الثلاثاء ٣١ آب (أغسطس) ٢٠٢١
بقلم الهادي عرجون

قراءة في المجموعة الشعرية «كما الذئب في الخمسين»

عندما تصبح العبارة معولا يعتمد على التكثيف والتخلص من الزائف والعرضي يكشف حالة القلق الشعري الذي يحيط بذات الشاعر ليبحث عن الطمأنينة والسكينة، ليطل علينا الشاعر السيد بوفايد بمجموعته الخامسة التي اختار لها من العناوين (كما الذئب في الخمسين)، في 92 صفحة ضمت بين طياتها 18 قصيدة نثرية، والتي مزج فيها الشاعر بين عدة متناقضات طغت عليها مسحة الحزن والقلق إزاء الأسئلة الساكنة في داخله، وما صحبه من غموض تجاه الحياة وشجن يرقص على عناوين القصائد.

ففي البداية لابد من أن نقف على عتبة العنوان (كما الذئب في الخمسين) وهي عبارة عن نصوص تعكس نضجا في تجربته الشعرية التي بدأها في الثمانينات، وتجاوزا لكتاباته السابقة من حيث النوع، كما في قوله:

"نضجت فاكهتي
وتهيأ دمي لفتنة أخرى
قال: وأنت معي
أحمل الريح في كفي
فتحملني..." (ص25).

وهو ما يعكس حالة الشاعر في هذا السن بعد بلوغ الخمسين، الشاعر الذئب في داخله الذي صار أكثر قدرة على الإبداع بحنكة وحرفية بعد تراكم التجربة لسنوات. فهذا العنوان ليس مجرد عنوان عابر ينتهي بوجوده على الغلاف فإن له دلالات قابلة للتأويل والتفسير بما يحمله اسم الذئب من مغزى ومعنى لطرح فكرة أو لطرح قضية.

فهو المتجول بين حالات وجودية شتى تقابلها جملة من الثنائيات كالحلم والأمل والحزن والشجن وما يكتنفه من هموم تسبح في ذات الشاعر وتسكن وجدانه، وبذلك نرى الشاعر يحدثنا عن تجربة حياتية وما تحمله من معاني الهروب ومع ذلك فالحزن يطبع أغلب نصوص المجموعة ويدور في فلكها:

" انا حزين جدا...
وأشعر بالضيق
كأن العالم قبر
فسيح...
ومع هذا
أرى الحياة تمشي بقدمين
مطمئنين هازئة مني"(ص43)

ولكن هذا الحزن يتبعه صراع الحياة الذي يتجسد في صورة الوحدة الراسخة في ذهن الشاعر والتي يشعر بها فالوحدة على الرغم من أنها تعبر عن الهدوء والتفكر مع الذات إلا أنها كذلك مغامرة وصراع بين الموت والحياة. فالوحدة هي الشعور بكونك مقطوع عن الآخرين، منعزل عن الناس الآخرين وهي حالة من الاحتياج إلى اتصال عميق وليس سطحيا، وهي حالة نفسية ليس لها علاقة ببقاء الشخص وحيدا، فهناك من يعيش وحده دون أن يشكو من شيء، وغيره يشعر بوحدة شديدة وحزن رغم وجود الكثير من الناس حوله.

"وحدي كم أنا مبتهج بوحدتي
أوزعها على الأروقة
والفراغات...
وأشكال منها
شرفة تتدلى
وطيورا...
وصباحات مشرقة وحدي
متوجا على مملكتي
وممتلئ بوحدتي"(ص42).

فالشاعر يعود بنا إلى الماضي القريب وذكريات الطفولة والشباب التي تراوده مرة تلو أخرى تشكل في شعره مسحة من الحزن فالماضي حزين وكذلك الحاضر لتخرج في شكل قبسات شعرية عذبة وصورا تذكارية تجسد الحالة النفسية أثناء كتابة هذه النصوص، على الرغم من جبة الأمل التي يلبسها في نصوصه.

"رسم الطفل قلبا
على الشجرة
فاخضرت الأوراق
وتراقصت فرحا...
وتشابكت الأغصان
مع أصابعه المرتعشة
حتى نمت في قلب الطفل شجرة"(ص37).

فالشاعر من خلال تكرار بعض الكلمات والحروف والمقاطع والجمل، مثل: (وأنت معي/ الشجرة / الأشجار/مازال قلبي/ الريح) وغيرها، يمد روابطه الأسلوبية في عناصر العمل الأدبي الذي يقدمه، ليصل ذروته الفنية الابداعية، منطلقاً من الجانب الشعوري، ومجسداً في الوقت نفسه الحالة النفسية التي هو عليها، بحيث يحقق التكرار إيقاعاً موسيقياً جميلاً، وبهذا يحقق التكرار وظيفته كإحدى الأدوات الجمالية التي تساعد الشاعر على تشكيل موقفه وتصويره.

لتصبح مثلا الشجرة والريح التي تكررت في المجموعة أكثر من مرة بمثابة الثيمات التي يبث من خلالها الشاعر أفكاره فالشجرة رمز الحياة والسمو والرفعة والوقوف في وجه الريح وبذلك يعبر الشاعر السيد بوفايد عن نفسه مأخوذا وفق حالات شتى وانفعالات وتعبيرات تشير لما يعانيه الشاعر من قلق وجودي تجاه الموجودات.

"وحدها الشجرة واقفة بهدوء
لا تكترث بالريح تحتها
تمد يدها للفراشات
وتتعطر بظلها
وحدها الشجرة القديمة
تراقب الأحداث بعيون مفتوحة"(ص89).

ويظهر أيضا من خلال تصفحنا لهذه المجموعة استعمال الشاعر لحرف (السين) في عدة مواضع وهو حرف من حروف المعاني يختص بالدخول على الفعل المضارع المثبت دون المنفي فيعينهُ للاستقبال وينقله للزمن المستقبل الواسع. حيث يقول: (ص48):

"سأصد عليه المنافذ
وألوذ بمكمني
سأراوغه...وأناوره
سألاعبه بالوقت والحيل
سأشد على ألمي
وأقفز واثقا على قدمي
سأصرعه بالفرح والضحكات...
وكذلك في قوله:(ص62):
"سأجمعني ثانية
وأمشي بخطى ثابتة
إلى غدي...
سأمشي بطيئا
على الأرض
وأحيانا حافي القدمين"

و في النهاية يمكن أن نقول بأن هذه النصوص نجحت في شد القارئ إليها ولقد لمست فيها خصوصيات جمالية و دلالية تعكس تجربة صاحبها الذي وشح مجموعته الشعرية بشعر بسام حجار و التي يقول فيها:

"أغبطك نعمة الحجر
نعمة الصمت
أيها المكان
سوف تحيا من بعدي"

ليخرج بنا من عتبة القصيدة الشعرية المتعارف عليها بكل مميزاتها إلى عتبات نصوص شعرية منفتحة على الواقع بأنماط مختلفة تعبر عن رؤية جديدة ومختلفة عن سابقاتها.

وفي الختام يمكن القول أن "كما الذئب في الخمسين" فسحة شعرية وكون شعري راوح فيه الشاعر بين تفاصيل المعيش اليومي والوجداني لينقل لنا ضجيج المكان ودندنة العشاق في حوار عاطفي وهو يتسلق الذاكرة ليكتب لحبيبته ما شاء ان يكتب لها وقد بلغ الخمسين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى