الأحد ١١ تموز (يوليو) ٢٠٢١
يوتوبيا ناقصة
بقلم مكرم رشيد الطالباني

قصة كوردية

لقد مللتَ من هذه الحياة، لم تزلْ تشتغل منذ ثلاثين عاماً طوال الليل والنهار، ولن تستريح سوى أيام الجمعة، غير أن زوجتكَ تجبرك في يوم إستراحتك هذا لزيارة المتنزهات ومن ثم دخول أحد الأسواق المركزية التي لن تغلق ابوابها أمام المشترين والمترددين عليها من الأغنياء والميسورين إلاّ بعد ساعة أو ساعتين بعد منتصف الليل حيث تقوم تلك الأسواق المركزية بإبتزازهم بفرض أسعار خيالية دون أن يشعر هؤلاء بذلك ولن يعيروا ذلك إنتباهاً ويدفعون فاتوراتهم ليحصلوا على السلع المتنوعة ذات النوعية الرديئة ليسعدوا لفترة قصيرة.

تفكر في ترك هذه الحياة التي تعيشها هنا لتتمتع ببقية عمرك في سعادة ولا تحرم من الحياة السائدة هناك. ما هذه الحياة التي تعيشها هنا، حياة من دون كهرباء دائم وشوارع مبلطة ومجاري متقدمة، فهل الحياة هي أن تعمل لشهر كامل لكي تشتري بما تقاضيه (كيساً) من الطحين!! وهل تلك الحياة هي أن تكون موظف دولة لمدة ثلاثين عاماً دون أن تستطيع توفير شيء سوى تأمين المأكل والملبس ودون أن توفر لنفسك مبلغاً من المال لتستريح وتنقذ أطفالك من الفاقة والعوز والحاجة. ومن ثم فإنك لم ترَ الحياة بما ترغب وتشتهي، ولم تقض يوماً في حياتك دون هموم ومعاناة ونكد. لذا فإنك لا تستطيع تحمل هذه الهموم. لقد قررت مع نفسك ترك هذه البلاد، ترك أسرتك وأطفالك، ترك تراب وطنك وهواءه وطبيعته. فلم ينفعوك في شيء، إنك ناقة تحمل عبئك على كتفيك، فقد إعتمدت على نفسك، وتعتمد على نفسكَ، لقد أتعبكَ هذا الإعتماد على النفس. ليست لديك رغبة في مواصلة هذا النوع من العيش. إنك في حاجة إلى تغيير نمط حياتك. تغيير الوضع والطقس والسلوك وحتى أعماقك ووضعك النفسي، بحيث يتخذ شكلاً ونمطاً جديداً. لقد أتخذتَ قرارك ولن تتراجع عنه، لقد مللتَ وضجرتَ، لم تكن حياةٌ تلك التي قضيتها. ففي سنوات الحصار المزدوج ضعفَ بصركَ، وكنتَ تضعف وتصاب بالهزال بمرور الأعوام. وكنتَ لا تلحق في تلك الأعوام إلا بشراء الطحين والسكر والشاي بما تتقاضاه شهرياً. وكنتَ لا تتناول في الشهر ولو مرةً قطعةَ لحمٍ مشويٍ أو مطبوخٍ. وكان بصركَ يضعفُ وكنتَ لا تستطيع قراءة سطور الصحف. ومن ثم فقد داهمتك الهموم جراء الأوضاع السائدة، ولم يكن ليمرّ يوم لتمزق ياختكَ جراء هذا النبأ أو ذلك التصريح وذلك الرّد وهذا التعقيب. ومن ثم جراء هؤلاء الأميين وأشباه المثقفين وأشباه الكتاب الذين ظهروا كما تظهر الكمأة في الربيع ليثيروا فوضى عارمة في الساحة الهادئة الأصيلة. وتلك الأطنان من الأوراق التي كانت تملأ بكلمات وجمل ركيكة وكل تلك المطبوعات والمجلات والصحف التي تملأ الشوارع بأغلفة ملونة مصقولة وتصرف في طبعها مبالغ طائلة من الميزانية ومن بينها مطبوعات لا يقرأها عدد من القراء يزيد عن عدد أصابع اليدين، لكنها تصر على الصدور لتخدع القراء بمانشيتات عريضة ومضامين فارغة.

وكانت معركة تلك الأقمشة الملونة تصيبكَ مقتلاً والتي بدأت منذ فترة تسود الأحياء والأسواق والمدن والقرى، حتى إنها بدأت تمزق عقول الناس وتشطرها إلى شطرين، وكل شطر بلون مغاير. لذا فقد أخترتَ من بين الألوان اللون الأبيض فقط، ذلك اللون الذي لم يختره أي طرف لنفسه، عداكَ، لأنك لو كنتَ تدري بأن أحداً قد أختاره لنفسه فإنك لم تكن لتشرع في إختياره.

ترى هل أن تفكيرك هذا سليم، ترى هل بإمكانك أن تقوم بتنفيذ قرارك هذا وإجتثاث جذورك نهائياً من بلدك هذا وتذهب دون أن تلتفتَ إلى الوراء وتعود. إنكَ على ثقة بأنك ستقوم بتنفيذ قرارك هذا. إنك شرعتَ تزدري هذه البلاد، إلى درجة تود أن تتركها اليوم قبل الغد، ولكن كيف؟ كيف تستطيع تحقيق حلمك الأرجواني هذا؟ كيف يمكنك تحقيق هذا الحلم المصيري بأيدي وجيوب فارغة لتستقر في يوتوبيا، أصبحتْ يوتابياً للكثيرين من البلدان الفقيرة والمعدمة، التي غدتْ علكة طيبة المذاق على ألسنة شباب بلدان العالم الثالث وأصبحوا لا يعيرون إهتماماً بالمحيطات والبحار والجبال الشاهقة والمواسم شديدة البرودة والقاسية للوصول إليها، حيث يضحي العديد منهم في سبيل تحقيق ذلك الحلم بأرواحهم ويعانون الأمرّين جراء طبيعة لا ترحم ومهربين فقدوا ضمائرهم وشرطة قساة القلوب وقوانين أعمى ليغرقوا تحت مياه المحيطات والبحار، أو يودعون في غياهب السجون المظلمة لتلك البلدان ليتم إعادتهم إلى البلدان التي عادوا منها.

لكنك لن ترضَ أن تسلم مصيرك كهؤلاء إلى أيدي مهربين وأدلاء ومرشدين فقدوا ضمائرهم، سترشد نفسكَ بنفسكَ وتقرر مصيركَ بنفسكَ. لقد قررت بيع الدار المتهدمة التي تعيشون فيها منذ سنين وقد بنيت جدرانها بشق الأنفس لتجعل منها مستقراً آمناً لكم، أن تبيع تلك الدار ببضع مئات من الاوراق الخضراء لتترك بعضها لأسرتك وتتوجه إلى بلاد الغرب. راجعت اليوم مكتب بيع وشراء العقارات وأتفقتَ مع أحد السماسرة ليسهل لك عملية بيع دارك. وكنتَ تفكر أنه لو قمت ببيع دارك ولم تصل إلى الجهة التي تروم التوجه إليها فإنك ستفقد كل شيء ولن تستطيع الوقوف ثانية على قدميك وستقع كارثة كبرى فماذا تفعل وقتها؟

ولم يمض أسبوعان حتى بعتَ دارك ببضع مئات من الأوراق الخضراء (العملة الامريكية فئة مائة دولار)، وكنتَ قد بعتَ قبل ذلك عربتك القديمة، لتؤجر بعد مضي ثلاثة أشهر داراً لأسرتكَ، وكنتَ تعمل بين حين وآخر وتستفسر من أصدقائك ومعارفك وزملائك وتبحث عن أفضل الطرق للوصول إلى جنة أحلامك. وكنتَ تحلم بتلك الأحلام في طفولتك ولم تتحقق أحلامك حتى الآن كما كنتَ تود لها. وكان أفضل الحلول هو أن يقوم أحد أصدقائك في الخارج بدعوتكَ وتقطع ذلك الطريق بحجة الزيارة بكل سهولة وتنأى بنفسك عن مهربين بلا ضمائر وأفراد المافيا قساة القلوب. فإتصلتَ بأحد زملائك القدامى، وكان قد أستقر منذ فترة في أمستردام طالباً منه أن يمد إليكَ يد المساعدة إن أستطاع ذلك، وكان هدفك الوحيد أن تصل إلى تلك البلاد، عندها كنتَ ستتشبث بها دون أن يتمكن أحد من إبعادكَ عنها.

إنقضت فترة إنتظار مملة تمكن خلالها صديقك بالحصول على بطاقة لك بإسم أحد الأصدقاء في أوكرانيا وحصل على جواز سفر مزور من أحد المهربين لتعد ما تحتاجه إليه مع بعض الزملاء لتستقلوا عربة للأجرة وتتجهوا إلى الحدود صباح اليوم التالي. وكنتَ عند الحدود قلقاً وخائفاً ولم يكتشف موظفو نقطة التفتيش عند الحدود أمر جواز سفرك المزور. ولم تعرف الأسباب ولا حسن الحظ الذي ساعدك في عدم كشف جواز سفرك المزور، فهل يعود ذلك إلى مهارة ذلك المهرب الذي قام بتزوير جواز سفركَ بحيث لم يتم إكتشافه من قبل أية أجهزة إلكترونية أو أجهزة الكومبيوتر. لقد أستفدت من جواز السفر لتتوجه مع المسافرين الآخرين إلى أنقرة فشاهدت المدن والقرى التي لم تكن لتختلف من الناحية الجغرافية والأثنية عن بلدك، لكنك كلما كنتَ تقترب من أنقرة كنتَ تشعر بمزيد من التباين والإختلاف، وكنتَ تشعر بأنك في وسط أوربا، شوارع نظيفة وبنايات شاهقة ومشاهد حضارية للمرافق العامة والحدائق العامة والفنادق والمطاعم وكانت تختلف حتى عن مدن البلدان المجاورة وليس فقط مع مدن وبلدات وطنك. وكنتَ تشفق على شعبك وقوميتك كيف بهم وهم يرزحون لقرون طويلة تحت نير الإحتلال والجهل والأمية والتأخر وهم بعيدون عن الحضارة والحداثة.

نزلتما في غرفة بفندق عصري حديث فائق النظافة، لتأخذا قيلولة ما بعد ظهر ذلك اليوم. لتنهضا قبل غروب الشمس وترتديا ثيابكما هابطين نحو الأسواق والشوارع التي لا تعرف الليل والنهار، وكنتما تسيران على الأرصفة وتتطلعان إلى المحال التجارية والحوانيت والمقاهي والأسواق المركزية وتدخلان إلى محل لتخرجا منه لتدخلا إلى محل ثان وثالث، ولم تكنا بحاجة لشراء أي شيء وكنتما تواصلان رحلتكما من أجل الإطلاع على السلع ومقارنة الأسعار ليس إلاّ. وبعد أن أدرككما التعب دلفتما إلى أحد المطاعم لتتناولا عشاءً فاخراً لذيذاً.

ومن ثم عرجتما على مقهى لترتشفان أستكانين من الشاي، وكان الزحام على أشده في المقهى جراء عدد المرتادين، وكان من بينهم من يدخن الشيشة ومن يجتمعون حول طاولة ليلعبوا الورق أو الدومينو، وكان هناك من يدخن السيجار وينفث الدخان في الهواء، وكانت هناك مجموعة من الشباب يجلسون جنب الباب وهم يتابعون مباراة في كرة القدم تنقل على الهواء مباشرة، كنتما ترتشفان الشاي وتتطلعان بهدوء إلى تلك المشاهد لأنكما كنتما قد قطعتما طريقاً طويلاً ورأيتما أن من الأفضل لكما أن تعودا إلى الفندق والخلود إلى النوم لتنهضا في الصباح الباكر والتوجه إلى المطار.

ولم تكن لتغمض لكَ عينٌ في الغرفة لتفكر في نمط تلك الحياة الجديدة التي تنتظرك هناك في الغرب، في الجنان التي على الأرض، ولم تكن لتشغل تفكيرك بالفيزة وجواز السفر والتزوير، وكنتَ تطمئن نفسكَ بنفسكَ بأن خروجك ووصولك إلى أوكرانيا مضمونة ما دمت عبرتَ الحدود لتصل إلى أنقرة فإنه بإمكانك إجتياز المطار والوصول إلى (كييف).

كنتَ تفكر في زوجتك وأطفالك، كيف يستطيعون تأمين أجور السكن وتكاليف الحياة اليومية وشراء الملابس وأجور الماء والكهرباء والمولدة، من يشتري لهم الخبز صباحاً ومن يراجع دائرة الكهرباء لدفع الفاتورة ومن يقف في صفوف شراء الغاز والنفط ومن ذا الذي يعبيء البراميل بالوقود ومن ذا الذي سيقوم بتنظيف المدافيء النفطية شتاءاً ومن يقوم بتركيب المبردات صيفاً ويقوم بصيانتها، وكنت مستغرقاً في أفكارك هذه ولم تعرف متى غلبك النعاس وكيف قمت بتغطية نفسكَ لتستيقظ في الصابح الباكر على أصوات خطوات زميلك الذي كان قد إستيقظ قبلك.

كان عليكم الحضور إلى المطار قبل ساعتين أو ثلاث ساعات قبل موعد إقلاع الطائرة، فارتديتما ثيابكما في ذلك الصباح الباكر وتناولتما فطوراً خفيفاً لتهبطان من الفندق مع حقائبكما وأستقليتما عربة أجرة متجهين نحو المطار. وكنتما تتطلعان في الطريق إلى تلك البنايات العالية والحدائق المنتظمة والأزهار الجميلة التي تزدان بها تلك الحدائق والساحات والعمارات الشاهقة لتستغربا وتندهشا وتشفقا على نفسيكما وشعبيكما حيث لن يزيد إرتفاع عماراتكم حتى الآن عن طابقين أو ثلاثة طوابق وليست لديكم حديقة عامة للتنزهة وقضاء الوقت، وليست لديكم بناية شاهقة إلى درجة يمكنكم مشاهدة كافة أحياء المدينة من فوقها، وليس لديكم طريق معبدٌ من دون حفر ومرتفعات، لذا فإنك تعتبر حياتكم بأنها حياة ذهبت أدراج الرياح وسدى وكنتَ نادماً بأنك لم تفتح عينيكَ في أرض وبلد من بلدان الغرب ولم تعش هناك.

كنتَ غارقاً في بحار هذه الأفكار ، حين قطعتم العديد من الشوارع والساحات والمناطق، وكان المطار يبدو من بعيد، كانت هناك العديد من الطائرات التي كانت جاثمة في مساراتها، وكانت هناك طائرة وهي في طريقها إلى الإقلاع وكانت هناك في أقصى المطار طائرة أخرى توشك أن تهبط لتوها. عندما دلفتما قاعة المسافرين رأيتم مسافرين عديدين وهم ينتظرون حلول موعد إقلاع طائراتهم ليتوجه كل منهم إلى طرف من أطراف العالم.

فوقفتما في صفوف المسافرين وأنتظرتما لفترة طويلة حتى وصلتم إلى شباك التفتيش لتضعا جوازي سفركما أمام الموظف وتقفا بعيداً لينادي على أسميكما، وكانت دقات قلبيكما لا تنفكُ تتسارع وبقيت أمامكم هذه المحطة لتجتازوها وتتوكلوا على الله لإجتياز المحطة القادمة وإن صادف ووصل رجالٌ من أمثالكم إلى مثل هذه المحطات فيجب أن يكونوا من المحظوظين ليجتازوها او يقلعوا منها، بدوركم كنتم في مستوى الثقة من أنكم ستجتازون هذه المرحلة وستعبرون هذه المحطة.

كنتما تفكران في اللحظة التي ستكتشف أمركما لا سامح الله وتظهر حقيقة عملية تزوير جواز السفر، عندها ستواجهون سيلاً من الأسئلة والأجوبة عوضاً عن الفضيحة والإعتقال والسجن ومن ثم حلق الرأس وتلقي درساً لن ينسى، ومن ثم إرسالك مخفوراً ومكبلاً بالأصفاد إلى الجهة التي أتيت منها وإعادتكَ بأيدي فارغة منكس الرأس إلى ما وراء الحدود التي أتيت منها.

كنتما تفكران بتلك اللحظات حين نودي على إسميكما ليدمغ جوزاي سفركما، ومن ثم وضعتما حقائبكما على سِيَر التفتيش لتخرجان من الجهة الأخرى بسلام لتجتازا البوابة. وكانت الطائرة واقفة على بعد بضع مئات من الأمتار في الممر الخاص بها وهي تنتظركم وتنتظر المسافرين الآخرين. وشرعت الطائرة تتحرك في الموعد الخاص لإقلاعها وبدأ صوت محركاتها يؤذي آذان وأسماع من حضروا إلى مبنى المطار وصولاً إلى سكان الأحياء القريبة. عندما أقلعتِ الطائرة ووصلت إلى مستوى الطيران الخاص بها إرتفع صوتٌ من سماعة الطائرة باللغة الإنكليزية التي فهمت منها بأنكم ستصلون بعد بضع ساعات إلى مطار (كييف) وستهبط الطائرة وتقطعون نصف طريق رحلتكم نحو جنة خيالكم والتوكل على الباري لنصفه الباقي.

حين وصلتم إلى (كييف) كانت الشمس قد غربتْ، وكانت مصابيح الشوارع قد أضيئتْ، وكان المطار مضاءاً كأنه في عز الظهيرة، ففي اللحطة التي هبطتْ فيها طائرتكم، أقلعتْ طائرة في الجانب الآخر وهبطتْ طائرة أخرى في الجهة اليسرى لتقف مباشرة في الممر الآخر جنب الطائرة التي كنتم تنزلون منها. وأُنزِلَتْ حقائبكم وتم تفتيشكم وتفتيش جوازاتكم، وكنتم تنتظرون حقائبكم خلف الحاجز، وقد أختلط الرجال والنساء والأطفال، وكان هناك من أستلم حقائبه واضعاً إياها على عربة يدفعها دفعاً، وكان هناك آخرون يسحبون حقائبهم ذات العجلات الصغيرة، وكان هناك من يتحدث باللغة الإنكليزية والروسية ولغات أخرى، وكنتما بدوركما تتحدثان مع بعضكما بلغتكما وبعد أن تم تفتيش حقائبكما ووصلت على السِيَر لمحاذاتكما هرعتما تنزلانها.

توقفتما للحظات لا تعرفان إلى أي جهة تتوجهان. فأردف صاحبك:

ـ ماذا نفعل؟ إلى أي وجهة نتجه؟

ـ لا تهتم، سنؤجر عربة أجرة ونسلم سائقها هذا العنوان ليوصلنا إلى الجهة التي نريد.
كانت عربات الأجرة واقفة في الطرف الآخر، وكان هناك مسافرون عديدون يستقلون سيارت الأجرة، وكان .... العارفون ...... يستقلون الباصات في محطة الباصات المركزية جنب المطار، وكنتم تنظرون إلى المدينة وقد غرقت في أضواء المصابيح وزينتْ البنايات الشاهقة بالإعلانات التجارية الملونة. فأستقلتما عربة أجرة لتسلما العنوان لسائقها الذي اشار برأسه ليشغل محركها متجهاً نحو مركز المدينة. كانت الشوارع تزدحم بالمارة وكانت المحال التجارية غارقةً في الأنوار وقد وضعتِ السلع بإنتظام في واجهات المحال لتسترعي إنتباه المشترين، وكنتما تشاهدون أحياناً على جانبي الشوارع مطاعم أو فنادق راقية ومقاهي وبارات وحدائق عامة تزدحم بالناس، حين توقفت بكما عربة الأجرة لتنزلا أمام الفندق المقصود في العنوان تسلم منكما الأجرة ليترككما ويمضي.

لقد عثرت على صديقك وهو من سكنة بلدك بكل سهولة، كان يقطن ذلك الفندق، وهو يعيش منذ فترة في ذلك البلد وقد اتقن لغتهم ويستطيع التكلم بها وإنجاز شؤونه اليومية وأصبح مطلعاً على المدن والأماكن العامة ولديه بعض المعلومات عن قضايا التهريب والمهربين عبر حدود البلدان ولديه معرفة ببعض الأشخاص. عوض عن كل ذلك فقد حصل بفعل أضاليله وخدعه على الإقامة في ذلك البلد.

حين ألتقيتما قام يحتضنك بشدة لتقبلا وجنتي بعضكما بعضاً. ومن ثم أستلم منكم حقائبكم وأصدر أوامره لعامل الفندق بتخصيص إحدى الغرف لكم.

حين جلستم في غرفته، أردف يسألكم:

ـ هلاّ صادفتكم مشاكل؟
فقلتَ في ردك:
ـ كانت مشكلتنا الوحيدة هو إنتظارنا لفترة طويلة حتى أنتهت عملية التفتيش لنستقل الطائرة.
ـ وماذا عن جواز السفر والفيزة والدعوة؟
ـ لا نعلم شيئاً سوى إننا كنا نقدم جوازات سفرنا للموظفين وننتظر، ولم نتعرض للإستفسار، ليدققوا في جوازاتنا ويختموها ويعيدوها إلينا.
ـ لقد حالفكم الحظ، إن هذا الموسم هو موسم السفر والسياحة لذا فإنهم لا يدققون كثيراً في جوازات السفر، فقد كانوا قد أتخذوا تدابير أمنية شديدة قبل أسبوع.
وبعد ان أخذتم قسطاً من الراحة، وتناولتم بعض الأطعمة الخفيفة، تم إعداد غرفتكم لتغادروا إليها حاملين حقائبكم.

أمضيتم ستة اشهر كاملة في تلك المدينة، لتزوروا العديد من المناطق، وبحثتم كثيراً عن المهربين، فتعرفتم على الأزقة والحارات والشوارع والساحات، وكنتم في بعض الأحيان تدلفون إلى سراديب لم يدخلها أحد من سكان المدينة بتاتاً، صرفتم أموالاً طائلة، ولم تكونوا لتثقوا بالمهربين وتطمئنوا إليهم، حتى قام صاحبكم بإيجاد أحد المهربين ممن يرتبط بعلاقة مع مسؤول في سلك الشرطة ومسؤول في المطار كانا يغضان الطرف عن صعود الراكب إلى الطائرة مقابل دفع أربعين إلى خمسين ورقة من فئة المائة دولار ليسافر مع الركاب ويعدون له جواز سفر مزور كان سيمزقه فور وصوله ليسلم نفسه للشرطة. فقد اعدوا لكما جوازي سفر مزورين ليتسلما منكما المبلغ المتفق عليه متعهدين لكم أنهم سوف يودعونكم مساء الغد من المطار إلى أمستردام.
فوصلتم في منتصف الليل إلى المطار، وكان المطار غارقاً في أنوار المصابيح الكهربائية ويزدحم بالمسافرين، وكانت قاعة الإنتظار تعج بالسياح والمسافرين وهم ينتظرون دورهم ليتم تفتيشهم مع حقائبهم ليصعدوا إلى الطائرة والإقلاع وترك هذه المدينة ورائهم. وكنتَ واحداً من هؤلاء كنتَ قلقاً تراودك خواطر جمة، وكنتَ تخاف أن يكتشف أمر جواز سفرك المزور لتفشل في سفرك. كنتَ غارقاً في هذه الأفكار حين إجتازت جوازات سفركم عملية التفتيش وتم تفتيش حقائبكم لتتجهوا نحو مصعد الطائرة. ولم يمض سوى نصف ساعة حتى صعد المسافرون إلى الطائرة وبدأت الطائرة تتحرك لتقلع وترتفع رويداً رويداً حتى غابت عن الأنظار.

كان الفجر يقترب حين وصلت طائرتكم إلى اجواء أمستردام، كانت البنايات والعمارات والشوارع والساحات والأماكن العامة والمطار الفسيج غارقة في أنوار المصابيح الكهربائية، حين نظرتَ من نافذة الطائرة إلى معالم المدينة شاهدت العمران والقصور والحدائق والبنايات الشاهقة المزدانة على مرمى البصر. كنتَ تشعر بالفرح والحزن معاً. تشعر بالسعادة كونك وبعد كل ما عانيته من متاعب ومصاعب وإنتظار وصلت إلى الأرض التي كنتَ تخطط لنفسك الوصول إليها، وصلتَ إلى قطعة من قطع تلك الجنة التي كنتَ تتصورها في خيالك، تلك الجنة التي تمد فيها يدكَ إلى أي شيء تناله، لن ينالك التعب ولن يسيل عرقك ولن يضطهدكَ أحد ولن يضغط عليك أحد، وكنتَ تشعر بالحزن لأنك كنتَ تشعر بالغربة وتفكر في أسرتك وأطفالك وذويك ومعارفك وأرضك وطبيعة بلدك الخلابة، كنتَ تفكر في أطفالك، ماذا حدثت لوالدتهم وأين وصل مرضها، ورغم أنك كنتَ تعتبر نفسك حتى الآن بأنك تتمتع بالقوة والصمود، غير أنك تجد نفسك من حيث العاطفة أضعف من أم حنونة تجاه طفلها، أوشكتَ أن تجهش بالبكاء، كمن فقد أعز إنسان لديه، غير أنك وبعد تفكير عميق تجرأتَ وضغطتَ على نفسك:
ـ إياك أن تفضح نفسك، لأنك رجل، فكيف للرجال أن يبكوا؟

فعدلتَ عن البكاء أخيراً لتعود إليكَ معنويات الغربة وكانت يدكَ على قلبكَ عند النزول من الطائرة، وكل همكَ أن تنزلوا بسلام وليحدثْ ما يحدثْ بعد ذلك. لقد أتخذتَ قراركَ بتنفيذ خطتكَ التي رسمتها لنفسك عند هبوط الطائرة، لا يهم ما تنتجه الأرض التي زرعتها، المهم هو أنكَ وضعتَ الآن قدماً على أرض جنة الخيال وستحاول وتناضل بأظافرك العشرين بعدم التخلي والإبتعاد عنها.

حين نزل المسافرون وبدأت عملية تفتيش الحقائب وجوازات السفر تسلمتَ حقيبتكَ لتجلس في قاعة المطار على مقعد جانبي بعيد حتى بدأ الصباح يطل رويداً رويداً وغادر المسافرون القاعة عدا قلة كانوا هنا وهناك، وتوجهتَ إلى المغاسل لتمزق جواز سفرك المزور وترميه في المرحاض وتتنفس الصعداء لتقول في نفسكَ:

ـ هكذا وضعتُ الآن قدمي في هذه الأرض، ليست هناك من قوة تبعدني عنها.
فأتجهت إلى مركز شرطة المطار لتسلم نفسك. كنتَ ملماً باللغة الأنكليزية قليلاً، فأجبتَ على بعض أسئلة مسؤولي مركز شرطة المطار لتجد نفسكَ بعد بضع ساعات في أحد مخيمات اللاجئين. كان المخيم يضم أشخاصاً من جميع أنحاء العالم. فأقمتَ خلال بضعة شهور علاقات وطيدة مع عدد لا بأس به من سكان بلدكَ والبلدان الأخرى. وقدمتَ الوثائق المطلوبة وما يثبت هويتك إلى السلطات لقبولكَ لاجئاً. وكانوا عند كل رد يطلبون منك المعذرة بأنك قدمتَ متأخراً وأن الأوضاع في بلدكَ تتقدم نحو الافضل، لذا فمن غير المحتمل الإستجابة لدعوتك.

مرّتْ سنوات وسنوات وأنتَ لا تزال تعيش في المخيم عينه، لكنكَ كنتَ تستلمُ مساعدة شهرية تكفي لتأمين متطلبات الحياة اليومية وشراء السكائر والغذاء وحتى شراء الملابس أحياناً، وكنتَ تتصل هاتفياً بأسرتك وأطفالكَ أحياناً لتطلعهم على أحوالك. وفي تلك الفترة تجولتَ في مواقع عديدة في تلك المدينة وقمتَ مع اللاجئين القدامى بزيارة أماكن يمتهن فيها البعض مهناً مهينة كنتَ تتقزز من أن يتخذ المرء مهنة مثيلة لها وجعلها مهنة مرتبطة به مدى الحياة، وخاصة من قبل الرجال حيث لم تكن تلك المهنة في مجتمعك الشرقي تعتبر من المهن التي يمكن مزاولتها بل حتى إذا تناهى إلى الأسماع بأن أحداً يمتهنها فسيجدونه في اليوم التالي في المقبرة، المشكلة تتعلق بالقيم والمثل العليا المقدسة، فيما يتم هنا إنتهاك المثل العليا تحت إسم حقوق الإنسان ويتم إستثمارها وتغدو مصادر لإدامة الحياة. بدورك كنتَ تشمئز من أمثال تلك المهنة من جهة ومن جهة أخرى أخترت بنفسك هذا الحل أي الغربة وكنتَ تعيد مع نفسك تلك الجملة التي تقول:

ـ بنفسكَ أقدمتَ على إشعال النار في رأسكَ!!

ولم تكن تود أن تتراجع وترى نفسكَ مهزوماً، كنتَ تتحمل الصبر وتتقبل بإشمئزاز ذلك الوضع لتنتظر بعيداً عن تراب وطبيعة وطنكَ وبعيداً عن أسرتكَ وأطفالكَ وتاريخ وطنك وقوميتكَ الحافل بالأمجاد أن يمنحوك ذلك الحق، الذي ضحيتَ بالحقوق الأخرى من أجله، ألا وهو حق اللجوء!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى