الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم صادق مجبل الموسوي

قضية الأجناس الأدبية في الأدب

يواجه الإنسان الحياة بما فطر عليه من قواه الجسمية والنفسية بكل ما تتضمنه من قدرات عقلية وعاطفية وخيالية وغريزية، وما هو شعوري وغير شعوري، وقدرة سلوكية تمكنه من اتخاذ مواقف، وهو مدفوع في هذه المواجهة ليحافظ على وجوده الفردي، وفي نطاقه الاجتماعي، بما يكفل له سلامته ويضمن عيشه ويحقق ذاته، ويبلغه نيل تطلعاته.

تولد عن كل ذلك ما ابتدعه من فنون وآداب ونظم، وما توصل إليه من نظريات علمية عرف بها الكثير من أسرار الطبيعة وسخرها لصالحه باكتشافاته واختراعاته.

لقد هداه ما جبل عليه من قوى نفسية، إلى ابتداع مسالك وأساليب للتعبير عن مواقفه وتفاعله وصراعه الدائم مع الواقع بكل أبعاده، فكان من ضمن تلك المسالك والأساليب، الأجناس الأدبية المختلفة التي ما فتئت تتغير وتتوالد مواكبة مسيرة الإنسان عبر العصور والبيئات.

تعددت دراسات الباحثين واجتهاداتهم في تناول الأجناس الأدبية وتنوعت آراؤهم، وتنامت جهودهم لتفضي إلى ما صار يعرف "بنظرية ! الأجناس الأدبية" في الفكر الأدبي، بدءا من تصورات سقراط وأفلاطون التي أثراها أرسطو، وما سجله النقاد العرب، ثم تناول القضية الكلاسيون والرومانسيون، ومن أتى بعدهم، حيث اختلفت التوجهات، فهناك من تأثر بالعلوم البحتة أو الإنسانية، وما عرف من نزعات إيديولوجية وبنيوية ولسانية.

يمكن أن نستخلص من أهم تلك الدراسات والاجتهادات نتائج نراها أكثر فائدة وانسجاما مع ما نحن بصدده، من تلك النتائج أن نظرية الأجناس الأدبية تنحصر في بحث قضيتين أساسيتين هما:

1 - الأسباب الداعية إلى وجود الأجناس الأدبية.
2 - أسس تقسيم الأدب إلى أجناس مع ما يستتبع ذلك من دراسة خصائص كل جنس ومكوناته وما يكتنفه من تطور أو تغير، وبيان أهدافه.

ـ فيما يتعلق بالقضية الأولى: هناك تساؤلات تعددت الإجابات عنها وهي:

هل الأدب -أصلا- وليد الواقع الذي يعكسه الإنسان ويعبر عنه؟ أم أن الأدب دلالة على موقف الإنسان وانعكاس لذاته تجاه الواقع؟

أم أن هناك ارتباطا جدليا بين كيان الإنسان الداخلي، وبين واقعه الخارجي؟ -وهذا أقرب إلى الصحة- ثم إن الأمر لا يقف عند حدود الذاتية الفردية، بل يتجاوزها إلى ما لها علاقة به من أفراد وجماعا! ت، وطبيعة، وما وراء الطبيعة، لتوضيح ذلك بكيفية تفصيلية نرى أن الإنسان مرتبط أوثق ما يكون الارتباط بأربعة أبعاد في حياته:

1 - ذاته الفردية وكيانه الخاص.
2 - جماعته الخاصة والعامة التي تتسع حتى تشمل الإنسانية عامة، بعد عشيرته ومجتمعه الوطني والقومي.
3 - الطبيعة بكل ما تضمه من أحياء ومظاهر وخفايا وعناصر، لأن الطبيعة مكون جوهري لحياة الإنسان.
4 - ما وراء الطبيعة، إذ يتجاوز الإنسان المحسوس إلى ما فوق مدركاته المباشرة، وهو مدفوع أن ينظر إلى عوالم أخرى بحكم عواطفه وخياله وعقله، وما أتت به الأديان من عقائد وعبادات وتشريعات وتوجيهات سلوكية، خاصة الإسلام الذي هو آخر دين سماوي.

إذا نظرنا بإمعان إلى هذه الأبعاد الأربعة التي تحكم حياة الإنسان، ولو بدت منفصلة، فإننا نجد بينها في العمق، ترابطا وتداخلا، وهناك بعد خامس، قسيم للأبعاد الأربعة، يتجلى فيما فطر عليه الإنسان من تطلع مثالي يحدو به إلى توخي الأفضل ونشدان الأرقى في كل ما ينجزه.

إذا حاولنا أن نطبق ما سبق على أسباب وجود الأجناس الأدبية، وما قد يعتريها من تغير وتطور، وظهور بعض الأجناس واختفاء أخرى سنجد ما يأتي:

1 - كل ما يتعلق بذات المبدع، نشأت عنه الأجناس الأدبية التي يعبر بها عن تجاربه الخاصة وهمومه وأفراحه، وخبراته ومواقفه وتأملاته واختياراته، من هذه الأجناس: الشعر الغنائي بكل موضوعاته وأبوابه، ومنها الأجناس النثرية كالأخبار الشخصية والخطابة والوصايا والرحلة، والمقالة الذاتية، والسيرة الذاتية والخاطرة، وهذه الأجناس تتسم بالطابع الذاتي وهو العنصر البارز فيها ويتيح لها أن تنتمي إلى هذا النطاق.

2 - كل ما يهم الواقع الاجتماعي بكل نواحيه المختلفة مما هو خارج عن التجارب الشخصية للمبدع، ويهم الآخرين في تعاملهم وسلوكهم وتصرفاتهم، وكل ما يقع بينهم من صراع وتصالح وتوافق، بمعنى آخر كل ما يتعلق بالحياة العامة الجماعية في نطاق محلي ووطني وقومي أو إنساني، نشأت عن كل ذلك أجناس أدبية، منها الملحمة والمسرحية والقصة والرواية والمقالة الموضوعية والسيرة الغيرية وكل الأجناس التي يعبر بها المبدع عن الآخرين.

3 - نظرا لمكانة الطبيعة في حياة الإنسان فقد نشأ عن ذلك أدب الطبيعة بأصنافه، وهو يضاف إلى الجانب الذاتي أو يحسب على الجانب المحايد الذي نشأت عنه النظرة العلمية، والغالب أن يتماهى أدب الطبيعة مع أجناس ! أدبية خاصة دون غيرها مثل الرحلة، وهي رهينة بالسفر وما يتخلله من حركة وسكون وإقامة وظعن، فالرحلة على هذا الوجه مرتبطة بالمكان على اختلاف المواقع والمشاهد، وكذلك بالزمن، وتتجلى الطبيعة في الفضاء الروائي، وفي مقالة وصف الطبيعة أو في شعر الطبيعة.

4 - بما أن الإنسان مادة وروح، مزود بالقدرة على استشراق عوالم الغيب، بما أودع الله فيه من طاقات تمكنه من الخيال، وتتحكم فيه عواطفه وميوله، كما له طاقات فكرية، لم يترك مع ذلك لأهوائه أو لقدرته الإدراكية العقلية والحسية، التي مهما بلغت، فهي محدودة، رأفة من خالقه به أرسل إليه الرسل وأنزل وحيه من أجل إسعاده في دنياه وأخراه، وفي هذا النطاق نشأت أجناس أدبية كالابتهال والمواعظ وأدب الزهد وأجناس الأدب الصوفي وأدب الحياة الأخرى. وقد تمتزج هذه الأجناس بغيرها، إذ أن حياة المؤمن عامة لا تنفصل عن الجانب الغيبي سواء تعلق الأمر بأجناس الأدب الذاتي أو الغيري. وقد تسخر أجناس أدبية لخدمة العقيدة والشريعة الإلهية بمقاصدها النبيلة الدنيوية والأخروية.
إننا حين نمعن النظر فيما تقدم عن حياة الإنسان نجدها وحدة لا تنفصل في العمق، وإن بدت منفصلة في الظاهر. فالحي! اة الفردية مرتبطة بالحياة الجماعية والفرد والجماعة مرتبطان بالطبيعة وبما وراء الطبيعة والحياة الدنيا لا تنفصل عن الحياة الأخرى.

يضاف إلى ما سبق أن حياة الإنسان الدنيوية محكومة بالزمن الماضي والحاضر والمستقبل، أما حياته الأخرى فهي أبدية. والأجناس الأدبية محكومة بهذا المقياس الزمني والمكاني أيضا. فهي إما أن تتحدث عن ماض أو حاضر أو مستقبل أو تمزج بين هذه الأزمنة غالبا.

أما البعد الخامس المشار إليه فيما تقدم والمتجلي في رغبة المبدع في بلوغ الكمال وتحقيق المثال، فهي التي تدفعه إلى بذل كل جهد لديه لتحسين أي إنجاز ينجزه. إن تطلعه إلى أن يكون عمله في أعلى درجات الإتقان والإجادة، ظاهرة ملازمة واضحة عبر العصور، إذ أن إنجازات الإنسان لم تكن أول الأمر إلا بدائية وساذجة ثم سارت في سلم الرقي استجابة لنزوع مثالي في أعماقه. إلا أن ذلك محكوم بمتطلبات كل عصر ومثله وقيمه الجمالية والفكرية والدينية، فالإبداع في مجال العمارة مثلا وصل إلى درجة عالية من الضخامة والفخامة في فترات، وفن النحت حقق الذروة كذلك لدى اليونان والرومان، وفن الملاحم بلغ مكانة مرموقة لدى هومروس وكذلك الرسم حقق أروع مثال ف! ي عصر النهضة وما بعده، وهكذا..

إن كل إنجاز فني يبدأ ساذجا ثم يتولاه الإنسان عبر عصور بالصقل والإجادة وضروب التحسين، ثم قد تطرأ عوامل تدعو إلى اختفائه أو دمجه في فنون أخرى، وهكذا نجد أن الإنسان عبر مسيرته الحضارية قد تنبه، سواء تعلق الأمر بأجناس الأدب المختلفة أو بغيرها، إلى أن وسيلته لتحسين إبداعه هو فحص ما أنجزه ليقف على مكامن الإجادة أو القوة أو مماثلة غيره، وكذلك ليعرف مواطن الضعف والتقصير والنقص. فتولد عن كل ذلك ما صار يعرف بالنقد الأدبي أو الفني كما تولد عنه تاريخ الأدب وتسجيل حياة أعلامه وكل ما يتعلق بدراسة الأدب سواء تعلق الأمر بقضاياه أو اتجاهاته ومذاهبه وخصائصه الفنية.

بهذا التصور العام للعوامل المختلفة والحوافز النابعة من أبعاد نفسية واجتماعية معقدة ومتداخلة، ندرك من كل ذلك الأسباب الكامنة والفعالة التي أدت إلى ظهور الأجناس الأدبية وتعددها، ومن الميسر أن ندرك -من خلال ذلك- أن هناك أجناسا يظهر بعضها لم يكن له وجود سابق، وبعضها يختفي بعد أن كان له حضور قوي، وبعضها يتغير ويظل حاضرا، فالمقامة لم تكن موجودة قبل العصر العباسي ثم طرأت عوامل شتى اجتماعية وثقافية يسرت ظهور! ها وأعقبت ذلك عوامل استجدت وعملت على اختفائها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرحلة إلا أنها ظلت حية مع ما لحقها من تغيير في الأدب الحديث. وفي عصرنا يعلم الجميع ما انتاب المجتمعات العربية من يقظة، وما جد من نظم ومؤسسات وآليات، وما وقع من تغيير في بنيات هذه المجتمعات واتصالها بثقافات أخرى، فاقتضى ذلك كله ظهور المقالة والمسرحية والقصة والرواية مجاراة لواقع بعلاقاته وتطلعاته الجديدة وثقافته.

لحصر هذه القضية إجمالا يبدو أن هناك ثلاثة عوامل فعالة في ظهور واختفاء وتغيير الأجناس الأدبية:

1-متطلبات كل عصر وقضاياه المختلفة.
2-التقاليد الفنية الموروثة والمستجدة.
3-القدرات الإبداعية للمنشئين وما لهم من عبقرية ومدى استيعابهم للموروث وما لهم من تطلعات.

ـ القضية الثانية التي تعد من صميم نظرية الأجناس الأدبية، هي التي تتضمن الإجابة عن السؤال الآتي: ما أسس تصنيف الأجناس الأدبية؟

لقد تعددت الإجابات واقتراحات الحلول، منذ أن أفضى أرسطو بإجابته التي بناها على فلسفته الخاصة بالفن، فحواها أن الفن محاكاة للطبيعة والإنسان، إلا أن هذه المحاكاة تختلف أداتها باختلاف الفنون، ويتميز الأدب عن غيره من ! الفنون باتخاذه اللغة أداة له، ثم نجده يصنف الأجناس الأدبية إلى ملحمة وتراجيديا وكوميديا (وكثيرا ما ينسب إليه التقسيم الثلاثي المعروف الملحمي والدرامي والغنائي ثم أضيف فيما بعد التعليمي).

وقد بنى هذا التقسيم على أساس الموضوع وطريقة استعمال اللغة وأساليبها وصيغها ووظائفها.
جل النظريات التي تناولت قضية تصنيف الأدب إلى أجناس لا تخرج في تفسير وتمييز هذه الأجناس وتصنيفها، عن النظر إلى الموضوع أو المضمون أو الأساليب والصيغ والبنيات الداخلية أوالطول والقصر والهدف.

لبيان ذلك بصورة مجملة يبدو أن القصيدة الغزلية تختلف عن المادحة أو الهجائية، والرواية التاريخية غير الاجتماعية أو السياسية الحديثة، والمقالة السياسية تختلف عن الفلسفية، وهذا التصنيف داخل جنس معين، وقد نظر إلى الموضوع، كما أن القصيدة تختلف عن الرواية أو المقالة بالنظر إلى الأسلوب والصيغة ومثل ذلك يقال في حق المسرحية التي تتميز عن الخطبة باتخاذ الأولى أسلوب الحوار واعتماد الثانية على أسلوب الإقناع والحجاج، بالإضافة إلى أن هناك غيابا للذات الفردية في المسرحية وحضورها في الخطبة، وقد يكون للطول والقصر دخل في التمييز بين الأجن! اس كعنصر شكلي بارز، بغض النظر عن المكونات الداخلية أو البنيات الأساسية، وبناء على هذا تتميز الأقصوصة أو القصة القصيرة عن الرواية، وتتميز الخاطرة عن المقالة بالمظهر نفسه.

جل الدارسين والنقاد الأجانب والعرب قد ارتكزوا في تصنيفهم الأجناس الأدبية على الأسس التي سبقت الإشارة إليها، ولكن نجد من المعاصرين من صار يهيمن على توجههم في هذا الصدد الاعتماد على البنيات والخصائص الأسلوبية أكثر من غيرها دون إهمال للأسس الأخرى من موضوع ووظيفة وطول وقصر، وعلى سبيل المثال نجد أن تودوروف Todorov ، وهو من أكثر المعاصرين تحمسا للخوض في نظرية الأجناس الأدبية، يعتد بالمقياس البنائي دون أن يتغاضى عن المعطيات التاريخية والمضمونية. وفي هذه القضية ظاهرتان: تداخل الأجناس وتطورها:

1 - تداخل الأجناس: إن أهم ما يحول دون تحديد أي جنس أدبي تحديدا صارما وحصر مفهومه حصرا دقيقا، هو ما للأجناس الأدبية من مرونة وما تتسم به من ظاهرة التداخل فيما بينها. هذه الظاهرة التي أضحت في النقد الحديث من الأمور المفروغ منها على عكس ما كان رائجا في النقد القديم من دعوى صفاء الأجناس.

لقد أقر بهذه الظاهرة جل من تناولوا نظرية ا! لأجناس الأدبية من المعاصرين، ومن القصد في هذا المقام التذكير بما بين صنفي الأدب الرئيسيين -الشعر والنثر- من تداخل وربما لا يتميز أحدهما عن الآخر في حالات، إلا بعناصر غالبة في هذا أو ذاك، وقد دفع هذا التداخل بين الأجناس، إلى مناداة بندتو كروتشي (1866-1952) BENDETTO CROCE، بإلغاء تقسيم الأدب إلى أجناس وعد الأدب وحدة -مهما تنوعت صيغه وأساليبه وموضوعاته- وتعبيرا عن منشئه، فهو يقول: "لا تقولوا هذه ملحمة، وهذه غنائية أو هذه دراما، تلك تقسيمات مدرسية لشيء لا يمكن تقسيمه. إن الفن هو الغنائية أبدا، وقولوا إن شئتم هو ملحمة العاطفة ودراماها".

هذه دعوى لا سند لها من حال الأدب نفسه، ولم تكتسب تأييدا، ولم يسلم بها النقاد لما تتسم به من مغالاة وهي أساسا رد فعل ضد الكلاسيين.

مما يجدر ذكره هنا، أن النقاد والدارسين المعاصرين كثيرا ما يطلقون مصطلحات يتجاوزون بها تحديد الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا النص أو ذاك، فيستعملون لذلك مثلا، الإنتاج الأدبي أو العمل الأدبي أو الأثر الأدبي وقد يستعيضون أيضا عن تسمية الجنس بالاقتصار على "النص" أو الخطاب "لأن التمرد على الحدود الموضوعة بين الأجناس الأدبية! أدى إلى رواج واسع لمصطلحي النص والخطاب، لكون تسمية الأجناس الأدبية قاصرة عن تحديد الخصائص البنيوية للنصوص..".

مع ثورة المبدعين المعاصرين على الحدود الصارمة بين الأجناس الأدبية، فإن تجاوز قضية الأجناس لم يتم من لدن النقاد، وبهذا ما زال الأخذ بمبدأ الأجناس مع ما بينها من تداخل، أمرا قائما في الدراسة الأدبية.

2 - أما ظاهرة تطور الأجناس الأدبية، فهي مدركة بيسر. فلو تأملنا ما لحق الأدب العربي في أجناسه منذ العصر الجاهلي إلى عصرنا لتبين لنا ما طرأ عليه من تغييرات وتحولات في أجناسه، ويمكن ملاحظة ظاهرة التطور هذه، في عدة أوجه أساسية، هي:

1 - هناك أجناس تغيرت بنياتها.
2 - هناك أجناس طرأت، لم يكن لها وجود في عصر سابق، ثم صار لها حضور في عصر لاحق.
3 - هناك أجناس اختفت بعد أن كان لها حضور.

إن القصيدة العربية قد أصابها من التغيير ما نعته الدارسون بالتجديد وبظهور أنماط شعرية كشعر الفكاهة والشعر السياسي والموشحات، وهناك أجناس لم تكن من تلك التي عرفت في الجاهلية كالرسالة التي ظلت تتطور وتتشكل في موضوعاتها وبنيتها وأسلوبها منذ صدر الإسلام مرورا بالعصر الأموي وما بعده إلى الآن، وك! ذلك ظهور المقالة والرحلة والمناظرات الثقافية..

لو حاولنا وضع لائحة للأجناس الأدبية التي عرفها الأدب العربي القديم ووازنها بما يوجد من أجناس في أدبنا الحديث لتبين لنا ذلك بيسر دون مزيد تفصيل:

في العصر الجاهلي هناك الشعر بأبوابه المعروفة حينئذ، وهناك في النثر الخطابة والأمثال وسجع الكهان والوصايا.

وفي صدر الإسلام والعصر الأموي يمكن أن نلاحظ ما طرأ من تغيير وتطور في الشعر كشعر الفتوح والشعر السياسي، وفي النثر تغيرت موضوعات الخطابة لتواكب متطلبات الحياة التي استجدت، إذ وجدت أوضاع اجتماعية وسياسية وما اقتضته الثقافة الإسلامية وقيمها فصار للشاعر والخطيب اهتمامات غير ما كان من قبل.

في العصر العباسي ازداد هذا التطور عمقا واتساعا وتجلى ذلك في أساليب الشعر وصوره وإيقاعه وبناء القصيدة وظهور أبواب جديدة. وفي النثر هناك أجناس طارئة مثل: الرسالة العلمية والأدبية والمقامة والرحلة والتوقيعات والمناظرات الثقافية، ومرايا الأمراء والتقاريظ وغيرها.

في عصرنا الحاضر تغير الشعر في موضوعاته وأساليبه وبناء القصيدة. فهناك موضوعات كشعر النضال الوطني والشعر الاجتماعي والشعر المسرحي والشعر الحر، ! وما صار يطلق عليه قصيدة النثر.
وفي النثر: الرواية والمسرحية والسيرة الغيرية والذاتية والمقالة والخاطرة والرحلة.

نلاحظ أن هناك أجناسا قديمة ولكنها تطورت وأخرى طارئة، ومنها ما اختفى.

بهذا يتبين لنا -بما لا يدع مجالا للشك- أن ظاهرة تطور الأجناس الأدبية من الحقائق الراسخة وهي تنتظم ضمن نطاق أوسع، وهو تطور كل إنجازات الإنسان. فهو عبر مسيرته الحياتية يطور أدواته ووسائل عيشه، فأدواته البدائية ليست. هي أدواته اليوم، ولكنها في العمق -مع ما لحقها من تغيير- ما هي إلا تطوير لما سبق فالمشط والمحراث والأواني والألبسة وما استجد في كل عصر ما هو إلا سلسلة من التطور، ولهذا نجد تودوروف TODOROV يقول في الأجناس الأدبية الطارئة الجديدة: "من أين تأتي الأجناس؟ بكل بساطة تأتي من أجناس أدبية أخرى، والجنس الجديد هو دائما تحويل لجنس أو عدة أجناس أدبية قديمة عن طريق القلب أو الزخرفة أو التوليف".

إذا حاولنا رصد ظاهرة التطور بكيفية مجملة مركزة يمكن أن ندرج ما يأتي:

من الرواد الذين أثاروا ظاهرة التطور في الأجناس الأدبية منذ القرن التاسع عشر فردناند برونوتيير (1849-1906م) FERDINAND BRUNETIERE الذي ن! ظر إلى الأجناس الأدبية متأثرا بنظرية شارل دروين (1809-1882م) CHARLES DARWEN، التي تضمنها كتابه أصل الأنواع، حيث توصل إلى أن الكائنات النباتية والحيوانية تطورت من نوع أدنى إلى آخر أرقى مكتسبة خصائص وراثية بفعل البيئة التي تنتخب الأصلح القادر على البقاء بعد تصارع وتنازع على ذلك، فهناك مبدأ النشوء والارتقاء ومبدأ البقاء للأصلح وتنازع البقاء.

وقد كانت ظاهرة التطور ملحوظة لدى الأقدمين من اليونان، كما تنبه إليها "إخوان الصفا"، وهذه قضية أوسع من أن نخوض فيها هنا، ولكن يكفي القول بأن التطور ظاهرة تمت معرفتها في النبات والحيوان إلا أن ضبطها وإغناءها وتنظيمها وإخضاعها للتجربة والاستقصاء تم حديثا بكيفية تدريجية وما زالت الأبحاث متواصلة في هندسة الوراثة.

من الأعلام الذين لهم مساهمة في نظرية التطور العالم الفرنسي لا مارك (1774-1829) LAMARCK الذي سبق داروين، ولكن لم يصل إلى ما وصل إليه داروين من ضبط وتنظيم للنظرية. ويذكر أيضا في هذا النطاق أوجست كونت (1798-1857م) AUGUSTE COMTE، الذي نظر إلى واقع الإنسانية انطلاقا من نظرية التطور ومن فلسفته الوضعية فاقترح، قانون المراحل الثلاث: المرحلة الل! اهوتية والمرحلة الميتافيزيقية والمرحلة الوضعية، وقد نقل نظرية التطور إلى علم الاجتماع وعلم الأخلاق هربرت اسبنسر (1820-1903م) HERBERT SPENCER وبذلك تجاوز ما يخص الكائنات النباتية والحيوانية ونقل النظرية إلى المجتمع وسلوك أفراده وتصرفاتهم.

بهذا الذي تقدم يتبين لنا أن قضية التطور أخذت باهتمام المفكرين في مختلف المجالات، ولم يكن الأدب في ذلك استثناء، ولهذا وجدنا برونوتيير BRUNETIERE يخوض في هذه القضية، وتتلخص نظريته في "بيان كيف تتولد أنواع أدبية، وما هي عوامل الزمان والبيئة التي أشرفت على ميلادها، وكيف تتميز تلك الأنواع وتتباين، ثم كيف تنمو وتتطور كما يتطور الكائن الحي".

من تطبيقاته في هذا النطاق: يرى أن الخطب والمواعظ الدينية في القرن السابع عشر تحولت بعد قرنين إلى شعر غنائي وهو الشعر الرومانسي، وهذا التطور قياس على تطور الكائن العضوي إلى كائن آخر، كما توصل إلى أن الملحمة تحولت مع مرور الزمان إلى القصة الواقعية مع أن مادة الملحمة هي البطولة الخارقة المختلطة بالأساطير الوثنية، وكانت تصاغ شعرا، وبهذا التطور اختلفت القصة في أداتها وموضوعها عن الجنس الذي تطورت عنه.

تتبع برونوتي! ير الأجناس الأدبية والفنية وتبين له أن بينها جامعا مشتركا يتجلى في تطورها من طابع ميتافيزيقي إلى طابع واقعي، فالرسم مثلا كان أسطوريا ثم تاريخيا ثم واقعيا. إن الإنسان البدائي لا يستطيع رسم ما حوله، ولكنه يرسم ما يتخيله مثله في ذلك مثل الطفل، وهذا التطور يسري على الأجناس الأدبية، وهناك نتيجتان تستخلصان من عمله:

1 - إن الأجناس الأدبية لها وجود مستقل بحيث ينفرد كل جنس بمميزات خاصة مع وجود تشابه بين بعض الأجناس أحيانا مثل ما يوجد بين الأجناس الحيوانية.

2 - إن لكل جنس زمانه الخاص به يولد فيه وينمو ثم يموت، ثم ينشأ عن ذلك جنس آخر. فالأجناس الأدبية تتوالد كما هو حال الحيوانات، إلا أن اللاحقة أرقى من السابقة.

إن نظرية برونوتيير لا تخلو من مواطن ضعف تتجلى في تعسفه -أحياناً- ومغالاته في التطبيق الصارم لنظرية العلم دون مرونة. فالأجناس الأدبية ليس لها وجود مستقل عن واقع المجتمع وكل ما يتميز به من تطلعات وتقاليد أدبية تتجاوب معه، ولو راعى في بعض التفاصيل فقط روح العلم لكانت نتائجه أكثر دقة.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى