الأربعاء ٢٣ شباط (فبراير) ٢٠٢٢
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

قراءة نقدية في كتاب «طريق السعادة» لعمر كمال اللوح

منْ ينعم النظر في كتاب (طريق السعادة) للأدب عمر كمال اللوح الصادر عن دار سمير منصور للطباعة والنشر والتوزيع بغزة، طبعة أولى، عام ٢٠٢١م، والذي يضم (٩٥) خمسة وتسعين نصاُ نثرياً جاءت في (١٤٤) صفحة من القطع المتوسط، سيكتشف أن الكاتب رسم فيها بالكلمات لوحاتٍ من النثر الفني، يشّعّ منها وهجٌ روحي صافٍ، وفي صدر كل لوحة أو خاطرة عنوانٌ يحمل مضمون كلّ لوحة، ويعبر هذا العنوان عن المضمون العام للخاطرة، وهو يتناسب وموضوع الخاطرة، والحالة النفسية فيها، وفي الكتاب دعوةٌ صريحة إلى التعامل مع الحياة ببساطة شديدة، والابتعاد عن التصنُّع؛ حتى يظل الإنسان قادراً على مواصلتها.

جاءت كل لوحة بمثابة خواطر مصبوبة في قوالب موجزة، تجسّد نسغ الحياة من حوله، وتجسم واقعه المعيش، وقد رسم فيها طرائق السعادة المتعددة والمتنوعة من منظاره الخاص. والكاتب عمر كمال اللوح من كُتّاب فلسطين الشباب، الذين يشكلون صوتاً أدبياً متميزاً ومتفرداً، وهو من الكتاب الذين اتخذوا من الأدب أداة ومتنفساً؛ ليعبروا من خلاله عن همومهم وتجاربهم الخاصة والعامة، وسلكوا الطرق الفنية التي يستعين بها الأدباء؛ لتوصيل تلك التجارب والرؤى إلى المتلقين.

وفي هذا الكتاب يتنقّل المؤلف في لوحاته بين مضامين فكرية متعددة، بيد أنّ المتلقي المتأمل يلمس أن تلك المضامين تدور حول ثيمة رئيسة كلية يطمح الكاتب إلى أن يعبر عنها، وهي (الأمل) المنبثق عن الإيمان العميق بالله، واليقين به، يقول الكاتب في نص بعنوان: (الأمل): "عندما يكون الأمل مرتبطاً بالله- جل وعلا-، فكل ما يتمناه الإنسان سوف يتحقق، فقد لا تملك أي شيء، لكنك تعيش على الأمل، فيعطيك دافعاً قوياً لتتخطى الصعاب).

* الأمل يفتح الأفاق أمام ناظريك فيصبح الكون بين يديك" (طريق السعادة:٥٣ ).

تأتي الثيمات الثانوية في اللوحات؛ لترسخ القيم النبيلة في المجتمع الإنساني من حب صاف، وقيم عمل الخير والرحمة والحب والتعارف وغيرها. جاء في مقدمة الكتاب:

"إنّ هذا الكتاب هو خلاصة سبعة وعشرين عاماً نقصت من عمري، تسلط موضوعات الكتاب الضوء على جميع مناحي الحياة، وتنقل الواقع الذي عايشته ورأيته في حياتي، وما تعلمته من غيري … تعرفك موضوعات الكتاب على ماهية الحياة التي نعيشها بكل مصداقية وشفافية، لتأخذك إلى عالم المعرفة، وتعطيك شعوراً داخلياً بأنك إنسان يفعل الكثير لأجل الصلاح، بل إنك تستطيع أن تغير مجرى العالم بأسره من خلال فكرك النابع من أيمانك بربك"

(طريق السعادة ص :٦).

ويلحظ القارئ أنّ هذه اللوحات تشكل نافذة للمتلقين لسبر أغوار شخصية الكاتب، ويجد أنّ هذه القيم لم تأتِ متناثرة متفرقة؛ إنما وردت مترابطة متضامة كأنها حلقات متماسكة فيما بينها، يأخذ بعضها برقاب بعض، مرتبطة بالثيمة الأساسية وهي الأمل، فتوحي بذلك بالوحدة الفكرية والفنية وبالتماسك والتعاضد والترابط، يقول في النص الذي حمل عنوان الكتاب (طريق السعادة):

"ما أعزَّ الإنسان حينما يجود بفكره وعقيدته النابعة من إيمانه بالله، فتكون نفسه راضيةً مطمئنةً!!
وما أروعك أيها الإنسان عندما تضع محبة الله في قلبك، فتلهث الحياة خلفك، وما أجملك أيها الإنسان!
عندما تتصف بالإنسانية، تصبح أروع بطل في التاريخ.

واعلم أنك مهما فعلت فلن تستطيع أن تمتلك قلوب البشر؛ ولكن بحسن معاملتك تأخذ كل ما تريد، وإياك أن تحزن! لأنك موجود في المشفى، وغيرك يتمتع في خيرات الدنيا؛ بل يجب عليك أن تعلم أن الله أراد بك خيراً. وثق تماما أنه إذا كان الحب متعةً، فالوفاء راحةً، وعندما تثبتُ على مبدأٍ في شبابك، يحفظك الله في كبرك، وكلما وجدت نفسك تائهاً في ملذات الحياة، تذكر ظلمة القبر ووحشته"(طريق السعادة :٣٠).

ويبدو أن الغاية من وراء الدعوة إلى هذه القيم السامية تنحصر في كون الكاتب يحمل همومه الخاصة، وهموم مجتمعه، وأن هذه القيم آخذةٌ في الزوال والذوبان، وأن قيماً أخرى غير روحية لا تمت للمجتمع بصلة أخذت تحل محلها، فأدى ذلك إلى تصدُّع قيم المجتمع وبنيانه.

ولعل الكاتب من خلال كتابه يرغب في إبراز حرصه على توجيه المجتمع إلى تحقيق السعادة التي ينشدها عبر الطرق التي رسمها له.

ومن حيث البناء الفني للوحات فقد جاء بناء أغلبها متماسكاً مترابطاً، سلك الكاتب في بنائه تقنية فنية جعلت هذا البناء مترابطاً بحيث يبدأ بالحديث عن القيمة النبيلة بوضع عنوان لها، ثم يصنع لها تعريفاً من منظاره الخاص، يضعه بين قوسين كبيرين، دون أن ينقله عن غيره، فهو تعريفٍ موجز مكثف بأسلوب أدبي رصين، يقول في لوحة بعنوان (الحب):

"عندما نسعى جاهدين لزرع بذور الخير في أعماق الأرض ثم نجني ثمره ونهديه لمن حولنا بأصدق المشاعر ونقاء القلب، فذلك الحب! (طريق السعادة:57).

وهذه التعريفات في مجملها لا تعدو كونها خواطر لا تتمتع بعمق النظرة الفلسفية؛ وإنما هي مساحات رؤيوية تنثال على فكر الكاتب انثيال الماء من ينبوعه، فيها التأمل والتحليل والنظر في النفس البشرية، وهذا ما أتاح لها لوناً من الصدق الواقعي والصدق الفني معاً.

ويدرك المتلقي المتأمل أن شخصية المؤلف/ السارد تتجلى بوضوح في كثير من النصوص، فهي ذات أبعاد وتلوينات متعددة: فهو مرة يلبس ثوب الزاهد الصوفي، وأحيانا أخرى تسري في عروق عباراته روح الحكيم الواعظ، والفقيه القاضي، والعالم الذكي، فروح الزاهد الحكيم لا تفارق نصوصه، يقول عن سمة القناعة، وهى من أبرز سمات الزهاد ومعالم شخصياتهم، يقول في لوحة بعنوان: (القناعة):

"القناعة هي راحة الإنسان، فإذا امتلك القناعة أصبحت الدنيا لا تساوي عنده أي معيار فلذلك تجده دائماً اني مرتاحاً لكافة الأحداث التي تدور حوله).

*الحياة نظرة فإذا امتلأ النصف الآخر من الكأس. *الشيء الذي لا تقتنع به لا تفعله *عندما تتباكى على الخسارة، فتذكر الريح والنعم التي أنت فيها( طريق السعادة: ٩٦).

ومفهوم هذه اللوحة قريب من قول الزاهد الأندلسي ابن محرز البلنسي الذي يرى أن العبد القانع الصابر هو أغنى الناس؛ لأنه متيقن من أن الأرزاق مقسومة، ولا حيلة في تغيير ما خطته الأقدار يقول في أبيات منها:

اقنعْ بما أوتيــته تنل الغنى
وإذا دهتك ملمةٌ فتصبرِ
واعلمْ بأن الرزقَ مقسومٌ فلو
رُمنا زيــــــادَةَ ذرةٍ لم نقدرِ

وتبرز شخصية الحكيم في ثنايا الكتاب واضحة جلية، إذ تتبدى أبعاد شخصيته وهو يقدم النصائح والإرشادات والوصايا للقارئين، يقول في لوحة بعنوان محطات متنوعة ينبئ عن مقصده: (هي عبارة عن مجموعة من الحكم المتنوعة…) ومنها:

*تأمل في ذاتك، تنعم بحياتك.

*عندما يخيب الظن بربك، فاسأل نفسك لماذا تعيش؟!

*الهدية قبولها واجب، وردها إساءة.

(طريق السعادة : ١٤٠).

وقد صيغت هذه الحكم بأسلوب سهل مكثف وجمل قصيرة تتكئ على أسلوب الشرط، يقول الكاتب في لوحة (أساس المحبة):

* ازرع الابتسامة... تحصد السعادة.
* ابنِ أساس المودة... تكسب الصداقة.
*انشر الأخلاق... تشعر بالراحة.
*ابتعدْ عن الحسد... تكسب الطمأنينة.
*ارضَِ بالقضاء... تعش حياة هانئة. (طريق السعادة : ٤٦).

تتجلى في هذه النصائح والوصايا التي صيغت في عبارات محكمة شخصيةُ الحكيم الذي يصدر عن تجارب إنسانية عميقة وصادقة.

لم تأتِ هذه اللوحات جافة بلا رواء أو ماء تحتها؛ وإنما استعان الكاتب في نقل تجاربه الذاتية والعامة بآليات ووسائل وأساليب فنية وسبل جمالية بلاغية؛ لتوصيل هذه المضامين الفكرية.

ومن اللافت للنظر في سمات هذه الخواطر واللوحات؛ أمورٌ فارقة أخرى، وأول هذه السمات: اللغة الفنية التي جاءت بسيطة سهلة، ولكنها غير مبسطة، لغة مكثفة موجزة، لا غموض فيها ولا تكلف ولا تعمية، ولا صعوبة تحتاج إلى تفسير دلالاتها إلى معاجم اللغة؛ ولتأكيد هذه المضامين في ذهن المتلقي وظّف الكاتب تقنية التكرار، فضلاً عن رغبته في توليد الإيقاع النغمي، يقول في لوحة بعنوان (تسعد فعلها) مستثمراً تقنية التكرار:

*عندما ترسم البسمة على وجه المهموم، فأنت إنسان عظيم.
* عندها تقدم أسمى ما تملك، فأنت إنسان معطاء.
* عندما تصافح من أساء إليك، فأنت إنسان نموذج للخلق.
*عندما تسير بين الناس بأخلاقك، فأنت إنسان قدوة للآخرين.
*عندما لا تؤذي أحدا، فأنت إنسان رائع.
*عندما تحترم جارك، فأنت إنسان محبوب.
*عندما تنظر المظلوم، فأنت إنسان صاحب نخوة". (طريق السعادة: ٢٣).

ويكتشف المتلقي في أثناء قراءته للكتاب لغة اللوحات التركيبية الانزياحية، وبعدها الدلالي والجمالي الذي يُضيء فضاءات النصِّوص الأدبية، ويعكس ظلال روحها الموضوعية والفنية: بناءً ولغةً طيِّعة معبِّرةً عن معطيات الواقع الراهن المعيش.

وقد دأب الكاتب على التنويع في أساليب صياغته اللغوية، فراوح بين الأساليب الخبرية والإنشائية في اللوحة الواحدة؛ بقصد إحداث نوع من التنويعات اللغوية؛ ورغبة في إحداث الإحساس بالدهشة والمفاجأة واللاتوقع. يقول في لوحة بعنوان (الحب):

*رونق الحب يتزين بصدق المشاعر. *
ما أحلى الحب عندما يترجم لواقع عملي في الحياة!!
* كن على يقين أن الله لا يحبك إلا إذا داومت على طاعته.. *
* من أي حب أنت؟! ... قد تعشق شخصا لجمال مظهره، وقد يعجبك شخص لطيب قلبه، وقد تحب إنساناً لسمو أخلاقه، وقد ترتاح لشخص لثقتك به) "(طريق السعادة:59).

جنح الكاتب لتكثيف الجمل واختزالها، وقد استعان في ذلك بالمحسنات البديعية من طباق وجناس وسجع؛ لتوليد النغمات الإيقاعية، وترسيخ المعاني في الذهن، يقول في لوحة بعنوان (هكذا تعلمت).

*الكبرُ مذلة، والتواضع عزة ومحبة.
* الإحباط تعاسة، والأمل سعادة.
*الصدقُ راحة، والكذب وقاحة.
*قراءة القرآن متعة، والبعد عنه ضياع.
العمل يصنع الحيوية والنشاط، والكسل يورث الإهانة والإحباط.
*الفكرة النبيلة تنمو وتنتشر، والخبيثة تضمحل وتندثر.
*الوفاء روعة، والخيانة لعنة.
* الأنانية تصنع العبودية، والحب يصنع الحرية (طريق السعادة:٩).
يدرك المتلقي أن الكاتب استعان في بناء لوحاته بالبنية السردية، إذ يلتقي القارئ إشارات من الحكايات السردية، وعبارات وظف فيها الإمكانات السردية الفنية من وصف وسرد وحوار.

ولما كان أسلوب الخواطر يعتمد أساساً على السرد المطلق المقيد بالذات، فقد تجاوز الكاتب ذلك إلى الحوار فوظف المناجاة، إذ نحتَ من خياله شخصاً آخر صديقاً له يستحضره ويناجيه ويحاوره، يقول في خاطرة بعنوان (ليعود الأمل):

"وهكذا يجب أن تكون صديقي، تندفعُ نحو الحياة؛ لتعيشَ دواليبها؛ حتى تحققَ طموحك، وتنسى اللحظات الأليمة التي عشتها.

واعلم يا صديقي، أنَّ استحضار معاناة الآخرين تكون في كثير من الأحيان دافعاً قوياً للاستمرار في تحدي الصعاب" (طريق السعادة: ٢٢).

ولا تخلو تلك اللوحات من التعبيرات غير المباشرة التي تتسم باستخدام الصور المجازية، ولغة الاستعارات والكنايات، والمشاهد التصويرية التي ترسم مناظر متكاملة، يقول في رسمه لوحة تصويرية للسعادة في مشهد تصويري في خاطرة بعنوان (قمة السعادة):

"ما أجمل السعادة! وما أروعها! وما أحل لحظاتها! تلك السعادة التي تتجدد وتتعدد؛ ولكن متعتها تزدهر في دنيانا وآخرتنا، بلا فناء، كالشجرة نزرع غرسها بيدنا، ويبقى الآلاف من بعدنا يتلذذون بشارها، فتبقى صدقةً لنا، فنجني الخير الذي هو عنوانُ السعادة الباقي بلا اندثار" (طريق السعادة : ١٥).

ومن السمات الأسلوبية في هذا الكتاب؛ توظيف المرجعياتُ الثقافية لاسيما الدينية منها: الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، الشريفة، والأبيات الشعرية. وقد جاءت هذه المرجعيات مباشرة، منسجمة مع مضمون اللوحة، يقول الكاتب في لوحة بعنوان (كن مع الله) مخاطباً المتلقي:

"عندما تسلك طريق الدعوة إلى الله والإصلاح بين الناس، يكتمل اليقين بهذا المشهد القرآني في قوله تعالى: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (الشعراء: 2 6 ) (طريق السعادة: ١٠٤).

في النص القرآني السابق إشارةٌ إلى قول سيدنا موسى -عليه السلام- الذي عبر فيه عن يقين وصدق وثقة وحسن ظن بالله. وهذا اليقين الصادق من موسى- عليه السلام- ، كان سبباً في نجاته وقومه من بطش فرعون وملئه، وكأن الكاتب يريد أن يقول: فما أحوجنا في هذا الزمان إلي يقين وتوكل صادق!!

ومن اقتباساته من الحديث النبوي الشريف بالمعنى أي: بطريقة غير مباشر قوله في لوحة بعنوان (التربية):
"إنَّ التربية تقع بالأساس على عاتق الوالدين، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه سلم – أسوة حسنة في التربية من خلال تربيته الإيمانية للصحابة رضوان الله تعالى عليهم" (طريق السعادة : ٤٣ ).

يتضمن هذا النص تلميحاً إلى طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم- في تربية صحابته الكرام، لا سيما حينما كان يذكِّر المستضعفين الذين كانت قريش تتسلط عليهم بسبب إيمانهم، فيقوي من عزيمتهم بالقول بأن هذه الآلام وتلك العذابات ستزول قريباً بمجرد أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صبراً آل ياسر!، فإن موعدكم الجنة".

ومثل هذه الاقتباسات من نصوص القرآن الكريم أو غيره، تساهم في إحكام بناء الخاطرة، وتلخّص مغزاها وتدعمها، وتضفي عليها غنىً وثراءً، وتكسبها نقاءً وقداسة، وتعمق أفكار ، وتكشف عن ثقافته العميقة والواسعة بالمرجعيات الثقافية الإسلامية.

وأخيراً يمكن القول إن من حسنات هذا العمل – وهي متعددة – رؤية صاحبه الموسعة إلى سعادة الإنسان بحيث يشمل طرائق متعددة ومتنوعة تكفل للمجتمع الحياة الهانئة السعيدة.

هنيئًا للكاتب المبدع عمر كمال اللوح إبداعه، وهنيئًا للساحة الأدبية الفلسطينية به.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى