المكبوس.

طالما حملنا هذا التندر الى التنزه أيام الاحاد الى بحيرة طبريا التي يعشقها النصراويون، لكنني لا اتذكر كيف اتسعت هذه السيارة لعائلتين ، كان دار خالتي يمرون علينا في عيلبون ليصطحبونا معهم في سيارتهم الى طبريا ويعدوننا طبعاً آخر النهار، فأبي لم يتمكن من شواء سيارة لضيق الحال رغم أنه من أوائل شباب عيلبون الذين استصدروا رخصة سياقة.

سقوط الناصرة

سمعت لاول مرة تفاصيل سقوط الناصرة على لسان عمي فكتور الدي كان يافعاً عام النكبة، تم احتلال الناصرة 13/7/1948 حيث استغل الجيش الاسرائيلي تورط جيش الانقاذ في معركة السجرة قرب مفرق مسكنة (تسومت جولاني). سأكتب عن ذلك لاحقاً بالتفصيل.

المصالحة

كيف أنسى أن عمي فكتور وخالتي ليلى هما من اهتما بالفعل لا بالقول للمصالحة بين أمي ودار عمها معين جيراننا اللزم، وذلك بعد قطيعة لا ناقة لنا فيها ولا جمل، قطيعة بسبب الانتخابات للمجلس المحلي التي ترشح فيها عمي د. رياض زريق منافساً لمرشح الجبهة بعد خلاف بينه وبين أدارة الحزب الشيوعي، وقد خسر عمي الجولة بفارق أصوات معدودات على أصابع أبناء وبنات عمه اللزم.

كانت أمي أكثر المتضررات من هذا الموضوع الذي سبب انشقاقاً عائلياً جراء الانتخابات، وقعت أمي العظيمة بين المطرقة والسندان:- أهلها وأخوتها (يعيشون خارج القرية)، أعمامها وأولاد عماتها وكل أقارب جدي كلهم مع الحزب والجبهة دون أي نقاش، فما دفعوه عام 1952 يمنعهم من التفكير خارج الصندوق بتاتاّ فوقفوا ضد ابن عمهم… زوجها/ أبي أعمامي والمقربين يدعمون أخاهم وابنهم في قضيته وموقفه الحقيقي. كانت النتيجة مضمونة وفوز د. رياض محققاً لولا الاعتماد على النوايا الحسنة ولولا تعاليم وقوانين -نجحت بتحويل الدم الى ماء- غرّرت بأقرب المقربين له ولزوجته لصالح الانتماء الحزبي. وهكذا منعت أمي بشكل تعسفي من كل علاقة مع أقاربها على ذنب لم ترتكبه، كعادتها طبعاً كانت مثال الزوجة التي تحترم زوجها واخوته وتعاملهم كأخوتها بل أكثر، رضخت للظرف وبقيت عظيمة مرفوعة الرأس في عيلبون والناصرة وغيرها.أعاد عمي فكتور مياه أمي وأعمامها بعد قطيعة دامت أكثر من سنتين وعادت العلاقات فالزيارات تدريجياً.

ألف رحمة ونور لروحك عمي فكتور رزق أبو جرير،،،،

ولك طولة العمر خالتي ليلى الغالية التي لم ولن انسى فضلك علينا وطبعا كثيرة هي الأمور التي لا يجوز نشرها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى