الأحد ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٤
قصة قصيرة
بقلم إيمان الوزير

كـــــوهين

طاولة مستديرة ... ووجوه معتقة ترتدي نظارات سميكة ...المكان يمتلأ برائحة عفونة قديمة وصدأ يترك بصماته على الأيدي المقيدة بسلاسل وجنازير في أقفاص عصافير ...ميزان باهت معلق على الحائط يبدو للأعين المطلة من خلف الأقفاص معوجا فقد بوصلته ...يحكي عن محكمة عليا تشحذ همم عليائها لمحاكمة اللامنتمين إلى عرقيتها ...محامية الدفاع امرأة مسنة تروي تجاعيدها قصص عرب متهمين بتخريب الأمن الإسرائيلي... حروفها فلّت من قرع الخطب لكن همّتها لم تفتر ..مضت بقوة تحاور هيئة المحكمة ، تسكب كلمات التبرير على جدلية هضم الحقوق ،وبين الحين والآخر تمد أصابعها نحو وجه بائس يطل من بين القضبان ، يحمل عينين عسليتين تحكيان قصة عمر لم يتجاوز السابعة عشر عاما ، تبدو كأنها عجاف قهر طويل ، في سنيها العشر الأولى فقدت ربّ أسرتها وقبل عامين رحل الشقيق الأكبر بفعل رصاص مطاطي .... بات عليها أن تحل مكانه في إطعام خمسة أطفال وأم فقدت ماء بصرها من كثرة النحيب ...يحتويهم سقف صفيح لحجرة يتيمة تطل على فناء صغير زُرعت عند أطرافه شجرتان أحدهما برتقال والأخرى زيتون ، مساحات الجوع تكبر لتتقلص أمامها أمعاء المحاصرين ، والأفواه الجائعة تفتح فاهها كل يوم بحثا عما يسد أودها .... كان عليها الخروج للعمل كما يخرج من هم بحالها إلى المستوطنة القريبة نظير أجرة يومية ...لا باس من قطف البرتقال في مزرعة كوهين... رغم الجراح التي تثقل الأيدي إلا أن المائة شيكل كفيلة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البيت المتصدع ...

بعد شهرين من العمل المضني بدأ كوهين العجوز الطاعن يكشر عن أنياب ذئب متصاب ، ينهش بها لقمة العيش من العاملات البائسات الصغيرات ... حين لاح لها سم الأفعى عنفت كوهين بصوت صخري ينذر بقرب عاصفة .. : جئت كي أعمل بعرق جبيني لا بجسدي هل تفهم أيها اليهودي
الهرم !!!!

رمقها بنظرة شرهة متقدة تنبئ بشؤم قادم ، لم تلق بالاً لتهديداته التي تعالت أمام وقع خطواتها الراحلة ... فقد قررت ألا تعمل لدى كوهين ...

عادت من ذكرياتها على صوت القاضي يسألها : إلى أي المنظمات الإرهابية تنتمين ؟
حبست أنفاسها تشحذ بها ذهنا مخضبا من آلام التعذيب و ( الشبح ) ثم قالت : منظمة الشرف العربي !!!

نظر إليها القاضي بشيء من العجب وقال : لابد من مراجعة قائمة المنظمات الإرهابية المسجلة لدينا ...أيها الضابط أضف اسم هذه المنظمة لننظر من الجهة المسؤولة عنها ...
هربت من صخب الجدل القانوني إلى حيث ذكرياتها من جديد .....حين لاح الفجر بخيوطه البراقة يصارع كحل الليل...يخترقه صوت المؤذن معانقا سكرات الظمأ في حناجر أتعبها الحصار والإضراب... يشحذ أنفاس التحدي في إطلالة يوم موعود على أرض موعودة بالنزيف اليومي ..استيقظت تحمل كواهل المسؤولية على كتفها ومضت نحو ساحة الباصات علّها تجد في المستعمرة وجها آخر غير وجه كوهين....وصل الباص عند نقطة التفتيش المحاطة بحواجز إسمنتية ضخمة ...لاح لها وجه الضابط الجامد ذو الأنف الطويل لقد اعتادت مشاهدته كل صباح بنظارته الشمسية السوداء التي لا تفارق وجهه يفتش من خلفها جموع العمال القادمين خوفا من أحدهم ...في ذلك اليوم بدى جموده مختلفا فقد خاطبها بقوله :ليلى ...أنت تملكين تصريحا ممنوعا من المرور عليك أن تعودي إلى قلقيلية .. قال ذلك بصوت ينذر ببدء المؤامرة على الرغيف ...استهجنت كلماته متسائلة عن السبب ...لكنه ركل صوتها المتضرع من استغاثات الجوع وأمرها بالعودة إلى قلقيلية ..
تجمدت الدمعة في عينيها ، هل تعود صفر اليدين إلى الأفواه الجائعة التي تنتظرها ؟

عجلات الباص عادت ثقيلة مشبعة بهموم الممنوعين من العمل في المستوطنة ...لاحت المسافة لها كأنها آلاف الأميال رغم أنها لا تتجاوز العشرين ميلا تحاصرها حوائط جدار يخنق المدينة بعلوه الشاهق ...

حين وصلت قلقيلية ...لم تشأ العودة إلى منزلها ...رفعت سماعة الهاتف وطلبت كوهين : آلو كوهين لقد حضرت إلى المستوطنة لأفاجئك بقبولي فلم يسمحوا لي ولا أدري لمَ ....

رد عليها بثعلبية : لا بأس يا عزيزتي عودي غدا وسيكون كل شيء على ما يرام ...

سمعت صوت قهقهته المنتشية بعنفوان المنتصر !!!شعرت بكلماته تخنقها وتفقدها حجم الاوكسجين المتشحة برائحة الإسمنت القادم من الجدار
عادت من ذكرياتها على صوت القاضي يسألها متى تعرفت على كوهين ؟ قضبت حاجبيها وأسدلت بصرها للأرض قائلة : منذ أن ضاعت عينا أمي !!!!!!!

جذبها لون البلاط في قاعة المحكمة لتتذكر كيف أنها بصقت على الأرض والهاتف بعد أن سمعت قهقة كوهين ....خطواتها نحو منزل الصفيح ثقيلة تتخطفها الأفكار ... لا تقوى على استكمال الخطى بعد أن وعت خيوط اللعبة ..

عجاج الشارع وتسارع أقدام الناس قرب منزلها أعادها إلى حيث كومات الأسى العالق على الجباه اللاهثة ...نظرت إلى وجوه الناس لتعرف ما يجري ..ركض ...وغبار ..ومنزل محطم وسيارة إسعاف تنقل أحد المصابين ...حاولت اللحاق بسيارة الإسعاف لكن تزاحم الأقدام منعها من ذلك .....سارعت إلى منزلها متخطية جموع الناس حتى تعثرت بأختها الصغرى كفاح وهي تبكي بلوعة ..أسرعت تحتضنها وتسرق من عينيها إجابات عن تساؤلات متلاحقة ....لقد أصيب احمد شقيقها الصغير بصاروخ طائش استهدف أحد النشطاء ..نجا الناشط وراح أحمد !!!!!

تجرعت مرارة الحسرة في قلبها وكمدت دموعها ثم سارعت إلى أقرب هاتف
: ألو كوهين .....

جاء صوته فرحا : أهلا ليلى ...أهلا حياتي

: كوهين يا عزيزي نسيت أن أطلب منك شيئا ..أريد فستانا أحمرا ..إنها المرة الأولى ...
: انتِ تؤمري

أطلّ فجر اليوم التالي حزينا والديك يصيح بصوت باك .. أم ثكلى تنحب مع آذان الفجر فقيدها ...نظرت ليلى إلى كل ما حولها وابتسمت للجميع : أمامي عمل لا يتأخر فالقطف له موعد آت
مضت نحو الباص تشد الخطى للقاء كوهين

كان كوهين بانتظارها عند نقطة التفتيش ...أسرعت تخرج التصريح من حقيبتها لكن الضابط الجامد خفف من جموده وقال لها في ضحكة ساخرة : لا بأس أعرفك جيدا ...

أجابته: وأنا أعرفك جيدا

أخذها كوهين من النقطة بسيارته الخاصة ..لكن خطواته لم تكتمل فقد هوت علي صدره بطعنات قهر من سكين مطبخ ...وهي تقهقه ..: كوهين لن أنتظر والدي ليقتل الذئب ......
عادت إلى المحكمة على صوت القاضي وهو يقول : حكمت المحكمة الإسرائيلية العليا بالسجن المؤبد على ليلى ....لقتلها المواطن كوهين

ضحكت في وجه القاضي وقالت: كوهين ألم تمت بعد !!!!!


مشاركة منتدى

  • صديقتنا العزبزة السلام وكل عام وانت بخير اتمنى ان نتواصل على درب الكلمة الصادقة اخييك واشد على قلمك وبارك الله فيك ولكن قصتك تحتاج الى النعد عن الغموض وممارسة الاستادية على القارى وشكرا فى انتضار الرد صديق القصاصين عبد الفتاح الزايدى ليبيا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى