الخميس ٩ حزيران (يونيو) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

في فضاءِ الفكْر- الحياةُ والفناءُ

الحياةُ مِنحةٌ إلهيَّةٌ وهبَها الخالقُ عزَّ وجلَّ جميعَ مخلوقاتِه، والموتُ والفناءُ قدرٌ محتومٌ تختتِمُ رحلةَ السَّفرِ بعدَ نهايةِ مسيرِ الحياةِ؛ لتنتهيَ المخلوقاتُ جميعُها إلى عالمِ الأبديّةِ الّذي تتوقُ إليهِ الأرواحُ بعدَ فناءِ الأجسادِ؛ لتَحْيا في نعيمِه الأرواحُ الإنسانيَّةِ العظيمةُ، ولتَشْقى في شطرِه الآخرِ منَ الجحيمِ تلكَ الأرواحُ الّتي حرمَها اللهُ خصالَ الإنسانيّةِ، فعاثَتْ بشرورِها في الحياةِ، ولوَّثَت نقاءَها بالفسادِ.

لكلِّ مخلوقٍ في الحياةِ رسالةٌ أو ملحمةٌ من أناشيدِ عبقريَّةِ تجديدِ الحياةِ، وأجملُ رسالةٍ فيها أنْ يعيشَ كلُّ مخلوقٍ أيّامَها بكلِّ معانيْها وألوانِها وأحاسيسِها بسعادتِها وشقائِها، بفرحِها وأسَاها، بملذَّاتِها وآلامِها، بآمالِها ويأسِها، بشدَّتِها وفرَجِها، دون إيذاءِ غيرِه منَ الكائناتِ.. وأنبلُ رسائلِ الحياةِ هي تلكَ الرّسائلُ الّتي يحملُها عظماءُ الإنسانيَّةِ الّذين يبدِّدُون ظلماتِ الحياةِ بأنوارِ أفكارِهم، ويجدِّدُون طهرَها كلَّما دنَّسَ الأشرارُ نقاءَها بأقذارِ أفعالِهم وطغيانِ شهواتِهم وغلُوِّ استئثارِهم.

البشرُ - في فلسفَتي – أصنافٌ متنوِّعةٌ، ولكلِّ صنفٍ مكانةٌ وأثرٌ في الحياةِ:

فثمَّةَ بشرٌ يعيشُون الحياةَ بجهدِهم وعرقِ جبينِهم، ويؤدُّون رسالتَهم فيها بمَا يملكُون ويحقِّقُون سعادتَهم فيها بما يؤمنُون به من قناعاتٍ، فهُم يصنعُون السَّعادةَ ببناءِ الحياةِ، دون أن يهدِمُوا بيتاً من بيوتِ الآخرينَ، ودونَ أن تجنَي أيديْهِم جنايةً تُفني سعادةَ وحياةَ الآخرينَ.

وثمَّةَ بشرٌ لا تروقُ لهم الحياةُ إلّا بشقاءِ الآخرينَ، ولا يلذُّون بطعمِها إلّا بطغيانِ شهواتِهم واستبدادِ مطامعِهم بإيذاءِ الآخرينَ، ولا يهنَؤُون هُنيهةً من هُنيهاتِها إلّا بفناءِ حياةِ الكائناتِ من حولِهم، ولا تشرقُ الشَّمسُ بأنوارِها أمامَ أبصارِهم إلّا بإسدالِ دياجيرِ المآسِي على نفوسِ المحيطينَ بهم، ولا يشعرُون بمجدِ القوَّةِ والهيمنةِ والبقاءِ إلّا بفناءِ الآخرينَ والقضاءِ على كلِّ سُويعةٍ يُمكنُ أن تزدهرَ فيها أحلامُ البائسينَ، ويمكنُ أن تتفتَّحَ فيها أزهارُ الطَّامحينَ.

وثمّةَ بشرٌ صنعُوا من جبروتِ شرورِهم أصنامَ آلهةٍ، لا يلذُّون بجمالِ الحياةِ إلّا باستعبادِ السّوادِ الأعظمِ من الرّعيّةِ يطوفُون حولَهم آناءَ اللّيلِ وأطرافَ النّهارِ، فلا مقامَ لألوهيَّتِهم إلّا بين مقابرِ الأحياءِ، ولا مجدَ لعظمتِهم إلّا بينَ قطيعٍ من المواشي تثغُو لصفيرِهم، وتخرسُ لنعيبِهم، وتجترُّ بنعيمِ فضلاتِهم.

وثمّةَ بشرٌ أفنَوا حياتَهم في سبيلِ تجديدِ الحياةِ لمن سواهُم، وأحرقُوا شموعَ أيّامِهم ليضيئُوا ما ادلهمَّ من ظلماتِ الحياةِ، وسخَّرُوا فكرَهم وخيالَهم للارتقاءِ بالحياةِ من عالمِ الحيوانِ إلى سماءِ الملائكةِ، فأبَوا إلّا أن تكونَ حياتُهم مدداً لتجديدِ أنفاسِ الحياةِ، وأبَوا إلّا أن تكونَ رسالتُهم من رسائلِ الأنبياءِ في بعثِ النّورِ في دياجيرِ الضّلالِ، وبثِّ أنوارِ الحرّيّةِ في زنازينِ القهرِ والظّلامِ، ومدِّ أفانينِ السّلامِ فوق أبواقِ الحربِ، وغرسِ إكسيرِ الحياةِ في جسدِها المعلولِ بسرطانِ المجرمينَ والطُّغاةِ والأثرياءِ.

وثمّةَ بشرٌ يبيعونَ أوطانَهم في سبيلِ خلودِ عروشِهم، فهم يستمدُّون بقاءَهم من فناءِ ضمائرِهم وضياعِ أوطانِهم بسلبِ ثرواتِه بشراً وتاريخاً وفكراً وحضارةً!

وثمّةَ بشرٌ يتاجرُون بحياةِ الآخرينَ؛ ليجنُوا من تجارتِهم حفنةً من المالِ والجاهِ تضمنُ بقاءَهم أسياداً على أشلاءِ الضُّعفاءِ وأنفاسِ المستَضعفِين، وهم في الحقيقةِ إنّما يدفنُون أنفسُهم في الرّمالِ دفنَ النّعامةِ رأسَها خشيةَ خطرٍ نازلٍ أو عدوٍّ محيقٍ.

وثمّةَ بشرٌ حرصُوا على الموتِ في سبيلِ مجدِ إرادتِهم وعزّةِ فكرِهم وعقيدتِهم، فوهبَتهم الحياةُ سننَ البقاءِ والخلودِ، وهذا ما عبّر عنهُ الخليفةُ الرّاشدُ أبو بكرٍ الصّدّيق في قولِه: "احرصْ على الموتِ تُوهَبْ لكَ الحياةُ".
وثمّةَ بشرٌ وهبَهم اللهُ القدرةَ على بعثِ الحياةِ وغرسِ بذورِ الخلودِ في أفكارِ ها ومعانيها وقيَمِها ومثُلِها بأبسطِ وأضعفِ أدواتِها، فكتبُوا لأنفسِهم وأفكارِهم مجدَ الخلودِ في صفحاتِ التّاريخِ وذاكرةِ الأجيالِ والأممِ، كمَا عبّر عن ذلكَ الأديبُ العربيُّ الكبيرُ مصطفى صادقِ الرّافعيّ في قولِه: "إنّ في القلمِ لشيئاً إلهيَّاً يدفعُ الموتَ والنّسيانَ عنِ المعاني الّتي تُكْتَبُ إلى أجلٍ طويلٍ، كأنّ القلمَ ينتزعُها من الإنسانِ الّذي هو قطعةٌ من الفناءِ ليُبعدَ الفناءَ عنها".

العاقلُ يدركُ أنّ الحياةَ رحلةٌ قصيرةٌ وكلُّ مخلوقٍ فيها ما هُو إلّا غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ، وليس من خلودٍ إلّا في عالمِ الأبديّةِ، كما عبّرَ عن ذلكَ نبيُّنا الكريمُ محمّدٌ (ﷺ) بقولِه: "كنْ في الدُّنيا كأنّكَ غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ".
إنّ العاقلَ يدركُ أنّ الحياةَ إلى فناءٍ، وأنّ كلَّ خلقٍ إلى زوالٍ، والكلُّ من التّرابِ، ومصيرُ البشرِ إلى التّرابِ بغنيّهم وفقيرِهم وحكّامِهم ومحكومِيهم، فمَا الدُّنيا إلّا كبيتٍ أوْهى من بيتِ العنكبوتِ، ولا يملكُ كلُّ مخلوقٍ من ثرواتِها وخيراتِها غيرَ قوتِه، على نحوِ ما نرى في قولِ الإمامِ عليّ بن أبي طالبٍ:

إِنَّما الدُنيـــا فَنــــــاءٌ
لَيسَ لِلدُّنيا ثُبـــــــــوتُ
إِنَّما الدُنيا كَبَيتٍ
نَسَجَتهُ العَنكَبـوتُ
وَلَقَد يَكفيكَ مِنها
أَيُّها الطالِبُ قـــــــــوتُ
وَلَعَمري عَن قَليلٍ
كُلُّ مَن فيها يَمــــوتُ

والعاقلُ المفكّرُ المتأمِّلُ في الوجودِ يدركُ أنّ الدُّنيا كالخيالِ، ويستيْقِنُ أنّ كلَّ شيءٍ فيها إلى زوالٍ حتميٍّ، فلا بقاءَ إلّا لخالقِ الكونِ والوجودِ عزَّ وجلّ، من ذلكَ قولُ ماميّةَ (من نفحِ الطّيبِ):

تأمّلْ في الوجـــــودِ بعــــــــينِ فكرٍ
ترَ الدُّنيــــا الدَّنيَّـــــــــــةَ كالخَيــــالِ
ومَن فيها جميعَاً سوفَ يَفْنى
ويبقَى وجهُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ

ويا عجباً من أناسٍ يلهثُون وراءَ كنوزِ الدُّنيا ويكدِّرُون صفوَ عيشِهم بالتَّعبِ والجشعِ، وكلٌّ منهم تكفِيهم لقمةُ العيشِ، وترويهِم نهلةُ ماءٍ، وكلٌّ منهم يسْعى لامتلاكِ الدُّنيا، ونشدانِ البقاءِ، وما الدُّنيا إلّا ظلٌّ متنقِّلٌ يتلاشَى رويداً رويداً، كمَا نرى في أبياتِ الطُّغرائيّ في لاميَّتِه:

أعلِّــــــــلُ النَّــــفسَ بالآمـــــالِ أرقــــــــبُها
ما أضيقَ العيشَ لولا فُسْحةُ الأملِ
لم أرتضِ العيشَ والأيّام مقبلةٌ
فكيفَ أرضى وقــــدْ ولّت على عجَلِ
يا وراداً سُــــــــــؤرَ عيشٍ كلُّهُ كــــــــــدَرٌ
أنفــــقْتَ صفـــــــوَكَ في أيّامِـــــــــــكَ الأُوَلِ
فيمَ اقتحامُكَ لجَّ البحـــــــرِ تركبُهُ
وأنتَ تكْفــــــــيكَ منهُ مصَّـــــةُ الوشـــــــلِ
ترجُـــــــــو البقــــــــــاءَ بدارٍ لا ثباتَ بها
فهـــــــــل سمِعْتَ بظــــــــــــلٍّ غــــــــــيرِ مُنتَــــــقِلِ

(السُّؤرُ، البقيّةُ .الوَشَلُ: الماءُ القليلُ يتحلَّبُ من جبلٍ أَو صخرةٍ ولا يتَّصلُ قَطرُه)

والمفكّرُ العاقلُ هو مَن يعلمُ أنّ الحياةَ بكلِّ ما لذَّ فيها وطابَ سوفَ يفْنى، وليسَ من رشادٍ للمرءِ إلّا في استقامتِه في طرقِ الهدايةِ، وإعدادِ عدَّةِ الرّحيلِ للقاءِ ربِّه؛ ولينظرْ كلُّ عاقلٍ في حكمةِ الدّهرِ وسنّةِ الكونِ، فكَم طوَى الرّدى من أممِ الأرضِ بجيوشِها ودولِها، والتّاريخُ حافلٌ بأمثلةٍ ثاقبةٍ على زوالِ كلِّ جبابرةِ الأرضِ الّذين سعَوا لامتلاكِ الدّنيا، فلم يملكُوا سوَى الرّحيلِ من أمثالِ نمرودَ وكنعانَ وقومِ عادٍ وفرعونَ وغيرِهم، وحتّى أصحابُ الفكرِ والنُّهى والعلمِ قدْ أفناهمُ الموتُ، ولم يبقَ لهم من ذكرٍ غيرُ أعمالِهم وآثارِهم الطّيّبةِ، فالكلُّ خضعَ لناموسِ الفناءِ، ولم يحملْ كلٌّ منهم سِوى أعمالِهم، وكلٌّ سيُجزى بفعلِه، إن خيراً فخيرٌ، وإن شرّاً فشرٌّ، وليس للمرءِ من قيمةٍ إلّا فيمَا قدَّمَه من خيرٍ للبشريّةِ، على نحوِ ما عبّر عنهُ ابنُ الورديّ في لاميَّتِه:

اعتـزلْ ذِكـرَ الأَغَـــــــــاني والغــــــــــــزَلْ
وقُلِ الفَصْـلَ وجانبْ مـَنْ هـَزَلْ
حَـارتِ الأَفْكارُ فـي حِكمــــــــــــةِ مَنْ
قَـــــــــــــدْ هَــــــــــدانـا سبْلَنـا عـــــــزَّ وجَـلْ
كُتِـبَ المـوتُ على الخَلــــقِ فكمْ
فَـلَّ مِـن جَيـشٍ وأَفـــــنَى مِـنْ دُوَلْ
أيـنَ نمـُــــــــــــرودُ وَكَنعـــــــــــانُ ومَــــــــــنْ
مـَلَــــــــــكَ الأرْضَ وَوَلـىَّ وعَـــــــــــــــــــــــــــــزَلْ
أَينَ عـــــــــادٌ أَيـنَ فِـرعَـــــــــــــونُ وَمَنْ
رَفـــعَ الأَهَــــــــــرامَ مِـنْ يسمعْ يَخَـلْ
أَيـنَ مَـنْ سَـادوا وشَادوا وبَنَــوا
هَلَكَ الكُـلُّ و لـَــــــــم تُغْـــــــنِ القُلَـلْ
أَيـنَ أرْبـابُ الحِجَى أَهْــــلُ النُّهى
أَيـنَ أهْـلُ العلـمِ والقــــــومُ الأوَلْ
سيُعـــــيــدُ اللّـــــــــــــــــــــهُ كُـلّاً مِنهـــــــــــــــــــــــــمُ
وَسيَجـزِي فَاعِــــــــلاً مـا قــــدْ فَعَـلْ
قِيمــــــــــةُ الإِنْسـانِ مَـا يُحســــــــــــــنُهُ
أكثَّـرَ الإنِســـــــــــــــانُ منــــــــــهُ أو أقَــــــــلْ

مهْما سعَى الآدميُّ إلى البقاءِ، فمصيرُه إلى الفناءِ، وكلُّ ما بناهُ وأعلَى صرحَهُ سيتبعُهُ إلى الزّوالِ بعدَه، فكَم من الآثارِ دُفنَت تحتَ الثّرى، وكمْ من الأوابدِ أهلكَتها رياحُ الزّمنِ العاتيةُ، وكمْ من حصونٍ وقلاعٍ أكلَت معالمَها السّنون، فلمْ تبقَ إلّا الحجارةُ منثورةً كأجداثِ الرّاحلينَ! فها هيَ أبياتُ المتنبّي تصوّرُ الحقيقةَ دونَ رتوشٍ:

أَينَ الَّذي الهَرَمانِ مِن بُنيانِهِ
ما قَومُهُ ما يَومُهُ ما المَصرَعُ
تَتَخَلَّفُ الآثــــــــــارُ عَن أَصحابِها
حيناً وَيُدرِكُها الفَنـــــــاءُ فَتَتبَعُ

(الهرمانِ بناءانِ في مصر ارتفاعُ كلّ واحدٍ منهما في السّماء أربعمائةُ ذراعٍ في عرضِ مثلها لا يُعلم من بناهُما، وكيف بُنيا، قيل: بناهُما عمرو بن المشلّلِ، ويقالُ إنّ أحدَهما قبرُ شدّادَ بن عادٍ، والثّاني قبرُ إرمٍ ذاتِ العِماد).
فيا عجباً من هؤلاءِ الجبابرةِ المتكبّرينَ الّذين يسعَون لامتلاكِ الدّنيا بشهواتِها وملذَّاتِها ومتاعِها وهي إلى فناءٍ، ويُنكرُون دارَ البقاءِ والخلودِ في عالمِ النّعيمِ، وينسَون أنّهم كانُوا في نشأتِهم الأولى نطفةً، ويتناسَون أنّهم سيُمسُون جيفةً يومَ الفناءِ والرّحيلِ، وهذا ما عبّر عنهُ الخليفةُ العادلُ عمرُ بنُ الخطّابِ بقولِه: "عجِبتُ لمن أنكرَ النّشأةَ الأخْرى وهو يَرى النّشأةَ الأولى.. عجِبتُ لعامرِ دارِ الفناءِ وتاركِ دارِ البقاءِ.. عجِبتُ للمتكبّرِ الّذي كان بالأمسِ نطفةً ويكونُ غداً جيفةً".

وكلُّ طاغيةٍ مهْما طالَ ظلُّه، فلا بدَّ من أنْ يطويَ اللهُ طغيانَه، فيزولُ عصرُ الظّلمِ والقهرِ والاستبدادِ، فها هُم يتساقطُون وتهوي عروشُهم، واللهُ هو الواحدُ القاهرُ البَاقي، على نحوِ ما عبّر عنهُ الشّاعرُ الكبيرُ فاروقُ جويدة:

اللهُ يا اللهُ يا اللهُ.. أنتَ الواحدُ الباقي
وعصْرُ القــــهـــــــــرِ يطــــــــــــــويهِ الفــــــــــــــــناءُ
كلُّ الطُّغـــــــــــــاةِ، وإن تَمَـــــــــــــــادَى ظُلمُهُم
يتساقطُون، وأنتَ تفعلُ ما تشاءُ

ولذلكَ فإنّ من واجبِ الإنسانِ أن يجودَ بما عندَه ممّا منحَتْه الحياةُ؛ لأنّ العطاءَ يبعثُ في الحياةِ حياةً، ولأنَّ الامتناعَ عن العطاءِ فناءٌ، كمَا نرى ذلكَ في قولِ جبرانَ خليل جبرانَ: "نحنُ نُعطي لنَحْيا، لأنّ الامتناعَ عن العطاءِ سبيلُ الفناءِ". وقولِه: إنْ تعطِ ممّا تَملِكُ فإنّك تُعطي القليلَ، أمّا إن تَهِبَ من نفسِكَ فهَذا عينُ العطاءِ". وقولِه: "لا قيمةَ لعطائِك إنْ لم يكُنْ جزءاً من ذاتِكَ".

ويجبُ عليْنا - نحنَ البشرَ - أن نسعَى إلى الخيرِ والحبِّ والسّلامِ؛ لأنّها أقانيمُ البقاءِ والخلودِ، وكلُّ سعيٍ إلى الشّرِّ والبغضِ والحربِ هو نذيرُ الخرابِ والهلاكِ والفناءِ، وها هيَ أقوالُ الفلاسفةِ والمفكّرينَ والعارفينَ تَفيضُ حكماً خالدةً للغافلينَ، كمَا في قولِ الشّاعرِ والفقيهِ الصُّوفيِّ جلالِ الدّينِ الرّوميّ: "إنّهم مشغُولُون بالدِّماءِ، بالفناءِ.. أمّا نحنُ فمشغولُون بالبقاءِ.. هم يدقُّون طبولَ الحربِ، نحنُ لا ندقُّ إلّا طبولَ الحبِّ".
وفي قولِ الزّعيمِ الأمريكيِّ والنّاشطِ السّياسيِّ الإنسانيِّ مارتن لوثَر كينْغ: "عليْنا أنْ نتعلّمَ العيشَ معاً كإخوةٍ، أو الفناءَ معاً كأغبياءَ".

وفي قولِ الفيلسوفِ والشّاعرِ والنّاقدِ الألمانيّ فريدريك نيتشه: "كلُّ شئٍ منذورٌ إلى الفناءِ، لذلكَ فكلُّ شئٍ لا يستحِقُّ غيرَ الفناءِ!".

وختاماً فإنَّ الحياةَ والفناءَ إحْدى ثنائيّاتِ الصّراعِ في الوجودِ، فمَن أسلمَ قيادَ مراكبِه للحياةِ ضلَّ وأسلمَتْه يدُ المنونِ إلى الفناءِ، ومَن أدركَ أنّ الحياةَ ليسَت إلّا رحلةً قصيرةً، فملأَها بالجِدِّ والعبادةِ والعملِ لخيرِه وخيرِ الآخرينَ، فقد وصلَ إلى دارِ النّعيمِ والخلودِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى