الأحد ١٧ نيسان (أبريل) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

في فضاءِ الفكْر العلمُ والجهلُ

قالُوا:

إذا رأيتَ العلماءَ على أبوابِ الملوكِ، فقُلْ: بئسَ الملوكُ و بئسَ العلماءُ، و إذا رأيتَ الملوكَ على أبوابِ العلماءِ، فقُلْ: نعمَ الملوكُ و نعمَ العلماءُ. عليّ بن أبي طالب

مَن قالَ أنا عالمٌ فهو جاهلٌ. عمر بن الخطّاب

مَن فتحَ مدرسةً أقفلَ سجناً. نابليون بو نابرت

لا يزالُ المرءُ عالماً ما دامَ في طلبِ العلمِ، فإذا ظنَّ أنّه قدْ علمَ فقد بدأَ جهلُه. ابنُ قتيبة

رأسُ مالِك علمُكَ، و عدوُّك جهلُكَ. مثل عربيّ

الجاهلُ يؤكّدُ، والعالمُ يشكُّ، والعاقلُ يتروّى. أرسطو

لا يمكنُ للمرءِ أن يحصلَ على المعرفةِ إلّا بعدَ أن يتعلّمَ كيف يفكّرُ. كونفوشيوس

ادّعاءُ المعرفةِ أشدُّ خطراً من الجهلِ. جورج برناردشو

العلمُ يرفعُ بيتاً لا عمادَ له
والجهلُ يهدمُ بيتَ العزِّ والشّرفِ. أحمد شوقي

وأقولُ:

العلمُ الّذي يستطيعُ تحريرَ العقلِ من أمراضِ الجهلِ، ولا يستطيعُ تحريرَ النّفسِ من طغيانِ شهواتِها القاتلةِ، ليس إلّا محراثاً بيدِ فلّاحٍ لا يعرفُ البذارَ الصّالحةَ لتربتِه؛ كي تُعطيَ خيراتِها بسخاءٍ.

العلمُ الّذي يُسخّرُ التّكنولوجيا لخدمةِ الإنسانِ، دون أن ينجحَ في تسخيرِ الإنسانِ لخدمةِ الإنسانيّةِ، علمٌ مادّيٌّ خاوٍ من أنوارِ الرّوحِ الإنسانيّةِ الخالدةِ.

العلمُ الّذي يسخّرُ التّكنولوجيا لقتلِ الإنسانِ ما هو إلّا جنايةٌ لإعادةِ الإنسانِ إلى سيرتِه الوحشيّةِ الطّاغيةِ.
العلمُ الّذي طارَ بعقلِ الإنسانِ من كوكبِه إلى عالمِ الفضاءِ، وتركَ روحَه تشقَى على الأرضِ ما هو إلّا تخديرٌ لمريضٍ، سرعانَ ما تعودُ العللُ لتقُضَّ مضاجعَه ريثَما يزولُ أثرُ التّخديرِ.

العلمُ الّذي يقتلُ البشريّةَ ويهدِّدُها بالزّوالِ، ليس إلّا جهلاً مركَّباً يصنعُ البلاهةَ والتّفاهةَ والأوبئةَ والكوارثَ.
العلمُ الّذي يصنعُ إمبراطوريّاتِ الطّغيانِ ما هو إلّا خنجرٌ مسمومٌ في خاصرةِ الحضارةِ الإنسانيّةِ.

العلمُ الّذي يلوّثُ الحضارةَ الإنسانيّةَ بآفاتِ التّمييزِ العنصريِّ والفقرِ والجريمةِ، ما هو إلّا قنبلةٌ موقوتةٌ ستنفجرُ حالمَا يصدأُ فيها مسمارُ الأمانِ.

العلمُ الّذي نجحَ في علاجِ عللِ الجسدِ ونسيَ أن يعالجَ أوبئةَ الرّوحِ، ما هو إلّا مصلٌ ستنتَهي مفاعيلُه حينَما يتوقّفُ القلبُ عن النّبضِ.

إذا صارَ العلمُ عقلَ الحضارةِ يوماً، فإنّ الأخلاقَ العظيمةَ هيَ روحُها الأبديّةُ.

إذا استطاعَ العلمُ أن يحوّلَ العالمَ إلى قريةٍ صغيرةٍ، فإنّ الأخلاقَ الحميدةَ ترفعُها إلى السّماءِ.

بعلومِ الأنبياءِ تتحضّرُ الأممُ، لا بجهلِ الأشرارِ الّذين يملِكُون كلَّ أسلحةِ الدّمارِ الشّاملِ.

لإنْ انتهَى عصرُ جهلِ القبليّاتِ الطّاغيةِ الّذي كان فيهِ شيءٌ من الأخلاقِ، فقد حلَّ محلَّهُ عصرُ الأممِ القبليّةِ خالياً من كلِّ شيمةٍ أخلاقيّةٍ، باتتْ تحكمُ العالمَ بقوّةِ المالِ أو السّلاحِ أو الدّهاء.

علمٌ بلا فضيلةٍ، سراجٌ بلا فتيلةٍ.
علمٌ بلا أخلاقٍ شجرةٌ بلا ثمرٍ.
علمٌ بلا روحٍ شجرةٌ بلا جذورٍ.
علمٌ بلا مشاعرَ، حياةٌ بلا روحٍ.
علمٌ بلا أدبٍ، كأسٌ بلا ماءٍ.
علمٌ بلا إدراكٍ، ريشةٌ في مهبِّ الرّيحِ.

أيُّها العلمُ..

حنانيكَ أيُّها النُّورُ الّذي بثّهُ اللهُ في الكونِ؛ ليرفعَ الإنسانَ إلى مجدِ الملائكةِ، ولم يبُثَّ الخالقُ أسرارَه؛ ليصنعَ منهُ جهلاً فوقَ جهلٍ، ولا أنْ يحوّلَ الإنسانَ من حملٍ وديعٍ جاهلٍ إلى شيطانٍ رجيمٍ يشوّهُ قيمَ الجمالِ، ويحطِّمُ تماثيلَ القيمِ، ويدمّرُ تعاليمَ الأنبياءِ؛ ليُحيلَ جنّةَ اللهِ على الأرضِ إلى جحيمٍ للفقراءِ والمستضعفينَ والأنقياءِ.
حنانيكَ أيُّها النُّورُ الّذي أرسلَه اللهُ رسائلَ هدايةٍ على ألسنةِ الأنبياءِ؛ لينقِذُوا البشريّةَ من جهلِها وضلالِها وطغيانِها وبؤسِها وشقائِها، ولم يبثَّ الخالقُ أنفاسَ الحياةِ في أشعّتِك؛ كي تُحرقَ البشريّةَ، وتُبيدَ معالمَ الإنسانيّةِ على أيدي ثلّةٍ من الأشرارِ عرفُوا مفاتيحَ القوّةِ والدّمارِ باختراعاتِكَ واكتشافاتِكَ، فحوّلُوا العالمَ إلى كوارثَ من الزّلازلِ والبراكينِ والأعاصيرِ أين من بشاعةِ تدميرِها ما تفعلُه قِوى الطّبيعةِ؟!

حنانيكَ أيُّها النُّورُ! لقد فضّلَ الخالقُ العقولَ النّيِّرةَ الّتي أيقظَتِ الأرواحَ المتمرّدةَ على عظمةِ الخالقِ، ومنحَها وسامَ الرِّفعةِ والمجدِ والسّؤددِ في الحياةِ الدّنيا والآخرةِ.. فما بالُكَ اليومَ أصبحْتَ أداةَ تخريبٍ وتدميرٍ وإبادةٍ وتجهيلٍ وتغطرسٍ وهيمنةٍ بأيدي ثلّةٍ لا تعرفُ من أخلاقِ الأممِ الغابرةِ الّتي أهلكَها اللهُ بذنوبِها قيدَ أنملةٍ؟!
حنانيكَ أيُّها النّورُ! إذا أصبحْتَ اليومَ قنبلةً نوويّةً تهدّدُ العالمَ بأسرِه، فدعْنا نهيمُ في عصورِ الجهلِ؛ لأنّها أجملُ وأرحمُ.. كانتِ القبيلةُ تنتقمُ وتثأرُ لشرفِها وكرامتِها، وكانتْ تنتهكُ حقوقَ الآخرينَ بحثاً عن الماءِ والكَلأ، لكنّها كانتْ تُراعي حرمةَ الجيرةِ وكرامةَ النّساءِ والأطفالِ والشّيوخِ، أمّا اليومَ فلا كرامةَ لكلِّ ما ذكرتُ عندَ هؤلاءِ المتجبّرينَ الّذين لا يقتلُون ردّاً لكرامةٍ مهدورةٍ ولا لشرفٍ مهتَّكٍ، وإنّما يقتلُون إشباعاً لنَهمِ القتلِ، وينتهِكُون كلَّ المحرّماتِ لنيلِ لذّةِ القتلِ والسُّكرِ بدماءِ الأبرياءِ، وكان السُّكرُ بالخمرِ عاراً، فصارتِ النَّشوةُ بامتصاصِ الدّماءِ والأموالِ والثّرواتِ شرفاً وعزّةً ومجداً لا يتوانَى فيها المجرمُون من المباهاةِ والعربدةِ على مسامعِ البشريّةِ وأبصارِها وآلامِها!

حنانيكَ أيُّها النُّورُ! إذا كان الجهلُ سلاماً وأمناً فمَرحَى لهُ!

إذا كان الجهلُ احتراماً لحقوقِ الآخرينَ وإحساساً بآلامِهم فطُوبَى لهُ!
إذا كان الجهلُ صوناً لحقوقِ الجارِ، وامتناعاً عن إيذاءِ الآخرينَ، فحبَّذا أنْ يمتلكَ عقولَنا وأفئدتَنا!
إذا كان الجهلُ عَفافاً وطُهراً وصوناً لشرفِ العذراءِ، فأكرِمْ بهِ!
إذا كان الجهلُ احتشاماً للمرأةِ؛ كي لا تكونَ سلعةً يعبثُ بها العابثونَ من شذّاذِ الأممِ، وكان التَّمدُّنُ الّذي صنعُوه باسمِكَ عُرياً وعهراً وسقوطاً أخلاقيّاً، فقدِّسْ بالجهلِ، وكفّرْ عن سيّئاتِك الّتي ألصقُوها بثِمارِك.

إذا كان الجهلُ صوناً لشرفِ العِرضِ وثأراً لهدرِه من العابثينَ بهِ، فأكبِرْ بهِ!
إذا كان الجهلُ فضيلةً من فضائلِ البسطاءِ والطَّيّبينَ، فهلِّلْ لهُ!
إذا كان الجهلُ احتراماً للكبيرِ وعطفاً على الصَّغيرِ، فأنبِلْ بهِ!

إذا كان الجهلُ رباطاً يجمعُ الأسرةَ في عشٍّ ملائكيٍّ لا تفرِّقُ بين عصافيرِه إلّا نوانبُ الدَّهرِ، فأسعِدْ بهِ!
إذا كان الجهلُ إيماناً برزقٍ قد يسوقُه الخالقُ لعبادِه دونَ وسائلِ الشّيطانِ الأكبرِ الّتي يسلكُها من يحتمُون بحِماكَ، فأنعِمْ وأكرِمْ بهِ من جهلٍ!

إذا كان الجهلُ تفانياً في تقديسِ الأبوينِ ونيلِ برّهِما وتجنُّبِ عقوقِهما، فعظِّمْ بهِ وقدّسْ بأخلاقِه!
إذا كان الجهلُ إماطةً للأذَى عنِ الطّريقِ وصوناً لحقوقِ الآخرينَ، فهلّلْ لهُ وأكبِرْ بهِ!
إذا كان الجهلُ إيماناً بالغيبِ، وتقديساً لإلهٍ أدركَهُ القلبُ ولم تُبصِرْه العينُ، فقدِّسْ به وأشعِلْ له بخورَ التّقديسِ!
إذا كان الجهلُ تمسُّكاً بأهدابِ رسالاتِ السَّماءِ، وركوعاً وسجوداً وتذلُّلاً لخالقِ الكونِ، فأعِزَّ بهِ، ومجِّدْ لسلطانِه آناءَ اللّيلِ وأطرافَ النَّهارِ!

إذا كان الجهلُ طوفاناً حولَ حجرٍ يرمزُ لوحدةِ الكونِ والإلهِ سبعَةَ أشواطٍ في موسمٍ سنويٍّ، وليس طوفاناً أهوجَ حولَ رموزِ آلهةٍ أرضيَّةٍ خلقَها علمٌ طاغٍ بالمالِ والسِّلاحِ والخبثِ والمكرِ على مرِّ الأيّامِ، فسبِّحْ بحمدِ ربّكَ واستغفِرْهُ من شرِّ ذنوبِك الّتي أضلَلْتَ بها البشريَّةَ!

إذا كان الجهلُ رحمةً وتراحُماً بينَ القويِّ والضَّعيفِ والغنيِّ والفقيرِ، فعليكَ الرّحمةُ والشَّفقةُ أيُّها النّورُ، والنُّبلُ والمجدُ للجهلِ في كلِّ العصورِ!

إذا كان الجهلُ أضاحيَ في سبيلِ اللهِ وإطعامِ الجائعينَ والفقراءِ، فلكَ البؤسُ والشّقاءُ أيُّها النّورُ الّذي جعلْتَ من الفقراءِ والبائسينَ أضاحيَ وقرابينَ تُذبحُ في معابدِ المالِ والجاهِ والألوهيَّةِ البشريَّةِ القذرةِ!

إذا كان الجهلُ حفظاً لتعاليمِ السّماءِ واجتراراً لآياتِها وأسفارِها، وكنتَ أيُّها النُّورُ بحاراً من علومِ الأرضِ والفضاءِ تبتلعُ ثرواتِ العالمِ، تارةً باسمِ الاكتشافاتِ الكُبرى، وتارةً باسمِ الاختراعاتِ العُظمى، وتارةً باسمِ التّجارةِ، وتارةً باسمِ الدَّعارةِ، وتارةً باسمِ قذارةِ الحضارةِ، فمرحَى للجهلِ المقدَّسِ الّذي طالَما حلمَ بهِ الشَّرقُ، وطالَما استعْلَى عليه أصحابُ التَّمدُّنِ والحداثةِ والحضارةِ!

فأيُّ تمدُّنٍ.. وأيّةُ حداثةٍ.. وأيّةُ حضارةٍ.. والفكرُ في وادٍ سحيقٍ، والجهلُ في مجدٍ أثيلٍ، والعدالةُ في فمِ بركانٍ، والإنسانيّةُ في غابةٍ يحكمُها الأقوياءُ، وقيمُ الحضارةِ الّتي أهلَّ بها أنبياءُ الشّرقِ على فوّهاتِ أسلحةِ الدّمارِ.. وها هوَ العالمُ غارقٌ في طوفانِ نوحٍ عليهِ السّلامُ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى