الاثنين ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٣
بقلم نضال نجار

قراءة في ( نداء الجسد ... أنين الروح) ـ للشاعر محمود علي السعيد

" قسِّم على وتر الجراح قصيدةً فيها تُصفِّقُ مفردات المقصلة"...

هي الحقيقة الجريئة في زمن الفوضى الكونية، والتي نشعر بها من خلال هذه المجموعة الشعرية الصادرة عن دار المعارف ـ مدينة حمص ـ سوريا، للعام 2000، وتضم 17 قصيدة تحمل بين طياتها قلق اللحظة الراهنة وما تفرَّعَ عنها من صمتٍ جهنميٍّ مؤبَّدٍ وأسئلةٍ تدور بحثاً عن الخلاص الذي ربما يسبح في مجرَّات الروح/الكلمة..

يقول في قصيدة " أرجوحة الدقائق":

طرقتُ همساً جدار الروح أسأله  
  عن العصافير ، في أرجوحة القصب
عن الصبايا ، يُطارحن الهوى قمراً  
  وروعة الدفء ، في أهزوجة اللعب
عن الشواهق ،والأطلال عابقة  
  برونقِ الشرق ، من أيقونة الشهب

إنها الروح التي تعبق بالدفء والانسانية ، تنضح عاطفةً متوهجة وأحاسيس رهيفة ، لهذا كانت تساؤلات الشاعر محمود موجعةً حين تهادتْ إلى الذاكرة..

ومن هذه التساؤلات الجوهرية ـ المصيرية ، السلام والحرية ( العصافير) الدفء والحب ( الصبايا والقمر) ، الأمجاد الغابرة ( الشواهق والأطلال ) ثم يوجه في نهاية قصيدته نداءً إلى الأمة العربية بأن تمدَّ جسور المجد والعلا قبل أن يفوت الأوان..

لقد انطلق من اسئلته إلى رحلةٍ كونيةٍ: غربةٌ تلو غربة ، مكانٌ تلو مكان وزمنٌ تلو زمن ..

لكأنه يحملُ هموم الأمة وقضاياها، هموم الانسان والواقع المرير.. وتمثَّلَ ذلك من خلال رؤاه التي تراكمتْ صور آلامها وتعمَّقَتْ جذور لوعتها فانثالتْ لتزيدَ من اتساع الفجوة بين الحلم والواقع، بين الأمس والحاضر...

ويقول في قصيدة " فرادى العصافير":

أطاردُ في السر ، أطياف سلمى  
  وفي الجهر مسكاً ، يضوع الخيام
أطوفُ على نجمة القطب ، ليلاً  
  وبالقرب مني تطوف الخيام

وفي قصيدة " ضجيج شمسٍ ولا ضوء يزنِّرها ":

" خريطة العيش ، ساعات مهمشةٌ
، وخلف رمش الكرى ، يستفحلُ الضجرُ"..

إنه الطواف على فلسطين الحبيبة الأغلى ( نجمة القطب) ، ومطاردة أطياف الأحبة سراً.. فالحنين الذي اختصرَ المسافة دفع الشاعر لابتكار زمنٍ توحَّدتْ فيه نبضاته وذكريات الأمس الملونة بالأحلام والآلام ، والهواجس.. فمنذ سنواتٍ طويلةٍ ، كان الفراق القسريُّ عن فلسطين الروح لكنها ما تزال حاضرةً في الذهن والنبض والذالكرة...

هاهو ينتظر لقائها بعد طول غياب ليضمَّها إلى صدره .. ليشهقَ شهقة الرحيل من إلى أقصى معارج الحب.

ويتساءل في قصيدة " حرائق الشجن":

" لمَ يا أصالة لوحة التذكار ن لم تأنس عطوركِ وردنا؟

.. ولمَ العناق ، وسادةٌ من جفوةٍ

، ألقتْ جواهرها بلا ألقٍ هنا؟"

" ... فصرختُ في وهج الدقائقِ ، من أنا ؟.."

وكان يا مكان ... أمسٌ يلوح من شرفة الذاكرة بعطره الأصيل الذي يحملُ نشوة العبق إلى مدارات اللقاء الأبهى..ذاك الأمس ( عطركِ) لم يأنس الحاضر ( وردنا) ما السبب في ذلك الاغتراب واللاألفة؟..

لكأنه يهمسُ معاتباً ليقولَ بأن الورد بشذاه ، بالمضمون/الجوهر، فالشكلُ لابدَّ ويتغيَّر أو يتلاشى ، بينما الجوهر خالداً يبقى...في الروح والمخيلة والحواس ..يراودها ، يتحرَّشُ بها من وقتٍ لآخرَ ، ليثيرَ زوبعة الموسيقا( من أنا؟) وجمالية الغناء المفقود في زمن القيامة ( وهج الدقائق)...

وفي قصيدة " روح القرنفل":

"هاتي يديْكِ قلادةً من زرقةٍ،

الموجُ طرَّزها، وزورقنا انعتق،

يتلمَّسُ الجدران في وطنٍ به،

من فرط ما جارَ الأقارب، من فِرق"...

الزرقة والموج والزورق، رموزٌ سحريةٌ، وامتدادٌ لحلمٍ كثيفٍ لا بد ويتحوَّل إلى رشيق الخفة( انعتق) حين تلبي الحبيبة نداء الشاعر وتمد يديها ( قلادةً) من زرقة الصحو الجميل..وينأيانِ معاً ، بعيداً عن المكان الذي جار عليه كلٌّ من الأهل والأقرباء..فكانت الغربة والتمزق فالضعف...

هاهو في قصيدة " عناقيد الغضب " يقول:

" أم أن أهل الكهف ، في استرخائهم،

يتبادلون مع الشياطين، النُخب........

ليلى على جمر الفراش، طريحة،

وأنا من العشاق قيسٌ، في حلب"

لقد استحضر الشاعر ( أهل الكهف) ليشيرَ إلى غرق واستغراق ثمة قوم يتبادلون أنخاب الذل والهوان مع الشيطان وبناته بينما (ليلى) الأمة العربية، الأرض العربية، القضية والقومية تحتضر ( على جمر الفراش) في لحظاتها الأخيرة... فهل من قيس أو معتصم؟..

إنها رؤى الشاعر محمود والتي نحَتَها بإزميل الألم ليسلِّطَ الضوء على حقيقة عمق المأساة وامتدادها في التاريخ والمكان والذاكرة الملدوغة بواقعٍ ينزفُ التمزق والفوضى على أرصفة الروح...

قصائد مجموعته كانت تذكيراً لنا قبل أن يبتلعنا النسيان بعدما التَهَمَهنا كلٌّ من الحلم والمكان والألم...

هكذا..يمرُّ الزمن بطيئاً ثقيلاً حين تتشظَّى ذات الشاعر فيكتب بنبضٍ مُبتَلى بكل الأزمنة وفلسفاتها وانفعالاتها وما خفيَ منها...
وما ( القرنفل ، الريح، القارب، الجمر، الحرائق، الطير، الزرقة...) إلا الوهج الذي يسكن الشاعر ، ويشعله قلَقاً فكان( نداء الجسد ) الواحد/ الوطن الذي تمثَّلَ بالرؤى والأمكنة والوقائع وكان ( أنين الروح) الوجدان الانساني الذي تمثَّلَ بالمخاوف والتوترات النفسية والقلق النازف من حنينٍ ووحشةٍ وغربة...

ربما في هذه المجموعة يكتشفُ القارىء حقيقة الألم الانساني قبل حلول الظلام أو الدخول في متاهات الغياب علَّه يداهمُ فراغه ليصلَ إلى الضفة المقابلة من الكون حيث وقف الشاعر محمود السعيد وأطلَّ من هناك على عمق الهوة ففضح لعبة خداع الألوان والأمكنة والمسافات المتشظية...

" قسِّم على وتر الجراح قصيدةً فيها تُصفِّقُ مفردات المقصلة"...

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى