الأحد ٢٩ أيار (مايو) ٢٠٢٢
بقلم صباح بشير

قراءَة في المجموعة القصصية: «جدتي تفقد الحلم»

القصّة القصيرة فنّ تخيليّ وثيق الصلة بواقع ما، ووفقا لرؤية المبدع ونظرته، يجيب العمل القصصيّ على أسئلة المجتمع وقضاياه المطروحة - شأنه شأن أي نص أدبي آخر- وذلك لتلبية حاجات القرّاء الاجتماعية، فالكاتب الإنسان يحمل مشروعه الأدبيّ الفكري المعاصر، ويعمل على تشكيله، مرتبطا بمقاصده، ناقلا لأفكاره في عملية تخاطبية، سعيا لإدراكها وتحقّيقها.

في المجموعة القصصية "جدتي تفقد الحلم، وقصص أخرى" الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون(2018)، للكاتبة الفلسطينية د.نجمة خليل حبيب، نعثر على زُمرةٍ من القصص المنفصلة، التي حيكت بطابع مميز لطيف، وَوُضِعَت بين دفتي كتاب تَكوَّن من أربعة وخمسين نصًا، جُمعت في مئة واثنين وتسعين صفحة، افتُتح القسم الأول منها بقصة "جدتي تفقد الحلم"، ثم عرجت د. حبيب إلى القسم الثاني وهو بعنوان " ذاكرة عشوائية"، ثم إلى الثالث المُعنوّن "قصيرة جدا" وحتى الوصول أخيرا إلى القسم الرابع "وجدانيات".

تترك كل قصة أثرها في نفس القارئ فتلامس مشاعره، وفي القصة الرئيسية تساءلت الجدة عن فقدها للحلم أثناء نومها، إذ لم تعد تراه في مناماتها أبدا، تلك الجدة التي كانت تعيش مع أحلامها، تتماهى معها مرتبطة متأثرة بها، فتبكي أو تفرح تبعا لأحداث الحلم، وكأنه حقيقة واقعة.

دَوّنَت الجدة ذكرياتها معترفة على قصاصات ورقية صفراء ما اقترفته من حلم، قرأتها الحفيدة ذات مرّة بعد أن وجدتها مخبأة بين كنوز جدتها القليلة، وبعد القراءة حدّثت نفسها: مسكينة جدتي! عاشت أيامها الأخيرة في وحدة وبؤس قاتلين، ولم تعش طويلا بعد أن فقدت الحلم.

تأثرت بما قرأته فتباطأت خطواتها اللاهثة وراء أمور الحياة، راحت تستفيق صباحا وبدلا من أن تفكر بالمقالة التي ستكتبها أو بتلك الثرثرة التي ستنقلها لجاراتها أو بوجبة الطعام التي ستقوم بإعدّادها للعائلة، أصبحت تفكر بما تراه من أحلام، ولا يهنأ لها بال حتى تقف ذاكرتها عند أحد المنامات، وتتكشف لها صوَره، فترسم تفاصيله في خيالها وتتذكره! مع الوقت غدت مثل جدتها تعيش مناخ الحلم متأثرة بوقعه عليها، ويسكنها تأثيره في كل مكان.

كان هاجس الحلم مؤشرا هاما على بنية نصية حملت خصوصيتها، فتعددت الرؤى والرموز حتى مثّلت في تنوعها واختلاف مساراتها مشاهد ومضامين ذات دلالات وإيقاعات مختلفة، عُرضت للمتلقي في قالب أدبي شيّق ولوحات مشهديّة مكثفة، كانت في مُجملها متماسكة، لا مجال فيها لأي نتوءات أو ترهل، كما نستشعر المزج بين الماضي والحاضر، والقبض على مشاهد مختلفة من أماكن كثر.

حملت هذه الباقة القصصية طابعها السرديّ الخاص، فظهر فيها الحلم بطلا رئيسيا فاعلا في بناء العمل، الذي تشكّلت فيه رغبات الشخوص البعيدة، التي لا تتحقق، وبهذا الاشتغال اتّضح التعبير الوظيفي للحلم، كتجربة شعورية كشفت عن عمليات اللاوعي للحالم، ودفعت به للوعي بتجاربه وصراعاته، ليعيش تجربة إنسانية كاملة.

أما اللغة فقد جاءت واضحة متسلسلة، وُظِّفَت لإنتاج صور فنية شيّقة، توافقت مع المضمون وأوحَت بالحيوية والتدفُق، تميزت بسهولة التعبير والوضوح وبُعدها عن التكلّف والفذلكة، التي تتعب القارئ وتثقله بتعبيراتها وإيماءاتها، وتميزت أيضا بالوصف الدقيق لكل ما جاء فيها، فمنحت المتلقي قدرة على تخيّل المُجريات والتفاعل معها.

وبما يخصّ العنوان "جدتي تفقد الحلم" فعند قراءته يتبادر إلى الذهن تلك الدلالة التي يشير إليها، إذ يوحي في مظهره إلى موضوع إنساني بسيط، وبالتمعن فيه يبدو للقارئ أكثر عمقا مما يتخيّل، فهو يحمل دعوة للتمسك بالأمل والتشبث بالحلم، وكأنه يقول: "ضاع من فقد حلمه".

من هنا كان الوطن حاضرا بين السطور متجليا نابضا بين قصة وأخرى، وبنكهة فلسطينية تحمل بين ثناياها الألم والأمل في انتظار الحلم، ظهر حلم العودة بين الفينة والأخرى رمزيا غير مباشر، معززا للحدث سائرا باتجاهه، مثيرا للصورة تاركا إياها لتكتمل، وذلك بعد تفعيل ذهن المتلقي، والاعتماد على أسلوب يقارب الأسلوب الروائي. وهكذا تَوَّج العنوان متن القصة وأجزائها، فَشَدّ عناصرها وجَسّد فكرتها وأحكَم بنيتها.

وعن الباقة القصصية الثانية، فهي بحسب ما جاء في الكتاب: "ذاكرة عشوائية ومزج غير بريء بين السّيري والمتخيل"، فقد انتقت المؤلفة ما راق لها من تجارب الحياة ودمجتها بفن القصّ في هذا القسم، مستعيدة زمن النهوض الفلسطيني الأدبي مع الشاعر الكبير محمود درويش، وفي عالم السياسة مع الرئيس الفلسطيني السابق أبو عمار، ثم استذكرت حرب المليشيات واجتياح بيروت، الانقسام الفلسطيني، مرحلة أوسلو وغيرها. وفي الباقة الثالثة "قصص قصيرة جداً" فنقرأ عن شخصيات حقيقية وخيالية منها: غسان كنفاني، سعيد أبي النحس "المتشائل"، وغيرهم. وفي الباقة الرابعة أخيرا، نقرأ القصة القصيدة بعنوان "وجدانيات".

وبالإشارة إلى الإهداء فقد كتبت المؤلفة: "إلى كل أب لم يجرفه تيار الانحطاط، ولم يفقد الحلم بعودة هذه الأمة إلى التاريخ".

فأن يخسر الإنسان حلمه فهذا يعني فقده للأمل، وأن يعيش بلا أمل فتلك وجهة نحو الموت المعنويّ، النهاية والخسارة، ولطالما أنت تحلم، إذن فأنت حي.

ملاحظة لا بدّ منها، فقد لفت انتباهي وجود بعض الأخطاء المطبعية، التي كان من الممكن تلافيها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى