الثلاثاء ١١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
قراءة نقدية في ديوان الشعر السعودي المعاصر
بقلم مسعد محمد زياد

قراءة في (قصائد غاضبة) للشاعر علي آل عمر عسيري

لم تكن قراءتي في ديوان الشاعر على آل عمر عسيري من قبيل الصداقة أو لغرض الكتابة في جريدة أو مجلة ، لان ذلك لم يكن ليعنيني بقدر ما تعنيني القراءة ذاتها ، ولأنني أنفقت وقتا وجهدا غير قليلين في دراسة الشعر العربي السعودي في السنوات العشر الماضية " قبل سبعة وعشرين عاما " دراسة أكاديمية جادة تحت عنوان " الشعر العربي السعودي المعاصر نشأته واتجاهاته الفنية ، حصلت بها على درجة الماجستير في الأدب العربي من إحدى الجامعات المصرية .

وقد أفردت في دراستي على كبر حجمها مبحثا صغيرا تحدثت فيه عن شعراء الجبل الثالث في المملكة العربية السعودية ، وأعني بهم الشعراء الشباب ، ومع علمي مسبقا بأن ما كتبتيه عنهم لا يفي بالغرض الذي أنشده ، فقد عقدت العزم على أن يكون نتاجهم الشعري موضوع دراستي لأطروحة الدكتوراه إن شاء الله ، وإن كنت على يقين بأن هذه الدراسة تتطلب مني جهدا كبيرا ، إلا أنني لم أتوان في انجازها لأنها تكمل ما بدأت به ، وأكون قد أوفيت بالعهد...

وشعراء الجيل الثالث أو الشعراء الشباب الذين ينتمي إليهم شاعرنا هم أولئك الذين ولدوا على أعتاب النكبة الفلسطينية ، وفطموا على نكسة حزيران ودرجت طفولتهم وترعرع شبابهم على تربة مليئة بالمتناقضات والماديات ، وما صاحب ذلك من صراع بين الخير والشر ، والمثل والفوضى ، وما رافقها من ألم وجوع وحرمان ، وقلق نفسي وغربة ورحيل دائم بحثا عن الذات في لجج البشرية المتصارعة من أجل تحقيق الانا .
جاءوا ليكونوا ثورة مدوية على أوضار المجتمع وأوزاره ، ثورة على كل قديم بال ، والتعمق داخل النفس الإنسانية ، وسبر أغوارها ، والشعور بما في أعماقها .

وقد ترجم هؤلاء الشعراء سواء داخل المملكة العربية السعودية أو في بقية أقطار العالم العربي ، محصلة أحاسيسهم إلى قصائد شعرية لفها الرمز والغموض حينا ، واحتواها اليأس والقنوط والهروب من الواقع المرير المؤلم أحيانا أخرى ، وباتوا ينشدون واقعا أكثر خيالا ، وأدق همسا ، فجاءت أشعارهم مهموسة تخاطب الروح والنفس رافضين ما للعقل من هيمنة على نتاجهم الأدبي ، ومن شعراء هذا الجيل على سبيل المثال : سعيد الحميدين ، احمد الصالح ، علي الدميني ، إبراهيم الفوزان ، محمد العلى ، مفرج السيد ، حمد الزيد ، عبد الرحمن العشماوي ، عبد الله عبد الرحمن الزيد ، محد الثبيتي ، أحمد النعمي ، عبدالرحمن الدبيان ، وشاعرنا علي آل عمر العسيري وغيرهم أخرون لم تحضرني الذاكرة بذكر أسمائهم .
وفي هذه القراءة العجلى لا أريد أن أخوض في الدوافع ولا في الخصائص التي اتسمت بها أشعارهم إلا بالقدر الذي يخدم القراءة حرصا على عدم تشعب الموضوع ، واعدا في دراسة قادمة لديوان آخر أن أتطرق لما غفلته في قراءتي هذه أن شاء الله .

والديوان الذي بين أيدينا من القطع الصغير ، صدرت طبعته الأولى في هذا العام 1411 هـ الواق 1990م عن النادي الأدبي بأبها ، ويحوي إلى جانب الإهداء خمس عشرة قصيدة زواج فيها الشاعر بين نمطين من الشعر ، هما الشعر الحر ، والشعر التقليدي .
ومن خلال عنوان الديوان وما اشتمل عليه من قصائد ، كقصيدة لافتة ، وغيرة الضمائر والنقمة ومفترق الخانجر ، نلمس ثورة داخلية عارمة تجتاح الشاعر ، نتيجة لما يحس به ويعانيه من قلق نفسي وإحباطات وصراعات تحيط بامتنا العربية والإسلامية من جانب ، وبما يعتري بعض مجتمعاتنا من تناقضات وآفات مرضية لا أخلاقية ، كاللهاث وراء المظاهر البراقة الخادعة والزيف في التعامل وعدم المصداقية من جانب أخر ، ونلح هذا في قوله من قصيدة لافتة :

زمن القلق المشرع للازمات ...
وصراع النزوات...
تسحقني ..
في الداخل منك طواحين ...
تذروني لرياح اللاءات...

وما من شك أن الشاعر كغيره من شعراء جيله لا في المملكة العربية السعودية فحسب وإنما على امتداد الوطن العربي ، يعيش حالة من القلق النفسي ، والغربة والضياع الذي يفجر في دواخله هذه الثورة وذلك التمرد ، تمرد على كل شيء ، حتى على قلمه الذي هو الوسيلة التي يحفر بها ما تنبجس عنه أحاسيسه ومشاعره ، فها هو يصرخ عاليا بأن قلمه لم يعد يسعفه في رسم هواجسه وهمومه وترجمة مداركه وعواطفه ، لأن هذا القلم ما عاد هو السلاح الذي لا يحسن استعماله إلا ذوو المشاعر والخواطر التي تصدر عن رؤى صادقة ، وإنما أصبح مطية طيعة يعتليها كل متسلق باليد ، فاسمعه يقول من قصيدة قلم الشعر :

أطوى على قلمي حداده
وأطوف من يشرى مداده
ما عاد يلهمني الرؤى
ودمي نذرت العمر زاده
......
......
وهربت منه إليه في
زمن يذم بلا هواده
هذا يؤول ما كتبت
وذاك يستعدى مراده
أو بين محسوب على
أدب الموائد ذا سيادة
ازرى به لقب الاديب
وقد تليق به البلاده

إن الغربة التي يعاني منها الشاعر ، رغم أنه يعيش بين ظهراني أهله وصحبه ، ويتمتع بصحبتهم في ربوع وطنه ، ما هي الا حتمية من حتميات الغربة النفسية التي أفرزتها جراحات الأمة العربية على امتداد مسافاتها وتباين أقطارها ، فهي غربة الحرف والكلمة واللغة والمصير المشترك كما يقول شاعرنا أنها غربة الضياع والتمزق الذي ينتابنا اليوم ، يقول من قصيدة : غربة الحرف :

لغتي يا نبض وعيي ودمي
وارتفاعي لمدار العظمهْ
أنت مني ... كيف أحيا عزبا
أعجم الفكر ـ هنا ـ منهزمه
أشعلي من لمعة الصبح سنى
وأريحي عن طريقي ظلمه
لغة تنساب في أوردتي
كاحتقان الأذن همس النغمة

ولا زلنا نهوّم مع شاعرنا يحدونا بأغنياته ، فيشنف آذاننا وترقص معه أفئدتنا طربا وثورة ، طربا لما في هذه القصائد من ومضات مشرقة تأسر القلوب في أفكارها وصورها ولغتها ، وثورة لأنه يفجر في دواخلنا كوامن الجراح التي ما تلبث أن تلتئم حتى تتفتق من جديد ، ففي قصيدة غيرة الضمائر يوجه الشاعر نداءً ، بل صرخة مدوية يحاول بها إيقاظ الضمائر التي شاخت وهرمت ، وانطفأت فيها جذوة العزيمة ، والنخوة والإرادة ، فهو يدعو إلى ثورة مدمرة تحرك في نفوسنا الحمأة ، وتقوى فينا التمرد على كل ما يعيق مسيرة الأمة استمع إليه يقول :
يا أيها الزمان والمكان ..

شاخت وجوه أمتي
وحام فوق حاجبي جراحنا "نسر"
وفي منقاره حصاة عزنا
يغيظنا بذلنا
وينفض الغبار في وجوهنا حين
انقضاضه وعندما يحلق
ونحن تحته نصفق
وناعق يوسع المدى ..وناعب يغرق
ثم يقول :
تململي يا غيرة الضمائر "
ثوري لنا .. ثوري لكل صامت
وصابر
كسّري
أثيري النقع في سنابك الخيول ...

ولا ينفك شاعرنا متمردا ثائرا يواصل انتفاضته ، هاتفا بهؤلاء الذين يبست قلوبهم ، وتصلبت شرايينهم ، وتسمرت خطاهم ، هؤلاء الذين هم عمد الأمة ، ولكن أي أمة ، أنها أمة الزيف والخداع ، أمة الخنوع والذلة والمهانة هذه الأمة التي تنكرت لأوطانها ، وعاشت غريبة عنها ، تلهث وراء السراب تسرق ولا تمنح ، تأكل والوطن يتضور جوعا ، تشرب والكل ظامئ ، ولا من مغيث أو مجير ، فاسمعه يقول من قصيدة النقمة :

أيها الشعب انتفض
جار واستشري المرض
وانتفض ...
نصب الشكوى على الأقصى نضالا... ورفض
واحتمى بالأرض ، والأرض اضطرب ومضض
وانتفض
لم يعد بد من الثأر المدمى
أو عوض فاتعظ ...

وفي مفترق الخناجر لا يزال لهيب الثورة الذي يحرق فؤاد شاعرنا متأججا ، فهو كالمارد المنتصب ، كالبركان المتفجر ، بل هو الغضب ، أو الإعصار المدوي الذي ينذر بالدمار ، إن في داخل شاعرنا ثورة تحركها آلام وأحزان ومآس ونكبات وقتل وتشريد وجوع وحرمان يعاني منها شعبنا العربي في فلسطين المحتلة ولبنان ، واليوم توسعت الجراح وازدادت الهموم لما يعانيه أهلونا في الكويت من أثار الغزو العراقي ، وما يكابده شعب العراق من ظلم على أيدي جلاديه ، فاستمع إليه يقول تحت عنوان جانبي : اعترف :

أدناهم وهذى الريح نافرة تؤز ديارهم ازا
وأسرجنا إلى الثارات السنة سلكناهم بها جزا
وأجهزنا بكل شتيمة تخزى وكل عبارة أخزى
نثرثر ـ يا بني وطني ـ ونغرق في مدارات بلا مغزى
وإن أصواتنا ائتلفت ، تفرقت البنادق أو غدت لغزا

أنها سخرية الشاعر الذي يحس بمرارة الموقف ، سخرية أقوى من الثورة ذاتها ، فعلّها تكون المحرك لأمتنا العربية نحو التلاحم لا نحو التشتت ، والانهزام ، ولم يفت شاعرنا أن يذكرنا بمشهد من مشاهد البطولة والتضحية والتلاحم متجسدة في انتفاضة الحجارة التي يصطلي بنارها الصهاينة المعتدين فهو يقول تحت عنوان جانبي : أنموذج :

أيا أبطال ثورتنا وقد كنتم لسر جهادنا رمزا
تبارك فيكم الإصرار واهتزت له الإبطال واهتزا
سنستهدي حجارتكم لنا برءا ـ بإذن الله ـ أو حرزا

ولا يفوت شاعرنا أن يتوج ثورته الداخلية بهذه الروح الإسلامية الفذة ، فهو يصدر عنها ويعب من معينها ، ولا تنفك تنبعث رائحتها الطيبة ووميضها الذي يضئ القلوب من ثنايا قصائده ، فلا تكاد قصيدة تخلو من هذه الروح العقبة ، وهي انعكاس حقيقي لصحوة إسلامية شبابية جلجل صوتها عاليا في السنوات العشر الأخيرة ليهز أركان الفجور والنزق غير الأخلاقي والردة الدينية التي أصابت الكثير من أبناء المسلمين .
وقد كان تأثر شاعرنا بروح الإسلام واضحا جليا في جل قصائده سواء باستخدامه بعض الألفاظ الإسلامية التي استقاها من القرآن الكريم أو بمعالجته لبعض القضايا الإسلامية التي ما انفك المسلمون يعانون من وطأتها .

وتأثره بألفاظ القرآن الكريم فواضح في قوله :
إذ تخطون فراغا شاحبا
تتدلى فيه نار الحطمة
وفي قوله :
أدنّاهم وهذى الريح تؤز ديارهم أزا
وفي قوله :
وأطبقنا على أحسابهم جدلا وأصليناهم رجزا

أما ما تضمنه شعره من ملامح إسلامية فنجده في قوله من قصيدة :
" يدك اليسرى " التي يتحدث فيها عن ابنته التي التهم الماء الساخن يدها اليسرى :

أشعر أن أخطأت طريقي
حين خرجت كفلاح صادره موج الطمع العازم ...
أخطأت بتحديقي ..
لكن ما الحيلة ...
والأمر هنا وهناك إلى الله ...

ونرى هذا واضحا أيضا في قوله من قصيدة يتحدث فيها عن فتاة مسلمة قتلت على يد أحد الشيوعيون وهي تحتضن ابنها الرضيع فماتا معا :

سكرات الموت هابت من تفاصيل الدماء
وعيون أجهشت ـ مما تراه ـ بالبكاء
هالها المصرع لكن أيقنت ..
أن من مات شهيدا في سبيل الله تؤويه السماء

ويقول في موضع أخر من نفس القصيدة معلنا عن هذه الصحوة الإسلامية التي سرت روحها في شباب المسلمين :

علمونا أيهال الأبرار معنى من معاني صحوة الجيل الجديدة
أن روح المسلم الحق بها تحيا وإن كانت عميدة
وتراب الأرض يهتز لها شوقا وإن ظلت بعيدة

وتتجلى هذه الروح الإسلامية التي تشربت بها نفس الشاعر في قوله من قصيدة : حمير اللذة ، وفيها ينتقد وبشدة منظرا من المناظر السيئة في شواطئ مدينة جميلة بأحد البلدان الإسلامية :

ماذا أن قلنا أين الخوف من الله ؟؟
ماذا أن قلنا أين الجنة والنار ؟
ماذا أن قلنا أين القبر وسوء الدار ؟
ماذا أنتم ؟ بشر .. حيوانات .. أحجار ؟

وبهذا العرض السريع نكون قد أتينا على جل قصائد الديوان محلقين مع شاعرنا في أجواء علوية استمتعنا فيها بسيمفونية جد معبرة نتوق إلى مثلها من الشاعر ، غير أنه لا يفوتنا أن نذكر شيئا عما خرجنا به من انطباعات ، خاصة إذا ما نظرنا إلى قصائد الديوان من منظور فني ، وهذه الانطباعات تتعلق بنهج شاعرنا الشعري ولغته وخياله ..

أولا النهج الشعري :

لم تكن هذه المجموعة الشعرية للشاعر هي الأولى ، بل له مجموعة أخرى سابقة عليها ، ومن خلال اطلاعي على هذه المجموعة ، أحسست أن الشاعر بدأ مجددا في نهج القصيدة ، فهو متحرر إلى حد ما من النمط التقليدي للقصيدة العربية ، وقد شمل هذا التجديد معظم قصائده خلا قصيدتين هما : " إيماءات الأصيل " و " حزينة النهر المقوس "
أما فيما يتعلق بديوانه الذي قراناه معا ، فقد راوح الشاعر في قصائده بين النمط التجديدي والنمط التقليدي من حيث الشكل ، فقد اشتمل الديوان على عدد من القصائد الحرة ، وأخرى من القصائد الخليلية ، استمع إليه يقول من الشعر الحر :

اعترفت كل دوائر حزني أني سبب .. سبب
هذا الماء الطيب جدا .. كيف تغير ؟؟
كيف تحول وحشا يمضغ أعصابا ويجرد أعشابا من رائحة العشب ؟
هل كان ثوابا ..
أم كان من الله عقابا ؟!

ولم يقتصر هذا التراوح أو التزاوج بين النهجين على قصائد معينة ، وإنما نجد الشاعر في أغلبها مشدودا إلى النهج التقليدي ، وأكثر من هذا أن الشاعر كان يخلط في أجزاء القصيدة الواجدة بين النمطين من الشعر ، فهو لا يزال منبهرا بما تحمله القصيدة التقليدية من موسيقا خارجية طنانة ممثلة في بحرها الشعري وقافيتها الفخمة وألفاظها الخطابية المتوهجة ، استمع إليه من قصيدة جمع فيها النمطين من الشعر وغيرها أكثر :

لم يعد بد من الثأر المدقى أو عوض
فاتعظ
أيها المحتل مهما سمتنا شردتنا ..
بالغت في إيلامنا
لن ننقضي ..
فلتنقرض
كم من الموت إلى الموت سنبقى
كم من الذل إلى الذل سنبقى
كم من الظلم إلى الظلم سنبقى
كلهم قالوا ..
ولكن فلسطين استوت صوت وزندا
سوف أبقى
سيموت الظلم والذل وابقى
ويقول في مقطع أخر من القصيدة :
في يدي السكين يا " هياب " تنقض على حلق المعسكر
مؤمن في كفه نبل .. وفي أعماقه الله أكبر


ثانيا : لغته الشعرية :

ونعني باللغة الشعرية ما تعارف عليه النقاد من استخدام الشاعر لمكونات القصيدة اللفظية ذات التداعيات والدلالات الإيحائية ، وهو ما اتفقوا عليه بالمدلولات الانفعالية للكلمة ، ولا يعنينا في هذا المقام ما قال به بعض النقاد من مفهوم للغة الشعرية بأنها الإطار العام الشعري للقصيدة ، والتي يقصد بها مكونات العمل الشعري من ألفاظ وصور وخيال وعاطفة وموسيقا ومواقف بشرية .

وعليه ، فقد تميزت لغة شاعرنا بالشفافية والوضوح ، فهي بعيدة عن لغة التعتيم والتهويم في سرف الوهم واللاوعي ، تلك اللغة التي تلفها الضبابية القائمة والرمزية المبهمة ، فلغته ناصعة واضحة لا غموض فيها ، وتعبر عن مضامينه بأسلوب أقرب فيه إلى التصريح المليح منه إلى التلميح ، هذا يعني أن الشاعر ذو مهج تعبيري سلس ، وقاموسه الشعري لا يحتاج إلى كد ذهني وبحث في تقاعير اللغة ، وأنا إذ أصرح بهذا إنما أغبط شاعرنا على الرؤى الواضحة والألفاظ المعبرة بذاتها ، وقد لمح الشاعر نفسه عن ميله لهذه السهولة بقوله :

يا أيها القلم اعتزل
لغة التكلف والإشادهْ
واحمل رسالة شاعر
مستمسك بهوى بلاده
لم يتخذ لهوا ولم
يسلم لشهوته قيادة
وأصدع بجلجلة الوضوح
ودع لغيرك ما أراده

وإلى جانب هذه السهولة والوضوح اللغوي ، نراه يتكئ أحيانا على الموروث اللغوي ليطعم به مكتسبه ، كما في قوله :

فاتئد واسفح على أضغانهم
لغة الصبر وبارك ديمه
وفي قوله :
يا جديرا بصقيل صارم
منك القينا إليك الجنفا
وقوله :
أثيري النقع في سنابك الخيول
وقوله :
وتنادى لوغى يوم عصيب

ثالثا : خياله الشعري :

لقد وصف النقاد الخيال الشعري بأنه قوة سحرية وتركيبية تعمل مع الإرادة الواعية ، فهو مصحوب دائما بالوعي ، وفي داخله يتم التوحد بين الفنان وبين المعطيات الخارجية ، وعن طريق تجمع هذه المستوعبات والمشاعر يعمل الخيال على خلق بناء خيالي متكامل ، ومن المنطلق السابق نجد شاعرنا يثور أحيانا على الصور البلاغية التقليدية والعبارات العاطفية ، ويحاول استبدالها بالصور الشعرية المهموسة ، أستمع إليه يقول :

آه .. آه
ما أشغلني عن بكرة همي
ما أحوجني لرياح الحسم
ما أتعسني في عين الزمن العاري
لكن لست وحيدا ..
ها أنت معي .. ها أنت معي يدي اليسرى
بعض تفاصيل القصص الأخرى
طرف من هم ممتد
يسترضي كل صباح بين ضلوعي

غير أن السمة الغالبة على قصائد الديوان ، أن كثيرا من الأخيلة والصور التي تناولها الشاعر كانت في حد ذاتها صورا حسية ، أو قل إنها في الأغلب الأعم تميل إلى الحسية ، وإن كان يحاول أن يضفي عليها ظلال البناء الفنى الذي يستمد وجوده من عناصر الصور الشعرية نفسها ، لا من عناصر الواقع الملموس ، ونرى هذا النوع من الصور في قوله :

أيها الأطفال يا ماء المحاجر
أيها الأبكار .. يوما ستدلن الثأر في أعماق ثائر
أيها الزيتون والدفلى وأعشاب المقابر
نكأ الجرح أغرابي
وطريق الثأر شباكي وبابي
شطت الرحلة أم أقعت بقوسي ونشابي

وفي نهاية المطاف حيث المحطة الأخيرة التي وقفنا نودع فيها شاعرنا ، الذي حاول حينا أن يتحفنا بما جادت به قريحته ، وأن يحلق بنا في خيالاته العلوية ، ويصهرنا في أتون ثورته الداخلية الوطنية المعطاءة حينا آخر ، ولا يسعنا إلا أن نتمنى له ديمومة الإيداع ونأمل منه المزيد ، ونهمس في أذنه بألا يكرر ذاته ، وان يكون دائما ودائما متجددا.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى