الأحد ١١ نيسان (أبريل) ٢٠٢١
بقلم محمد زكريا توفيق

قصة الولايات المتحدة (٠٤)

مينويت يشتري مانهاتن من الشينكوك

في عشرينات القرن السابع عشر، مستوطنون من هولندا أسسوا مستعمرة أسموها "هولندا الجديدة" على طول ضفاف نهر هدسون. في بداية النهر، تقع جزيرة مانهاتن، وهي حي من أحياء نيويورك حاليا. قبيلة شينكوك، من الهنود الحمر، كانت تستخدم الجزيرة لزوم صيد الحيوانات والأسماك، لكنهم لم يكونوا يعيشون عليها.

في عام 1626، قام بيتر مينويت، أول حاكم لمستعمرة هولندا الجديدة، بشراء جزيرة مانهاتن بكاملها بما عليها من أشجار وحيوانات وبما فيها من أسماك، وما في باطنها من معادن، من الشينكوك مقابل شوية ملابس قديمة وخرز ومرايات وأشياء أخرى، لا يزيد مجموع ثمنها عن 24 دولارا. يا بلاش. الآن في الأحياء الراقية بمنهاتن، بارك أفنيو على سبيل المثال، بيعت أحد الشقق بمبلغ 67 مليون دولار. لكن دي يا عم أرزاق مقسمها الخلاق.

لا يمكننا أن نلوم الشينكوك على ذلك، فهم مثل غيرهم من الهنود الحمر، يعتقدون أن الأرض هي ملك لكل الناس. كانوا يعتقدون أنهم يبيعون حق انتفاع. حق الصيد ومشاركة الاستفادة بالجزيرة معهم. لكن الهولنديون ماكرين، مثل باقي الأوروبيين، كانوا يعنون أن بيع يعني بيع، بتاعتي وحدي.

هذا هو الفرق بين ثقافتين. ولكي نفهم ثقافة الهنود الحمر، تعالوا معي نتأمل في كلمة زعيمهم سيتل عندما أجبره المستوطنون ببيع 2 مليون فدان بمبلغ 150 ألف دولار. لعظمة هذا الرجل، أطلق اسمه فيما بعد على مدينة سيتل في ولاية واشنطن:

"كيف تطالبوننا ببيع زرقة السماء ودفئ الأرض؟ الفكرة غريبة علينا. إذا كنا لا نملك عبير الهواء وخرير الماء، فكيف نبيعهما لكم؟ كل حبة رمل من هذه الأرض عزيزة على قلوبنا. كل غصن يميل مع النسيم، وكل زهرة وكل فراشة وكل قطرة ندى، هي شيء مقدس عندنا. هذه الأشجار تحمل ذكرى آبائنا وأجدادنا.

أرواح موتاكم تصعد إلى السماء وتترك الأرض وتنسى كل شيء، لكن أرواح موتانا لا تترك أو تنسى هذه الأرض الجميلة أبدا. لأنها أمنا. كيف ينسى الإنسان أمه؟ نحن جزء من الأرض، وهي جزء منا. عبير الزهور وخرير المياه في الغدير وتغريد الطيور، هي إخوة لنا. الصخور والصقور كلها أفراد في عائلة واحدة.

إننا نعلم أن الرجل الأبيض لا يفهم أسلوبنا في الحياة. فكل الأرض لديه سواء. لأنه غريب يأتي ليأخذ كل ما يطلب من الأرض. الأرض لديه عدو، يهزمها وينتصر عليها. يعامل أمه الأرض وأخته السماء كأشياء تباع وتشترى. إلى أن تبتلع شهوته الأرض وما عليها. ويحولها إلى صحراء جرداء قاحلة.

منظر مدنكم يؤذي عيوننا. ليس فيها مكان هادئ لسماع حفيف الأوراق أو رفرفة أجنحة الفراشات. لكننا نحب سماع تغريد البلابل وموسيقى الكون. يعزفها النسيم على سطح البحيرات. نفضل استنشاق الهواء العذب بعد المطر. فالهواء لدينا شيء مقدس، هو ملك لكل الكائنات. ملك للحيوان والأشجار والإنسان."

انتهى هنا الخطاب الرائع لزعيم الهنود الحمر.

هذه الثقافة المختلفة حول ملكية الأراضي، كانت السبب الرئيسي للصراع بين الأوروبيين والهنود الحمر لسنوات عديدة. أسعار بيع الأراضي والجزر غير العادلة أصبحت مضربا للأمثال ومجالا للتندر والفكاهة والسخافات، تتحدث بها الركبان. بيع جزيرة منهاتن بمبلغ 24 دولارا، لا يمكن أن يفسر إلا بأنه عملية سرقة وسطو، دخل التاريخ الأمريكي وأصبح ملكا للفلكلور الشعبي. يدل على الظلم الذي تعرضت له هذه الشعوب العظيمة. لقد عاشرت منهم أناسا وعملت معهم، أصلهم من الهنود الحمر، فلم أجد أذكى أو أكرم أو أنبل منهم أحدا.

الحياة الاستعمارية في أمريكا

بحلول عام 1733، كان الإنجليز يملكون ثلاثة عشر مستعمرة منفصلة على ساحل الأطلسي. المستعمرات امتدت من نيو هامبشير في الشمال إلى جورجيا في الجنوب. يمكن تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات. كل مجموعة، لها أسلوبها في الحياة مختلف.

في أقصى الشمال كانت مجموعة نيو إنجلاند تتمركز في ماساتشوستس. منذ وقت المستوطنين الحجاج، كان سكان نيو إنجلاند ينتشرون في داخل البلاد وعلى شواطئها. معظمهم كانوا أعدادا صغيرة من المزارعين والحرفيين، يعالجون التربة الصخرية ويحكمون أنفسهم داخل المدن والقرى.

آخرون، في نيو إنجلاند، كانوا يعتمدون في معيشتهم على البحر. يقطعون أشجار غابات المنطقة، لبناء المراكب لصيد السمك، أو للتجارة مع إنجلترا أو جزر الهند الغربية. بوسطن وغيرها من الموانئ، دبت فيها الحياة وازدهرت بها التجارة.

أقرب المستعمرات إلى الجنوب من نيو إنجلاند، كانت تسمى المستعمرات الوسطى. أكبرها مستعمرتي نيويورك وبنسلفانيا. وكما هو الحال في نيو إنجلاند، معظم المستوطنين كانوا يعملون بالزراعة. لكن في نيويورك وفيلاديلفيا، كان هناك تنامي حرفي، وتزايد عدد التجار. فيلاديلفيا هي عاصمة ولاية بنسلفانيا. في عام 1770، كانت هي أكبر مدينة في أمريكا. وكان تعدادها في ذلك الوقت، يربو على 28 ألف نسمة.

في 1760، معظم الأمريكيين كانوا فلاحين. لكن المدن الكبيرة كانت تنمو باضطراد. سكانها كانوا يتعايشون من التجارة والصناعات الخفيفة والأعمال الحرفية. زائر إنجليزي كان يعجب من السرعة التي تنمو بها فيلاديلفيا. "لقد مرت 100 عام بعد قطع أول شجرة مكانها"، كتب يقول، "الآن بها أكثر من 36 ألف منزل."

حجم فيلادلفيا لم يكن الشيء الوحيد الذي يعجب الزوار. قبل معظم المدن الإنجليزية بوقت طويل، كانت شوارعها ممهدة ومرصوفة بالحجارة، تضاء بالفوانيس أثناء الليل. وعندما يتلألأ القمر في كبد السماء، كانوا يطفئون المصابيح، لأنهم لا يؤمنون بالإسراف.

المدن التالية لفيلادلفيا في عدد السكان، هي نيويورك وبوسطن، 25000 نسمة تعداد كل منهما. المدن الكبرى الثلاث، ازدهرت بسبب تجارتها عبر الأطلسي مع إنجلترا. سفنها كانت تصدر الفراء والأخشاب والتبغ والقطن. ثم تستورد وهي عائدة، الملابس والأثاث وغيرها من السلع المصنعة.

ساعدت هذه التجارة الداخلية بين البلدان الأمريكية على تنامي شعور بين المدن، وهو أنهم ينتمون جميعا إلى نفس الأمة.

كان سكان المستعمرات الوسطى عادة أكثر تسامحا بالنسبة للخلافات الدينية وغيرها، من سكان نيو إنجلاند. وكان العديد منهم من أصول ألمانية أو هولندية أو سويسرية.

مستعمرتي فرجينيا الجنوبيتان، كارولينا وجورجيا تكونان المجموعة الثالثة. في وديان أنهارهما الخصبة، أقام الأثرياء مزارعهم الكبيرة. كانوا يعيشون في قصور فارهة بشرفات كبيرة، يطلون منها على أراضيهم المزروعة بالتبغ أو القطن. معظم من يقوم بالزراعة هم العبيد السود. ازدهار الزراعة في الجنوب كان يعتمد عليهم. أما باقي المستعمرات فنادرا ما تجد فيها العبيد.

قصور أصحاب المزارع الجنوبية كانت مليئة بالأثاث الفاخر باهظ الثمن. بالقرب من تلك القصور، نجد بيوتا أصغر وأبسط. ثم اسطبلات. نجد أيضا أماكن للحدادة، ومحلات تجارية وأكواخ صغيرة يعيش فيها العبيد السود. بالقرب من مثل تلك المزارع، تجد دائما نهرا يتدفق. على إحدى ضفتيه رصيف لتحميل السفن المتوجهة إلى إنجلترا والمحملة بالمحاصيل.

في كل مجموعات المستعمرات الثلاث، كان يعيش معظم الناس 50 ميلا أو أقل من الساحل. يتنقلون بالمراكب مع أنهار مثل جيمس وهدسون، ويقطعون الأشجار لكي يقيموا مكانها مزارعهم على الشاطئين.

بعد عام 1733 بخمسين سنة، بدأ المستوطنون ينتقلون إلى أعماق القارة. اتجهوا غربا إلى وسط بنسلفانيا. يقطعون الأشجار هناك ويقيمون المزارع. وينتشرون غرب فرجينيا وكارولينا وجورجيا وهم يتبعون الأنهار. كما أنهم انتشروا شمالا عبر نهر موهوك بنيويورك.

يقيمون المستعمرات الجديدة بنفس الطريقة. أولا يقطعون الأشجار. ثم يصنعون منها ألواحا وأعمدة خشبية. يبنون بها بيوتا وأكواخا. بعد ذلك، يحرثون الأرض بين جذوع الأشجار المقطوعة. ثم يلقون بذورهم. بعد أربعة شهور يحصدون القمح أو الذرة.

إذا كانت الأرض خصبة، يعيش المستوطنون عيشة هنية. أما إذا كانت التربة صخرية، أو لا تصلح للزراعة، فالحياة تكون صعبة ومخيبة للآمال. لذلك من يكتشف منهم أن أرضه فقيرة التربة، يترك المزرعة برمتها ويتجه عربا عله يجد أرضا أحسن منها في الزراعة.

أثناء انتقاله غربا، يمر بمزارع وقري صغيرة. ويظل كذلك إلى أن يصل إلى أماكن ليس بها مستوطنين على الإطلاق. بل هنود حمر ليس إلا. هذه هي حدود المستوطنين الأوروبيين، أو كما تسمى "الحدود".

موجات جديدة من المستوطنين دفعت الحدود باطراد غربا في بحثهم عن التربة الخصبة. كانوا يجدون في الغالب أراض غير صالحة للزراعة. لذلك نجد المزارع والقرى القريبة من الحدود، غالبا ما تكون معزولة تفصلها أميال عن بعضها. العائلة عليها السفر على عربة كارو تجرها الثيران لمدة أيام لكي تزور أقرب عائلة لها.

لذلك، مستوطني الحدود، عليهم الاعتماد على أنفسهم في كل كبيرة وصغيرة. يجب أن ينتجوا ما يحتاجونه من طعام، ويبنون بأنفسهم مساكنهم. كما يجب عليهم صنع ملابسهم وآلاتهم. هذه الظروف، جعلت لهم موسيقاهم وفنونهم ووسائل ترفيه خاصة بهم، وأسلوب عبادة يختلف عن غيرهم.

طريقة الحياة هذه لمستوطني الحدود، جعلت لهم روح خاصة وشخصية مميزة. الشخص منهم، رجل أو امرأة، تجده شديد المراس، مستقل، واثق ومعتمد على نفسه. مع ذلك، يحتاج إلى العمل الجماعي في تمهيد الأرض للزراعة وبناء المنازل والأكواخ. هذه العوامل مجتمعة، جعلتهم يؤمنون بالمساواة، فلا أحد على رأسه ريشة، ولا يجب أن يستثنى أو يتميز عن الآخرين.

هذا الأسلوب في الحياة، ساعد على انتشار الأفكار الديموقراطية بأمريكا. الرجل الأمريكي اليوم، يعتقد أن أفضل القيم والمواقف التي تتسم بها الولايات المتحدة حاليا، يرجع أصلها إلى أسلافهم الرواد مستوطني الحدود الأمريكان.

في الستينات من القرن الثامن عشر، المستوطنون الأمريكان العطشى لتملك الأراضي، عندما توجهوا غربا، أوقفتهم سلسلة جبال الأبلاش. هذه الجبال المكتظة بالغابات، تمتد مئات الأميال بمحاذات ساحل الأطلسي لأمريكا الشمالية.

عندما وصل المستوطنون إلى سفوح جبال الأبلاش، وجدوا شلالات تعترض الأنهار التي كانوا يتبعونها غربا. في عام 1775، قاد صياد ومستكشف يدعى دانيال بون، مجموعة من المستوطنين إلى الجبال. قال بون إن الله قد اختاره لكي يعمّر البرية. أخذ معه 30 رجلا بالبلط والفؤوس، وقاموا بقطع الأشجار وعمل ممر أسماه "طريق البرية" في غابات جبل كمبرلاند.

وراء ممر كمبرلاند، تكمن مراع غنية. في السنوات التي تلت ذلك، آلاف المستوطنين، عبروا الممر بخيولهم وعرباتهم الكارو لكي يستقروا في هذه المراعي والأراضي الخصبة. هم يكونون الآن ولايتي كينتاكي وتينسي.

المحافظون والجمعيات

في كل المستعمرات الإنجليزية في أمريكا، ممثلون عن المستوطنين يشاركون الحكومة في الحكم. هذا يعني أن الناس لها رأي في الطريقة التي تحكم بها. كل مستعمرة، لها حكومتها. رئيس الحكومة هو المحافظ. يعين في الغالب بقرار ملكي. ولكي يحكم المحافظ بطريقة فعالة، عليه التعاون مع المجلس المنتخب من سكان المستعمرة.

في معظم المستعمرات، الرجال البيض الذين يملكون بعض الأراضي، هم من لهم الحق في التصويت فقط. ولأن الكثير من المستوطنين كانوا يمتلكون أراض، هذا يعني أن الكثير من الناس كان لهم الحق في التصويت في أمريكا، أكثر من إنجلترا نفسها، أو أي بلد أوروبية في ذلك الوقت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى