الخميس ١٢ أيار (مايو) ٢٠٢٢

قطار

أحمد بن قريش

 أين كنت يا الشيخ علي؟

 في المدينة، أجاب العجوز الذي اضطر أن يتوقف ليلمس يد الاخر الممدودة.

 أه...المدينة... قالها لخضر و هو يفتش بعينيه داخل الكيس البلاستيكي قد وضعه العجوز ارضا و الذي كان يحتوي على أربع قطع من الصابون فقط.

 خممت ما نرجعش بيديا فارغين، قالها العجوز خافضا بدوره عينيه نحو الكيس بتواضع.

 رحت صباح بكري؟ سأل لخضر لملء الصمت الذي كان يحرجهما في كل لقاء.

 صباح بكري، قالها العجوز.

أراد لخضر ان يبدي بعض المجاملات قبل ان بغادر العجوز، و كالعادة، كان شيء ما يخفق عند مستوى حلقه، فتولد حرارة تحت جلد رقبته و يبقى مشدوها ينظر الى طرف حذاءه.

 ذهبت لأعزي نوار سالمي كان جارنا في السابق؛ غرق ابنه في البحر...

 ربي يرحمو.

نظر العجوز علي حوله، حك رأسه ثم قال: يكون في عمرك... صياد... أغرقت الأمواج قاربه...

كان في عمره، صحح لخضر بينه و بين نفسه.

ثم حرك قدميه كأنه يتهيآ للمغادرة ولكن عاد ينظر إلى حذاءه من جديد.

 الحاج لا باس، حاول العجوز أن يستفسر عن والد لخضر.

 مع الوقت...

أراد لخضر أن يضيف أن والده طريح الفراش منذ اسبوع لكنه لم يتفوه بكلمة.

فخطف العجوز منه الكلام و تمتم: ألم تذهب مرة أخرى ...هناك؟

 لا، كذب لخضر...

نظر العجوز طويلا بين عينيه ثم أومأ برأسه.

تسأل لخضر ،الذي قام برحلة قصيرة إلى فرنسا هذا الصيف، أن لم يكن الشيخ قد سمع بالسفر. فأحمر وجهه. من المؤكد أن الحاج يكون قد ألتقى به...

ثم أدار رأسه نحو السهل الممتد بقدر ما يمكن للعين رِؤيته و الطريق الفارغ.

 كنت أعرف شخصا، هنالك، و هو الأن في عطلة هنا، سأتصل به غدا...

ثم الصمت. ومازال الشيخ علي يحرك رأسه.

تساءل لاخضر ما الذي جعله يكذب مرة أخرى. وها هي شفتاه تتفوه بشكل غير متعمد: لزهر بخير؛ هو متزوج؛ لكن... ليس لديه وقت ليأتي...

 ولكنك عدت أنت، لامه العجوز بصوت ضعيف.

 المكتوب...

الأن كان يتقرب منهما على الطريق فلاح صحبة ابنه. كان الأب يتحدث بعنف و يضرب بصفحة يده فخذه مع كل فحجة لدعم كلماته بالتأكيد.

مر الرجلان أمامهما بسرعة دون إلقاء التحية، الولد منحني، يروح الهواء بقفة كبيرة فارغة على ما يبدو. على مستواهما أدار هذا الأخير نحوهما عينا بيضاء دون أن يحرك رأسه. فبقي الشيخ علي و لخضر في مكانهما يستمعان للأب موبخا ابنه لوقت طويل في البعد.

 عدت بالقطار، سأل لخضر.

 نعم، أجاب ألعجوز الذي تذكر أنه، في بداية اللقاء، كان يود الكشف بشيء فيما يخص قطار هذا المساء. لكنه لم يعد يفكر في الأمر الأن.

ثم مد يده المتعظمة للأخر، صافحه وأخذ كيسه و استأنف مشيته.

دخل لخضر مقهى، طلب شايا ثم ذهب ليجلس على كرسي حديدي منفرج الرجلين بالقرب من طاولة لعبة الدومينو. اللاعبين الأربع وهم من الأصدقاء حيوه و أحدهم لامه عن تأخيره لأن هذا التأخير سمح باستعانة خدمات هذا الطائش –مد ذقنه نحو زميله- الذي لا يفهم شيئا في الحجرات... اعتذر لخضر وقال لهم أن لقاء غير متوقع عطله في الطريق.

سيكون لخضر في سن الأربعين هذا الشتاء –إن شاء الله- ولقد مضى وقت لا بأس به منذ عودته من فرنسا.

هنالك، في البداية، هو وابن الشيخ علي – قد استقلا نفس الباخرة بالصدفة- عملا في الأراضي الشمالية كعمال مياومين لأنها كانت "الصنعة" الوحيدة التي مرساها في الجزائر؛ ثم مع مرور الوقت تم توظيفهما من طرف مؤسسة بناء و عملا فيها و معا لفترة طويلة حتى جاء يوم انزلاق لزهر من فوق السقالات و سقوطه على الأرض.
في ذلك الوقت، في الرسائل التي بعثها إلى والده، قد تجاهل الحادث حتى لا يضطر إلى تبرئة نفسه أمام أعين الناس عند عودته؛ كان شديد الحساسية ويبقى يعتقد حتى مماته أنه هو من جر لزهر بالقوة إلى هذه المغامرة؛ ثم قام تحت تأثير ضميره، بتغيير المدن والمهن والمعارف عدة مرات، ولكن دائمًا صورة صديق طفولته ، المحطم على الإسفلت، العائم في بركة كبيرة من الدم، تلاحقه.

وبعد سنين عاد ذات صباح وأخبر الشيخ علي أن المصير وظروف العمل قد فصلت بينه و بين ابنه منذ عامين. وبعد يوم قال أشياء أخرى لبعض أقاربه ... ثم بعد أسبوع مرض ومكث في الفراش لعدة أيام.

في إحدى الأمسيات، زاره الشيخ علي و بدا له بوجه شاحب وكأنه فقد الكثير من وزنه منذ آخر لقاءهما. كان قد أمضى تلك الليلة جالسًا على سريره بيديه على ركبتيه و بجسمه المتصبب عرقا يصرخ، متهلسًا من صورة المتوفى...

تعافى لخضر بعد شهر- في هذه الأثناء كان والده قد ضحى بثور وكانت الأسرة بأكملها قد قامت بزيارة العديد من الأضرحة - وقرر تجنب الشيخ علي والاشتغال على قطعة أرضهم والنسيان ...

 اللعبة مسدودة، قال الطائش و وضع حجيراته على الطاولة، ...

التفت زميله إلى لخضر الذي لم يلبث بكلمة واحدة منذ حضوره و استشهد به: أنظروا... أنظروا... رأسك على المقصلة وأنت تضحك... ثم كشف حجيرات زميله الأربع: كان عليك أن تلعب ال 4/5؛ ألا تحسب؟

 كان عليك أن تلعب 6/2 هنا ، أشار لخضر بإصبعه إلى رابط، حتى يتمكن صديقك أن يشد بال 5 و 6.

 مسدود... يضحك الأخر.

بعد ان عزى الشيخ علي عائلة السالمي
نزل مباشرة إلى المحطة - في طريقه اشترى صابونًا من عند طفل - ابتاع تذكرة لعودته وكان في مقصورة سيارة بأكثر من ساعة قبل انطلاق القطار.

شخص ما، بيده قبعته، صفر و بدأ يجري على الرصيف؛ فرأى رجلا ثم امرأة ثم طفلين يدخلون مقصورته؛ تحرك القطار وبدأ في سيره.

تسأل الشيخ علي عما إذا كان من اللائق به أن يترك مكانه حتى تكون المرأة قبالة زوجها بالقرب من النافذة ويذهب للزاوية الأخرة المحاذية للرواق ولكن حياءه أجبره على عدم التحرك.

من خلال الزجاج، كان يرى السهول والتلال التي اخضرت بعد هطول الأمطار الأخيرة وسماء حيث تتفكك بها غيوم بيضاء. فسمع: هل قرية أبي الصغيرة لا تزال بعيدة يا أمي؟

 نحن وصلنا، قال الرجل.

 أنا جائعة، يا أمي.

 ماري...نذرتها أمها.

قال الرجل فجأة: أنظروا... أنظروا... الأغنام...

كان القطار عند مستوى معبر وشاهد الشيخ علي مثله مثل المسافرين الأربع الأخرين الجالسين قبالته على نفس المقعد أغناما ثابتة، عددها يفوق الألف، وراعيها العجوز المنتصب وسط القطيع بدون تعبير واحد بين تقاسيم وجهه كان يرفع عصاه أمام تسلسل السيارات المارة.

 ماري، أجلسي بجانب السيد ،قال الرجل.

 لا، أجابت البنت.

لصق الرجل جبهته بالزجاج وقال: ّإذن لن نذهب عند جدي...

 أنا أذهب لوحدي، قال الطفل الأصغر.

التفت الشيخ علي و أبصر طفلا أسمر و أفطس.

 هل تظنين، يا روز، أنهم سيعرفونني بسهولة، قال الرجل بصوت مريب و جبهته لا تزال عالقة بالزجاج.
رفعت المرأة عينين زرقاوين فاتحتين نحو العجوز الذي كان يحدق إلى الطفلين وبدا لها كمن استولى عليه ذعر.

 عشرون سنة أظنها كثيرة، قالت.

 رأيت شيئا في القطار، يا مريم...

 ثمة دائما شيء ما يمكن رؤيته في القطار، قالت العجوز التي لم تأخذ في حياتها وسيلة التنقل هذه أو أي مركبة ألية أخرى باستثناء عربة الشيخ صالح التي أتت بها إلى هذا المنزل قبل خمسين عاما يوم زفافها.
 رأيت أناسا عائدين من بعيد.

 كانوا بالقطار.

 نعم، قال العجوز.

عدد على أصابعه. الأب و الأم وبنت و ولد. ثم عدد مرة ثانية في صمت.

دخل كلب مسن للغرفة الوحيدة الكبيرة ،تقرب من خالتي مريم و بدأ يحك جلده على ركبتها. ثم تمدد تحت المائدة متناسيا صحفة مليئة حليبا و فتات خبز.

 أخرج من هنا، يا كلب ابن كلب، صاح الشيخ علي ثم ركل الحيوان. كان واقفا، منحنيا ومازال الكيس البلاستيكي بيده.

انسحب الكلب من تحت المائدة ، نظر طويلا في عيني العجوز، شم صحفة الحليب ثم خرج.

 روحها كبيرة الكلاب، قالت خالتي مريم . كانت متربعة أمام قصعتها الخشبية حيث، بيديها في ذهاب و إياب، تفتل حبات الكسكسي.

 سأريه لحارس الغابة...

 هذا ما تقوله دائما ولما يأتون لقتل الكلاب تهربه بكرة نحو الأدغال، قالت خالتي مريم وهي تغض بصرها.

 سترين بعينيك... غضب الشيخ علي محدقا في العديد من المناديل التي تغطي رأس زوجته العجوز.

 هكذا رأيت داخل القطار...

 لم أر شيئا، قص الشيخ علي.

 لقد جاءوا من بعيد، على ما أظن، قالت خالتي مريم. كانت يداها تحرك حبات الكسكسي داخل القصعة.
بالخارج تغير الطقس.

 ستمطر الليلة، قال فجأة العجوز.

 لم ينزلوا معك في المحطة...

 لماذا تريدين أن ينزلوا في المحطة إذا كانوا متجهين نحو الجنوب...

 هذا صحيح... ثمة أناس يتجهون نحو الجنوب...قالت خالتي مريم.

 كانوا يتحدثون بفرنسية و يبدو أنهم لا يعرفون البلاد.
همس ملاك في أذن الشيخ علي: هل تظنين، يا روز... سيعرفونني بسهولة...

 من السواح، قالت خالتي مريم.

 البنت شقراء كأمها. و خمن: الولد اسمر كأبيه و أنا ...و أفطس مثلي.

 من السواح... كانت خالتي مريم تضيف الماء و الملح لحبات الكسكسي ...

انتصب العجوز ومشى نحو النافذة: من خلال الزجاج كان يرى أن الأشجار تقتلع أوراقها. سماء منخفضة تدفع غيوما كبيرة.

ثم انزلق بصره على الطريق وركض متسللاً حتى المحطة. مهجورة ...ثم انطلق طيفه خفيفا كظله في طريق صخري أحجاره تخبطها الأمطار... حتى المعبر.

وهناك، بقي قبالة قطار يمر مترجحا ممزقا الليل بعواءه الرهيب... لم تنتهي السيارات بمقصوراتها الفارغة المهجورة المضيئة وهي تمر وتمر...

كانت الأمطار تتساقط بقطراتها الثقيلة على ظهره المقوس، كتفيه، يديه، وجهه، رقبته، ساقيه الضعيفتين كما سقطت يوم جلد ابنه بالسياط و بسلسلة الدراجة في طرف ارضهم- الفاظه التي تعود اليوم كلازمة "سأدفنك حياً سأدفنك حياً"- في الخندق الذي امتلأ عن أخره والأمطار تتساقط ... لأن لزهر تخلى عن الثيران مدعيا استمرارية الأمطار منذ الصباح ثم لازم الفراش طيلة شهر قبل أن يهاجر...

 كانت تناديه لزهر، كذب العجوز، ومازال قرب النافذة قبالة الطوفان.

 لم تسمعه جيدا. كانت خالتي مريم تضع القدر الأن على النار.

بعد العشاء و الصلاة، تمدد الشيخ علي و خالتي مريم على السدة.

أغمض العجوز عينيه و خطفه النعاس. و جاء الحلم. حلمه هو بخلفية ذات بقع ملونة. فيظهر لزهر في الماء إلى الخصر بصدره العاري تحت مطر يخبط طيات النهر- جذع أرز قديم يدور وسط الدوامة- منتصبا و يقول لماذا أبتاه لماذا أبتاه... و هو الشيخ على الذي لا يميز نفسه في الحلم ولكن يحظر بصوته أو بنفسه في الظلال في ورق الشجر ربما مقرفصا على حافة النهر ربما منتصبا و يقول: أخرج منها يا ابن الكلب أخرج منها...

ولزهر المنهك القوى الذي يمد يده نحو الجذع( الذي لا يزال يدور ولا يغادر مركز الدوامة حتى أصبح هو المولد و ان النهر قد جره من بين الجبال و الأن لا يرغب في الاستمرار رغم قوة المياه الشرسة) محاولا التشبث به بقدميه في الوحل حتى كاحليه يقول: مستوى النهر في ارتفاع يا أبتاه مستوى النهر في ارتفاع... والشيخ علي الذي يصفق بيديه كمن يصفق السياط أكان مقرفصا أكان منتصبا بين ورق الأشجار قائلا لماذا لم أكن أنجبتك ميتا و دفنتك بيدي هذه لماذا لم أكن حرمتك خارج ممتلكاتي بكل موفقتي... و لزهر يقول لماذا أبتاه المياه أبتاه... و صوت العجوز الذي أصبح مجرد دويا مكتوما يتلاشى في أصداء هدير الجبل...

وتظهر دائما في الحلم، في نهاية الكابوس، على الضفة الأخرى، عجوزته مريم، واقفة تنظر إلى سطح الماء، تتسأل " إني لا أرى ابني إني لا أرى ابني " والشيخ علي الذي يقفز من فوق النهر ويأتيها وهو يقول " لا شيء لا شيء ماعدا السيبوز".

أحمد بن قريش (1952

متخرج من معهد البترول الجزائري

عملت بالصحراء الجزائرية حتى التقاعد

لدي هنا بالجزائر كتابان بالفرنسية في القصة القصيرة: "السراب" و"مرساة-غاطسة"
وفي الخارج نشرت لي "إديليفر" ديوان شعر: "رماح المطر" وديوان ترجمة لقصائد فرنسية : "قصائد مترجمة" و رواية: "انسجام عشائري

أحمد بن قريش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى