الاثنين ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
بقلم عاطف أحمد الدرابسة

قراءة في مجموعة د. جميلة الوطني القصصية «ضفاف الحنين»

لا أحاولُ هنا أن أُقدِّمَ قراءة نقدية لمجموعةِ"ضفاف الحنين"، تتَّصفُ بالإحاطة أو الشمولِ أو المنهجِ، وإنَّما أحاول أن أكون قارئاً، يتعاملُ مع بنية النصوصِ وفقَ أدواتٍ نقديةٍ إجرائية، قادرةٍ على التعاملِ مع القصةِ، بوصفها فنَّاً أولاً، ومُنتَجَاً لغوياً ثانياً.

إنَّ هذه النظرة تجعلني قارئاً غيرَ موجِّهٍ للنص، وإنَّما تجعلُ من النصِّ موجِّهاً لي، خاصةً حينما يكون النصُّ القصصي مغلقاً، أو مقفلاً، وأعني به هنا النصَّ الذي لا يحتملُ قراءاتٍ متضادَّة، أو تأويلاتٍ متصارعة، وأعني هنا النصَّ المفتوح، كما ورد تحديداً عند (أومبرتو إيكو)، وهنا فإنَّني أفصلُ على مستوى المنهجِ بين مفهومين : مفهومِ القارئ الناقد، ومفهومِ المروي له، فالمروي له هم قرَّاءٌ مختلفون : معرفياً، واجتماعياً، وثقافياً، ومتفاوتون من حيث مستوياتِ التلقي.

ابتداءً سأنظرُ إلى هذه المجموعة القصصية بعيداً عمَّا هو بصري، وعمَّا هو طباعي، وعمَّا هو معروفٌ نقديَّاً بالعتبات، فلن أقفَ عندَ لوحةِ الفنان الفلسطيني"اسماعيل شمُّوط"باعتبارها غلافاً تصدَّر هذه المجموعة، وباعتباره فنَّاناً مشغولاً، ومهموماً بالقضية الفلسطينية، وما صاحبَها من هجرةٍ وتشتيتٍ ومخيماتٍ، ولن أقفَ عند الإهداءِ، أو عند المقدمةِ التي تصدَّرت هذه المجموعة، باعتبارِ هذه الأشياءِ عواملَ موجِّهةً للقارئ الناقد، أو القارئ السَّابرِ، فهي عوامل خارجيَّة، تحيط بالنصِّ في حالته الكتابية، أي في صورتِه النهائيةِ، ولن أقفَ عند العنوان أيضاً الموسومِ ب"ضفاف الحنين"، فالعنوان عموماً هو مفتاحٌ للنص، وموجِّه للقارئ، لأنه عند الكُتَّاب الملتزمين بقضيةٍ ما، يختزلُ هذه القضية، ويكشفُ عنها، وإنَّني هنا باعتباري قارئاً مقصوداً لا مُحتملاً، فإنَّ هذا الأمرَ يفرضُ عليَّ أن أندمجَ في بنيةِ النصِّ اللغويةِ، وأن أُخرجه ممَّا يحيطُ به، وممَّا علق به من الخارجِ، أي أنَّني هنا في صددِ إقامةِ حالةٍ جدليَّةٍ بين سؤالينِ هما : الأول ماذا نقرأ؟ والآخر كيف نقرأ؟

أمَّا ماذا نقرأُ فهو للأسفِ الشديد حال كل القراءات النقدية العربية الحديثة، أمَّا كيف نقرأ؟ فهي أبعدُ ما يكونُ عن العقلِ النقدي العربي في مجالِ التطبيقِ، وسأشرحُ هذه المفارقة المنهجية من خلالِ إجابة ممكنة عن ذينك السؤالينِ، ماذا نقرأ عند جميلة الوطني؟ نقرأُ باختصارٍ : الاغترابَ، الغربةَ، الهجرةَ، مشكلاتِ الغربة وأوجاعها، الحنين إلى الوطن، الماضي، الأرض، هذا باختصار ماذا نقرأ في هذه المجموعة القصصية المكونة من إهداء، ومقدمة، وتسعِ قصص، هي على التوالي:

 ابلع دموعكَ يا بحر.
 على رصيف الميناء.
 بس يا بحر.
 ماذا بعد.
 الماضي يُعيدُ نفسه.
 ضفاف الحنين.
 أنينُ المنافي.
 قيثارةُ مخيم.
 لاعبة الجمباز.

أمَّا كيف نقرأُ، فإنَّني أعني به ما يلي : كيف تحوَّلت هذه المعاني من حالةِ وعي تمرُّ بوعي الكاتبة وأحاسيسها، إلى حالةٍ فنيَّة، وبمعنى أدَّق إلى نظامٍ سردي عبر اللغة، أي كيف تحوَّلت إلى خطابٍ، وكيف تعملُ أنظمة هذا الخطاب، أي كيف تعمل اللغة داخل نظامٍ سردي، وكيف يشتغل هذا النِّظام ليحتوي الحكاية بحالتها الشفوية والذهنية، ثمَّ صيرورة السرد، أي عمل الراوي، فالسردُ هنا هو الذي يُبلور الحكاية، وهو فعلُ الكاتب، أي ما يفعله الكاتب، ثمَّ الخطاب، وهو لغة الكاتب، أو كلام الراوي، هذا الكلام، أو هذا الخطاب هو وحدَه مَن يُوضِّح لنا الحكاية، وفعل السرد بعيداً عن عتباتٍ وأشكالٍ بصريَّة، يفرضها الكاتبُ أو الناشرُ على القارىء الحقيقي، وهنا السؤال الذي يُلحُّ عليَّ، ولن أقع في فخِّه، أو شركِه، ولن أسمحَ له أن يُوجِّهني : لماذا اختارت الكاتبةُ قصةَ"ضفاف الحنين"، لتضعها عنواناً لهذه المجموعة القصصية، ومركزاً بنيوياً، يوجِّه القارىء ويجعله يُسلِّط الضُّوء عليها؟ ولماذا تريدُ الكاتبة أو الناشر أن يفرضَ على (القارىء الحقيقي) مفتاحاً للنَّفاذ إلى قلبِ هذه المجموعة القصصية؟

وعلى العموم فقد أغواني هذا العنوانُ أن أذهبَ مباشرة إلى قصةِ (ضفاف الحنين)، ثمَّ شرعتُ بتفكيكِ القصة، فبحثتُ عن الحكاية أو الحدث فلم أجدهُ، لم أجد غير المكان (مقهى في الغربة)، تحوَّل إلى رمزٍ مكشوفٍ، باعتباره مُعادلاً موضوعياً للوطن العربي، الأشخاص فيه يمثِّلون العرب بتشتُّتهم وتفرُّقهم : سوداني، ولبناني، وعراقي، وسوري، وعاشقان، والمكان هنا لم يكُن إلَّا إطاراً يختزلُ الحالةَ العربية، والصورةُ التي ظهر عليها هي صورةٌ نمطيَّةٌ، مألوفةٌ في الموروثِ الروائيِّ العربيِّ والقصصي، من مثل : (رواية السفينة لجبرا ابراهيم جبرا)، (وعمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني)، ويمكن لي هنا أن أُغيِّر المكانَ فأجعله شقَّة، أو عمارةً، أو سفينةً، أو فندقاً، أو طائرةً، أو حافلةً، غير أنَّ احتفائها بالمقهى يسمحُ لها بالاختزال : اختزالِ المكانِ والزَّمانِ، واختلافِ الشخصياتِ وتنوُّعها، وأمزجتِها، كما يُسهم في الوقتِ نفسِه أن يمنحَ القصَّةَ صفةَ الواقعيةِ إن جاز التعبير، ويجعلُ المكان بِنية عاكسةٌ للواقع على حدِّ تعبيرِ (لوكاش)، ويعطيه مضامين أيدولوجية، وسيسيوثقافية، لا يستنسخُ الواقعَ كما هو، إنَّما يُعيدُ خلقَه على هيئةِ مقهى، ويتيحُ للكاتبةِ في الوقتِ نفسه أن تتحكَّم في فضاءِ الزمانِ، والمكانِ، والسيطرة على الشخصيات، التي لم تُبحر الكاتبة في أبعادها النفسية، ولم توغل في قلقها الوجودي، وإنَّما أرادت أن تختزلَ الحالة العربيةَ الراهنةَ في صورةِ هذا المقهى.

وحتى أكونُ مُنصِفَاً، لا بدَّ أن أُشيرَ إلى أمرٍ واحدٍ هنا، يكشفُ عن موروثٍ تاريخي عالقٍ في وعي الكاتبةِ، ووعينا، وهو ذلك الخلافُ التاريخي بين العراقِ والشَّام، الذي تجسَّد في خلافِ (سامر وثائر)، باعتبارهما يُمثِّلان سوريا والعراق، وهنا لا بدَّ أن أقفَ عند هذه الإشارة التي تكشفُ عن عمقِ الرؤيةِ ببساطةِ الفكرة.

وحين أنتقلُ إلى الخطابِ ولغتِه، فإنَّ القراءةَ لبِنيتِها تكشفُ عن حضورٍ حادٍّ للشعريَّةِ، وكأنَّني أمام راوٍ يأتيني من حاضنةِ الشِّعر، فيكتبُ حكايته بالشِّعر. (استشهاد بالمقطع الأول ص٣٣، ص٣٤)

وعلى العموم، إنَّ (ضفاف الحنين) التي تصدَّرت عنوان المجموعة، لا تجتمعُ فيها الرؤية الجامعة للقصص التسعة، في حينِ أنَّ القصة الأولى الموسومةُ ب (ابلع دموعكَ يا بحر)، إن كانت قصةً وفق المعايير النقدية المُتصالح عليها، هي الأكثرُ دقَّة، وإحاطةً، وشمولاً للمضامينِ التي تبنَّتها الكاتبةُ على مستوى الرُّؤى، والأفكار، غير أنَّ الأمر اللافت للنَّظر، أنَّ هذه القصةَ جاءت بلا متنٍ حكائي، أو بلا مبنى حكائي، لا على مستوى الملفوظ، ولا على مستوى المكتوب، وهنا لا بدَّ لي أن أسألَ جميلة (أين الحكاية؟ أو أين القصة؟) لم أجد هنا إلَّا لغةً انزياحيَّةً، ذات إيقاعٍ شعريٍّ حزينٍ، كأنَّها فيضُ خاطرٍ، أو كأنَّها مجموعةُ انفعالاتٍ تحجبُ خلفَها أشباحَ قصصٍ، تُدثِّرها تلاوينُ الغربة، فهذه القصة (اللاقصة) هي حالةُ تمظهرٍ شعري أو شاعري، تُمثِّل موقفَ الكاتبةِ من الغربة، والهجرة، والوطن، ربَّما موقعها المُقدِّمة.

وأمَّا جميلة في قصةِ (قيثارة المخيم) غير جميلة في القصص الأخرى، هنا وجدتُني أمام نظامٍ سرديٍّ، ينطوي على الحكايةِ أي الحدث، وعلى فعلِ السردِ والخطاب، أقفُ أمام بنيةٍ متماسكةٍ، فيها أبنيةٌ متواليةٌ، وأبنيةٌ متوازيةٌ، تُمثِّلُ مجموعةً من الأحداث، التي بدَت واقعيةً، بلغةٍ مكتوبةٍ بعنايةٍ، هذه اللغةُ تنطوي على خطابٍ، قابلٍ للتحليلِ على مستوى الزمن، وعلى مستوى الصِّيغ، وعلى مستوى السردِ، ف (قيثارة المخيم) هي بِنية لحكاية انتقلت من حالةٍ واقعيةٍ مَعيشةٍ إلى حالةٍ مكتوبةٍ، أي من حالةٍ سابقةٍ إلى حالةٍ لاحقة.

إنَّ الشخصيتينِ المحوريتينِ (سماء وهدى)، وهما في أوَّل العمرِ، في طورِ ما فوق الطفولة، أو الطورِ المدرسي، (هدى) تعزف على قيثارة، و(سماء) تعزفُ بالألوان (ترسم)، في الإجازةِ الصَّيفية، ارتأى الوالدان أن يذهبا إلى اللاذقية (المكان) حيث البحر، ليخيموا هناك، والمخيمات الصيفية هي مخيمات ترفيهية، يعيشُ فيها الإنسان مع الطبيعة، ويعتمد فيها على نفسه حينما يشعرُ أنه يعودُ إلى البدء، بعيداً عمَّا هو حضاري، وبعد أن انتهى المخيَّم الترويحي الصيفي الذي أسهم في إنضاج شخصية (سماء) الفنية، فأفادت من هذا المخيم بأن رسمت أكثر من لوحة، فازت إحداها بجائزة الدولة بالمركز الثاني، في حين نضجت علاقة مع القيثارة، وبعد العودة من المخيم، اندلعت الحرب الخارجية والداخلية في سوريا، تلك الحرب التي كانت نتيجتها المنطقية الهجرة والنزوح، وفي هذه الحركة تفاجئت سماء وهدى بأنَّهما في مخيم للنازحين، وهنا المفارقة القصصية، وهنا تتجلَّى أدبيَّة القصة، وفعل اللغة، فأجدُ جميلة تقابلُ بين مخيمين : ترفيهي سياحي في اللاذقية، يتخلص فيه الإنسان من الأعباء التي تُثقل كاهلَه، ويتفاعلُ فيه مع البحرِ والطبيعةِ، ويكون مصدرَ إبداعٍ وإلهامٍ، إلى مخيَّم قسري، فيه وجعٌ وغربةٌ، وفقرٌ، ومعاناةٌ، واغترابٌ، وبتقنيةٍ سرديةٍ، وبلغةٍ تُحاكي أعماقَ سماء وهدى باعتبارهما شخصيَّتانِ رامزتان للمُهجَّرين من حيث القدرةِ على تحمُّل عناءِ الهجرةِ، ظهرت شخصيةُ (سماء) شخصيةً قادرةً على تحمُّلِ مشاقِّ المخيم القسري بفنها، فكما أبدعت لوحاتٍ متفائلةً، وفرحةً في المخيم الترفيهي، أبدعت لوحاتٍ فنيةٍ في المخيم القسري، قهرت فيها غربتها، فهي حين هجَّرتها الحربُ أخذت معها ألوانَها، وتمكَّنت بالفن أن تُعيد التوازنَ في حالتها النفسية، أمَّا هدى فتركت قيثارتَها في الوطنِ، فبدَت ضعيفةً، هشَّةً، سهلةَ الانكسار، غير قادرةٍ على مواجهةِ التحدياتِ التي فرضتها حالةُ المخيم القسري، وأُصيبت بحالةِ انفصامٍ على مستوى النفسِ، هي أشبهُ بحالةِ الانهيار.

هذه القصةُ تكشفُ لي عن انتماءِ جميلة لقصتها، وعن قدرتِها اللغوية في نقلِ الواقعِ إلى حيِّزٍ لغوي، ويمكنني أن أقولَ بثقةٍ : أنَّ التماسكَ، والترابطَ، والتفاعلَ كان سرديَّاً، يُعبِّرُ عن هويةِ النصِّ، على مستوى العمليات اللغوية، وعلى مستوى الأسلوبِ، وعلى مستوى وحدةِ النوعِ، فجاءت لغتُه على مستوى التراكيبِ النحويةِ، والصرفيةِ، واستخدامِ المكانِ، والزمان، منسجماً مع معاييرِ القصةِ، كما أنَّه دلالياً كان منسجماً مع نوعه، ومع منطقِ الحدثِ، فلا تناقضات، ولا مغالطات، ويمكن اختبار هذا الأمر في شخصيةِ هدى، وفي شخصيةِ سماء، ويمكننا ببساطةٍ أن نرصدَ صفاتِ كلِّ شخصيةٍ من خلالِ اللغةِ : شخصيةِ (سماء)، وشخصيةِ (هدى)، وهنا فقد كان ترتيبُ الكلام على مستوى الشكلِ، والتراكيبِ مقصوداً، وهنا شعرتُ أنَّ السَّاردةَ أو القاصَّةَ كانت قريبةً من الشخصيَّتين، باختصارٍ شديدٍ أنَّني أمام تجربةٍ قصصيةٍ متكاملةٍ، تكشفُ عن كاتبٍ متمكِّنٌ من أدواتِه، ومن لغتهِ، وهذه القصةُ من القصصِ النَّادرةِ التي إن جازَ لي التعبير أن أُسميها رواية قصيرة جداً، أي هي قصةٌ قصيرةٌ قابلةٌ للتمدُّدِ أكثر، وإلى أن تتحوَّلَ إلى فضاءٍ روائي، خصوصاً وأنَّها بقيت مفتوحةً من حيث النهايةِ، وأخشى أن أقولَ أنَّ قصةَ (قيثارة المخيم) كانت مشروعَ روايةٍ لا قصةٍ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى