الخميس ٨ تموز (يوليو) ٢٠٢١
قلق الشعر وألم الشاعر ورؤاه من خلال المجموعة الشعرية
بقلم الهادي عرجون

«لا أحب الآفلين» للشاعر سالم شرفي

ما قبل القول: يقول جوته: "لا وجود لفكرة شعرية فنية حية دون إيقاع"

عندما ينزل الشاعر من الأعالي مثل شمس خجولة ويقف على نهر من الضوء عاريا، يرقص على جذع القصيدة كحطاب يتفقد فأسا ويترك سلال الحلم تحملها الرؤى ليقشر بقلمه أعواما من الحزن على شفتيه ويكسر أقفاص الغياب حين يمر القارئ ككثيرين من أمام رماد قصائده. ليطل علينا الشاعر سالم شرفي بمجموعته الشعرية الجديدة التي اختار لها من الأسماء (لا أحب الآفلين) من عوالم تأسرنا للبحث عن مكنونات نصوصها وخصوصياتها الجمالية والدلالية، بتعمق لكون هذه النصوص تعكس مرحلة نفسية وإبداعية متميزة في تجربة صاحبها فهي البناء والأساس الذي يقوم عليه، فالمجموعة الصادرة عن دار المنتدى للنشر والتوزيع سنة 2021 في 93 صفحة، ضمت بين طياتها 16 قصيدة تنتمي إلى عمود الشعر والتي جاءت في شكل وحدة عضوية منسجمة على شكل لوحات جعلت من القصائد تعبر عن موقف شعوري واحد. فهو يرتبها كما ترتب الفسيفساء يقتنص معانيها ويلفها بغطاء شفاف من المشاعر والأحاسيس.

ننطلق من عتبة الإهداء " الطيبون لا يعيشون طويلا... إلى ابني يوسف الذي غاب ليشرق من مكان آخر" ليسكن الغياب و الحزن جسد الشاعر ويكسر أقفاص طفولته:

"أقشر
أعواما من الحزن في فمي
فتكسر أقفاص الغياب طفولتي"(ص60).

وكذلك في قوله:

"كن واضحا مثل الغياب
ولا تخن صمتا
إذا خرس الكلام سينطق
نهر من الأشواق يركض حافيا
كم نبضة في القلب منك ستشرق؟
ماذا تبقى في سلالك كلها؟
أوصدت بابك والغياب يصفق
لا صبر أيوب ولا دم يوسف
قطعت كفك والأنامل تطرق"(ص67/68).

وهو بين رغبة الخلق الأول ورعشة الصلصال الأولى يبحث عن تحقيق التناغم الإيقاعي والانسجام الذي يستطيع من خلاله أن يدخل المتعة في نفسية المتلقي، وكذلك اظهار الجانب النفسي، والانفعالي الذي تعيشه الذات الشاعرة. من خلال بحور الشعر التي اعتمدها والروي والقافية وما فيها من حرقة والم، فقد حرص الشاعر من خلال هذا أن يجعل من نصوص المجموعة متناسقة ومتناغمة. وهو في كل ذلك إنما يعني انتظام النص الشعري بجميع أجزائه في سياق كلي، أو سياقات جزئية تلتئم في سياق كلي جامع يجعل منها نظاما محسوسا، سواء كان ذلك ظاهرا أو خفيا.

فبتصفحنا للمجموعة الشعرية "لا أحب الآفلين" نتبين من العنوان أن الشاعر سالم شرفي يضع نصب أعييننا الحاله النفسية التي يعيشها لحظة الكتابة حيث أنه يعيش حالة صراع بين الألم والحزن من جهة والسعادة والفرح من جهة أخرى ليتحول النص إلى ركض ورقص بين لغة ضوئية إن جاز وصفها (الضوء / النور) تتلاشى تحت سلطة الظلمة (الليل/ الظل). التي وظفها لخدمة النص، للدلالة على الوجع والألم تارة وللدلالة على الفرح المغلف بطابع الحزن خاصة في صراع الأضداد لأن هذه التقابلات الثنائية هي التي تساعدنا على إدراك التخلخل النفسي والتوتر العاطفي لدى الشاعر، وتوحي بالضغط الداخلي لمخزون التفاعل الحيوي للمشاعر الإنسانية، كما أن التكرار بوصفه إيقاعا دورياً يمكن أن يلعب دوراً ثنائياً في تشكيل بنية القصيدة. إن الإيقاع والوزن يعتمد كلاهما على التكرار، وفي الوقت الذي يقوم فيه الإيقاع على تكرار مجموعة من المقاطع المحددة فإن الوزن يقوم على تكرار حفنة من الإيقاعات.

فعبارة مثل (الليل) التي تكررت في المجموعة 14 مرة، دون اعتبار الألفاظ التي تدل على معنى الظلمة (الظل / الظلام)، يقول في نص (أبعد من حتى) الذي بدا أكثر حزنا من بقية النصوص حين يقول:(ص 40):

"أكلما قلت:

يا أعشاب اتقدي
فاضت على القلب
أنهار من المحن
فالشمس من لهبي
والليل من أرقي
والأرض لو وقفت
طافت بها سفني"

في حين أن عبارة (ضوء/ نور) بجميع اشتقاقاتها قد وردت حوالي 35 مرة، والأمثلة كثيرة على ذلك في صفحات الكتاب مع العلم أن لفظة الضوء جاءت في بعض المواضع لتزيل الظلمة كما في قوله:

"كم جثة؟
يحتاج هذا الموت
كي تنسى المقابر غابة الأسماء
لي صهوة الأحلام
لي سفر الرؤى
شمس تذيب الليل في أضوائي"(ص25).

وكذلك في قوله: (ص42):

" يراود فيه الحلم والحلم غابة
فيدخل حقل الضوء
والضوء يصعد"

فهذه الثنائية (الليل ≠ الضوء) أو (النور≠الظل) استعملها الشاعر للتعبير عن الألم والوجع الذي رافقه وعبر عنه بصورة جلية فهو يحاصرنا بنمطية فرضها على طول المقاطع الشعرية في الديوان، فلا يخلو نص من نصوصه إلا وقد وشحه بسوداوية رغم ما فيها من أحلام ورؤى.

"نامي لأحلم
يا أنفاس ذاكرتي
فالحلم أبعد من حتى
ومن زمني"(ص41)

ليحقق النص التناغم الإيقاعي والانسجام الذي يستطيع من خلاله أن يدخل المتعة في نفسية المتلقي، وكذلك اظهار الجانب النفسي، والانفعالي الذي تعيشه ذات الشاعر، بين حلم ورؤيا، نعم ذلك الحلم الذي ما فتئ يعايش نصه ويجوب مسالكه حتى أنك تلاحظ وانت تتصفح الديوان تكرار هذه العبارة (الحلم) 20 مرة، والتي جاءت في بعض المواضع كما في قوله: (ص 58):

"نصبت فخاخا للآلئ في يدي
ونمت...
رأيت الحلم يحمل جثتي
تركت سلال الحلم
تحملها الرؤى
ضحكت كعشب فوق قبر حبيبتي"

كما نلاحظ أيضا حرص الشاعر على تكرار ثيمة (الرؤى) التي لها نفس معنى الحلم تقريبا، (11 مرة) بمختلف اشتقاقاتها (رؤى/ رؤيا...) وهو بذلك يسلط الضوء عليها، لتصبح الرؤيا مركز الإشعاع في النص دلاليا وايقاعيا. فمعنى كلمة "رُؤى": اسم علم مؤنث عربي، وهو جمع رؤيا. ومعناه: النظر بالعين، أو بالعقل، أو بالحلم. وفي اللسان: الرؤيا (بالألف) جمعها رؤى: ما تراه في المنام. والرؤية (بالمربوطة) جمعها رؤى: النظر بالعين أو القلب.

فنرى الشاعر يسافر جثته تارة في الرؤى وتارة أخرى نجمة ترث الرؤى ليداعب موسيقاها، فلولاها كما يقول لم يبق من نسل الرؤى إلاها.

"الليل حزن الأرض ذئب جائع
الفجر موسيقي الرؤي
لحت سرى" (ص47).

كما أن الشاعر في صياغته للكلمات التي تؤلف النسيج الشعري لقصيدته لا يتعامل معها تعاملاً اعتباطياً بل ينتقيها مستعملا في ذلك الخواص الحسية وجرسها، وقدرة على انتاج الدلالة التي يرمي اليها الشاعر لبث أفكاره عن طريق استنهاض الفكرة وطاقاتها الدلالية مع قوة الإيحاء. ويظهر ذلك حينما يجمع جملة من المفردات لدلالات مختلفة حين يقول:

"هي رعشة في الضوء
تكنس ليلها
وفراشة في الحلم
تحضن طيفها"(ص29).
والتي وردت أيضا في موضع آخر بنفس السياق حين يقول:
" تناسل مثل الحلم
صار فراشة
وأورثك الأضواء
وهو سليلها" (ص54)

ونلاحظ بالإضافة إلى الحلم والضوء والليل مجتمعة ذكر اسم (الفراشة) التي لها عدد دلالات، فالفراشة هنا، هي الطفولة، هي ذلك المستقبل الغامض، ذاكرة الإنسان الباحث عن إثبات الوجود، إثبات وجود لذات الشاعر المتفرد الذي يبحث عن الحياة، عن الطفولة والشباب في الحلم والعالم الافتراضي.

فمجموعة "لا أحب الآفلين" صورة لصراع الذات الداخلي الذي تحمله النصوص وانعتاقها فالظلام يملأ مفاصل النصوص ليغتال الضوء فطالما كان الظلام حاضرا في الصراع الثنائي (الليل ≠ الضوء) باعتباره الأداة المهيمنة على نصوص سالم شرفي في بناء الحدث الشعري أو التعبير عن حالته النفسية من ألم وحزن ويمكن القول إنه نجح في استعمال هذه الضدية إلى حد كبير حيث كشف لنا الطابع النفسي لحظة الكتابة وهموم الشاعر التي هي بالأساس هموم جماعية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى