الخميس ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٨
بقلم إبراهيم خليل إبراهيم

قيثارة النبض

الأدب قدرة عقلية محضة تحاول اكتشاف الواقع الممكن وتهدف إلى تغييره ليصبح واقعاً واجباً وبين لحظتي الإمكان والوجوب تقبع الملاحظة والمشاهدة للأفعال الإنسانية بصرف النظر عن معتقداته حيث تصبح غاية الأدب كغيره من معالي الأمور جلب الخير للبشرية باستخدام الأنساق الثقافية والمعرفية كأساس والاهتمام بالذائقة الجمالية كتطوير وتطهير .
ويهدف هذا المدخل إلى استجلاء الخطاب الأدبي في ( قيثارة النبض ) للأديب الصحفي إبراهيم خليل إبراهيم حيث يجمع بين دفتي كتابه مجموعة من التوجهات المتقاطعة والرؤى المندمجة والأبنية المتباينة والمتماسة تبدأ بنص ( ذرات الرمال ) وتنتهي بنص ( ستبقى في القلب ) .
لم يتخل الكاتب عن دوره التربوي في توجيه عجلة سير المجتمع من واقع مسئولية الأديب تجاه المنبع والمصب فالنص الفني ينبع من المجتمع ثم يعود ليصب فيه مرة أخرى ... أي منه وإليه ... وحينما تترك المساحة للأديب لكي يكتب ما يشاء لابد أن يفتح للمتلقي باباً للإقناع فالمبدع حر في إنتاج ما يشاء بشرط أن يقنعنا بما يقدمه .
هذه مسئولية الأدب والأديب تجاه المجتمع والواقع فإذا صار الأدب فضاء غير متصل أو متماس مع واقع المنتج سيصبح كمن يغني للرمال تنبت زرعها دون بذر الحبات أو غرس الأشجار والري بصالح الماء .
إن الذي يدخل هذا الكتاب يصبح سائحا في عقلية جد مقننة تهتم بالمعالي وتكره السفسفاه وتنظر للحياة من نبضها وتنظم الحركة في الأوردة .
ولذا فإن الأديب الصحفي الموهوب إبراهيم خليل إبراهيم يكتب القصة القصيرة SHORT STORY وحبكة الفلاش PLOT ومداخل التناول PREFACE وتمهيدات السرد والعرض PRALOGE إلى جانب الشعر بتشكيلات وتقنيات تجريبية مستحدثة .
إن إنتاج النص الأدبي عند الأديب الصحفي المخلص إبراهيم خليل إبراهيم لا يخضع لتقاليد مسبقة أو توقعات افتراضية بل الأصل في الإنتاج التجديد والتجريب فالقصة عنده اشتراك الواقع في تعديل ذاته بمعنى انه لا يقوم بفرض سيطرته على شخصياته لكنه يدخل الشخصية ليرى كيف تفكر ؟ وفيمَ تفكر ؟ ثم ينتقل فكرها على لسانها ويهتم بالقصة الفكرة والقصة المنهج لا تشغله قصة الشخصية فالبطل عنده هو الحدث مما يجعلنا نفهم أن أدبينا الرائد لا تعنيه المسميات بل يهتم برصد الأفعال والحركات فحينما تسأله ابنته في حفل زواج عن معنى قول شاعر النيل حافظ إبراهيم ( الأم مدرسة ) ؟ يترك الإجابة لملاحظة ومشاهدة السائلة لدور أم العروسة وهذا ما جعله يمزج بين السرد والوصف والعرض دون توقف نهر السرد عند الوصف أو العرض وتلك قدرة عقلية إبداعية لا تتوافر إلا لدى العباقرة من كتاب القصة كأنطون تشيكوف وعبد الحكيم قاسم وألبرتو مورافيا .
فإذا قدم الومضة الحكائية كانت كمية الإشعاع ضخمة لتشغل مساحة كبيرة في عقل المتلقي فالمحب يقدم دمه ليحيا حبيبه حتى لو كلفه ذلك عمره كله .
وأدبينا إبراهيم خليل إبراهيم ( عاشق مصر ) بل هو ( خاتم عشاق مصر ) فهو يكتب عن تاريخ النصر ... يسجله حباً ويصور المدن والقرى والجبال والصحاري في مصر ... لا وصف رحالة ولا فاتحاً باباً للتسلية ولكنه يغرس شجرة حب بلاده في وسط قلبه ليستظل بها العابرون وينتفع بثمارها المخلصون وينكشف على جذوعها المتسلقون فهو سفير لبلاده في بلاده .. سفير مصري إلى أبناء مصر وحينما يقرأ المتلقي نص ( وافترقنا ) سوف تأتيه الإجابة .
الكتاب يتناول أفكاراً ومعالجات للأفكار .. يتحدث عن قتلى الحرب العالمية في العلمين وبكاء ذويهم وكلمات على القبر تثبت سفاهة الواقع أثناء الحرب العالمية الثانية كما يتناول في مكان سابق مدينة أسوان وجمال النيل وكرم أبناء مصر مع اليابانيين ليظهر التناقض بين كرم الطيبين وانتقام المجرمين ... يستدعي الطعام والشراب المصري وهو رمز لاستمرار الحياة والدعوة إليها ومساندة الأحياء وعلى الجانب الأخر يستبطن ضيفته اليابانية بحكايات والدها عن أيام تدمير هيروشيما ونجازاكي ... فهو يبرز وجهي العملة الإنسانية في كرمها وفجورها وكما استبطن ضيفته يستبطن ذاته في حكمة الشيخ عطية البيومي فيمزج بين الرمز والواقع وبين الخيال والحقيقة .
الأديب الصحفي إبراهيم خليل إبراهيم في أبسط العبارات يقدم واقعاً واجباً ويوجه قدرته العقلية لإضاءة الطريق لأبناء بلده ويزاوج بين المباشرة وغيرها في طرح خطابه الأدبي فهو طبيب يعالج الداء من منبعه ولا يلتفت إلى الأغراض وكذا الأديب الماهر ... يطرح تعالق تروس الواقع فلا ينفض عنها الصدأ بل يصلح الكسر والعطب .
إبراهيم خليل إبراهيم أديب اجتماعي ... سباح في بحر الحقيقة ... رُبان لسفينة تحاربها أمواج محيط السفاهة والانفلات في زمن أقرب لتشويه القيم فلم يترك الأديب البوصلة التي تحدد صحيح الاتجاه لهذا الوقت الغريب في حياة أبناء بلاده وهذا ما جعله يهتم بقضايا المرأة فهو يقدم نموذج المرأة القادرة على التفاعل والتغير فيتعرض لنموذج المتطورة في الثقافة والإدراك والوجدان مثل ( همت لاشين ) عاشقة الصين حينما يقدم قراءة لكتابها ويتعرض للمرأة الشاعرة والصحفية الأديبة التي رضى أن تكون له أماً كالراحلة الكريمة فاطمة السيد كما يعلن عن تفوق الشاعرة الشيخة أسماء صقر القاسمي ودورها في نشر الوعي الفكري وحرصها على بث الثقافة العربية الحقيقية عبر إصداراتها الورقية والإلكترونية وتفاعلها المجتمعي أفقياً ورأسياً وحرصها على تلاحم الصف العربي من خلال منظومة ثقافية توثق العرى بين الفوقي للمجتمع وبين البناء التحتي لتصبح الشخصية العربية متفاعلة أكثر من انفعالها فيقدم أكثر مما يتلقى .
أما إبراهيم خليل إبراهيم الشاعر فصاحب تجربة شعرية ملونة بانفعالاته الخاصة تاركة الآثار الجانبية من غيره فيقدم النص الكلاسيكي بتقنين خاص بالنص ومنتجه وغير متناص بنصوص سابقة ويمكن ملاحظة ذلك بالإطلاع على قصيدة ( وزير الأشواق ) التي يقول في مطلعها :
تقسم بالروح وما تحمل .... لا يأتي الحزن لنا يوما
حتى يقول :
وستبقى تحسب أنفاســـــي ... مسكاً فواحاً منسجما
فيستخدم تقنيات الكلاسيكية وتشكيلات التيار الرومانسي ووحدة الفكر الواقعي وتجربة تعالق العوامل النصية بالمتواليات من خلال مقومات المفردة بسببها وجنسها وكمها وكيفها وترابطها زمنياً ومكانياً ويحتاج شعر إبراهيم خليل إبراهيم إلى دراسة خاصة عن العلاقات النصية في شعره وكيفية استفادته بكل ممكن ليصبح جسراً يبلغه إلى كل ما يجب .
كذا يستخدم معرفته الفلسفية لعرض قصيدة النثر في مسارها الصحيح بتقديم شاعرية كونية جديدة بطرح الأسئلة على المتلقي متغييا قذف المتلقي في دائرة المعرفة الشعرية ويتبدى حرص الشاعر على خطابه الأدبي من خلال الرسالة والطريقة التي يبلغ بها الرسالة فيتمسك بأهمية الرسالة وآثارها في رسم شخصية مجتمعية تمتلك الفهم والقدرة على الفعل حيث إن النص الشعري لا يتكون من مفردات لغوية بل من علاقات جديدة ينتجها الكاتب مستخدماً قدرات عقلية في إعادة تسمية ( الماحول ) أو الموضوع وفي إصرار المجاهد حتى الشهادة يتخير مفرداته ويعيد موقعتها وتسميتها فلا تظل المفردة حاملة لمواقفها السابقة في المعجم بل تغير مسارها لتحمل إشعاعات جديدة .
ويجيء شعر إبراهيم خليل إبراهيم غير قابل للتحديد ولا التأطير ولكنه يحمل النزعة الإنسانية في الموضوع والصبغة الدرامية في التشكيل والخروج عن المألوف عند العرض وينصب جل توجهاته للمتلقي الفاعل الذي يتأثر بالنص ويؤثر فيه باعتبار المتلقي هدفاً وشريكاً في النص وليس ذلك تأثراً بـ ( هيدجر ) أو بتنظيرات ( ياوس ) لعمليات التلقي بل إنه متأثراً بالفكر العربي عند ( ابن جني ) رحمه الله .. وعبد القاهر الجرجاني في تنظيراتهما للبلاغة العربية ومراعاة مقتضى الحال .
أسعدتني قراءة هذا المنتج النصي المتميز لغةً وتشكيلاً وإيقاعاً ... تحيتي للرائد الراقي والأديب المقدم والصحفي الموهوب والمؤرخ اللامع إبراهيم خليل إبراهيم .
د. رمضان علي منصور
أستاذ الأدب والنقد والبلاغة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى