الخميس ١٥ تموز (يوليو) ٢٠٢١
بقلم علي بدوان

في فلسطين: النوستالجيا من الطوباوية الى الواقعية

(مقطع من كتاب السيرة الذاتية)

في تلك الأيام والسنوات لم تَستَطِع تلك العائلة الفلسطينية اللاجئة التواصل مع غالبية أعضاء الأسرة الذين بقوا في مدينة حيفا وبعض مناطق طولكرم ونابلس، فبقيت الصور التي جلبتها الأسرة لها ولأحبابها من حيفا والملتقطة قبل النكبة في ستوديو (كاتس) الشهير في حيفا، تعوّضُ جزءا من الشوق والحنين. وبقيت صلة الوصل تتم عبر أقارب في الضفة الغربية كانوا يستطيعون التسلل وإيصال الرسائل إلى حيفا.

كان برنامج صوت فلسطين في إذاعة دمشق، صلة الاتصال بين اللاجئين الفلسطينيين في سوريا وأقاربهم ممن تبقوا في فلسطين التي أصبح اسمها بعد ذلك "إسرائيل" قبل أن تتطور وسائل التواصل والاتصال. وفي عام 1956 سُمِعَ لأول مرة صوت والدتي اللاجئة الفلسطينية، ثم صوت زوجها من إذاعة دمشق عام 1956، وصوت الطفل علي عام 1968 في رسائل مباشرة لمن تبقى من أهلنا على أرض الوطن. وقد كانت تنتهي تلك الرسائل الصوتية بعبارة "وإننا لعائدون".

بعد ذلك وبسنوات طويلة، كانت والدتي، ومعها البعض من أبنائها وعائلتها التي اتسعت لتصبح ثلاثة عشر نفراً، في أول زيارة لمدينتها حيفا عام 1972 بموجب تصريح زيارة عبر الضفة الغربية.
كان لقاء أسرتها ووالدها ووالدتها وأشقائها وشقيقاتها وعموم أقاربها ومن تبقى منهم، بعد نحو ربع قرنٍ من الخروج القسري لتلك العائلة من مدينة حيفا حينذاك. استقبلها والدها بعينيين دامعتين، هاتان العينان اللتان رأتا المأساة والمؤامرة وجموع الناس تخرج من ميناء حيفا تحت ضغط قوات الإنتداب البريطاني وعصابات الهاغاناه الصهيونية التي كانت تمتلك في حينها جيشاً ضخماً قوامه نحو ستين ألف مقاتل تحت السلاح.

لم يَفُت على والدتي أثناء زيارتها لمدينتها من تَفَقُد حواضر ما تبقى من المدينة كما كانت تَعرِفُها، ومنها سوق الشوام، كذلك بيتها في شارع الناصرة، والذي غادرته آخر مرة في الثاني والعشرين من ابريل/نيسان 1948، فوجدت داخله أسرَةً يهودية جاءت من اصقاع العالم البعيد عن فلسطين، فسألت تلك الأسرة التي استوطنت منزلها عنوة واغتصاباً عن الأغراض التي تركتها.. عن (جُرن الكُبة الحجري) الذي تركته، وعن خوابي المؤونة، وعن الزجاجيات، وعن بابور الكاز نمرة واحد، ونمرة 2، وعن كراسي القش والخيزران ... وودّعت بيتها لتقول لتلك الأسرة التي اغتصبت الدار: هذه دارنا.. عمرناها تعريفة تعريفة (أي قرش بقرش)، ولابد ستعود لنا وإن طال الزمن.

بالطبع، فالعودة إلى فلسطين الماضي، فلسطين التاريخية حيث الصبار والرمان وطواحين الماء حق لايسقط ولايموت بالتقادم. أما (النوستالجيا) وباعتبارها إحدى أهم الظواهر الاجتماعية في حياتنا المعاصرة، وهي ظاهرة هامة بين ظواهر غير قليلة، ولكنها صارت عند الفلسطينيين عنصراً مؤثراً في دواخل الشعب الفلسطيني، وعنصراً هاماً في صراعه مع الإحتلال ووجوده على أرض وطنه التاريخي، وبالتالي قفزت من مكانها، من الطوباوية الى الواقعية.

(الصورة الأولى اعلان في حيفا عن نشاط ثقافي قبل النكبة + صورة عائلة حيفاوية في حيفا قبل النكبة)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى