الخميس ٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
بقلم مكرم رشيد الطالباني

لهيب بانميل

قصة: أحلام منصور ترجمة: مكرم رشيد الطالباني
وصلنا بسيارة (حكيم) العتيقة من بغداد إلى السعدية، وكان الركاب يطربون لتمضية الوقت وتقليل ملل الطريق، وكانوا يتجاذبون اطراف الحديث أحياناً وينهون ذلك الشجار الذي لا معنى له بينهم بسخرية.

كنت أرنو نحو الأشجار والبساتين المنتشرة على جانبي الطريق المتعرج، لم ارغب في إغماض عيني لئلا أحرم من تلك المناظر البديعة وعبق قداح البرتقال. منذ مدة وأنا لم أزر مديني المقدسة (خانقين) ولم أكن مطلعاً على تلك الملاحم التي كانت تحدث فيها بإستمرار بسبب بعدي عنها.

كنت في نظر الركاب أجنبياً غريباً، ولم يسألني أحدهم حيث كانوا يروون النكات العجيبة وقد اعتبرت راكباً منهم وذلك بإختلاط دخان سكائرنا.

كانت قوافل تلك السيارات الكبيرة والصغيرة الحجم جاعلة طريق المدينة صراطاً كصراط يوم القيامة، وكنا قلقين من إنزلاق سيارتنا تحت عجلات سيارات نقل النفط الطويلة وتدعسنا بعجلاتها لتختلط دماؤنا بالنفط وتغدو عظامنا رماداً. حين تركنا نقطة تفتيش السعدية كان الطريق يضيق وتشق سيارتنا طريقها بصعوبة فقد كنا نجعل عند كل مطبة وكان حكيم السائق يكيل علي مدير البلدية بسيل من الشتائم:

ـ يا إبن الزانية، لقد خلق لشرب الخمر واخذ الرشوة.

وكان الركاب يتلقفون منه ويكيلون بدورهم الشتائم لبعض أقارب علي ويشهدون بأن علي هو السارق الذي يقوم بخداع قائممقامي المدينة الواحد تلو الآخر معبدين شوارع المدينة بأكاذيبهم. وكان إبراهيم الشرطي الذي كانوا يسمونه (إباو) قد صب جام شتائمه على سابع جد (علة) وكان الركاب يسخرون منه:

ـ (إباو) لو كان (علة) يعرف بأنك ستزور بغداد أول مرة فإنه كان يقوم بتبليط الطريق قبل ذلك بأسبوع ولكن وا أسفاه!

كانت قطرات المطر تتساقط على زجاج سيارتنا المتكسر وكان الزجاج المترب يغدو نظيفاً رويداَ رويداً لتتشكل عليه رسوم وصور عجيبة.

كنا قلقين كي لا يغضب (الوند) فجأة ويهدم مدينتنا بفيضانه. كم كانت السيارة مسرعة وهي تتجه نحو المدينة وترتقي التلول فكان إبراهيم اكثر تلهفاً منها. لم يكن ليصبر، أنتفض في وجه السماء وكاد يمزق ثيابه خوفاً من الفيضان وكان صوته يرتفع بإستمرار وهو يصرخ: في العام الذي مضى أتانا نهر سيروان ويأتي هذه السنة من السماء ويشردنا فإلى أين نولي وجوهنا مع الحشد من أطفالنا؟

فغضب حكيم السائق وأردف قائلاً:

ـ بالله فالفيضان وحده سيكون كفيلاً للقضاء علينا. في العام الماضي تهدمت المقبرة. فقل للرب أين سيذهب الموتى؟ في السنة المنصرمة أصبح الموتى أسماكاً. وقد جاء دورنا هذه السنة ومن يدعي بأننا سوف نحصل على جدث؟ سيجرفنا الفيضان دون كفن ومراسيم الفاتحة والدفن، يا إبن الزانية (علة) لم يأتي بالرمل والحصو كي يسد به منافذ الوند؟ والنتيجة ماذا نفعل؟ إنه غني.. ما باله.. لديه قصر شامخ، والطامة الكبرى لنا نحن ستغدو بيوتنا الطينية أجداثاً.

لم يبق لدى إبراهيم شعور، كان مطمئناً بأن زوجته فريدة تثير الحي بصراخها وعويلها وهي تقول هلعاً : سأموت.. جاءني المخاض.. الآن.. الآن.. فأتوا بالقابلة.. الطفل يصعد فوق قلبي.. سأموت .. القابلة.. أتوا بإبراهيم.

كفر إبراهيم حين قال:ـ مسكينة فريدة إنها الآن تخاف من المطر كثيراً إلى حد لا يصدق.
كان بيننا راكباً إسمه حسن.. حين تناهى إلى أسماعه آخر كلمة من كلمات (إباو) وكأنه قد صب عليه البنزين حيث وجه سيلاً من الشتائم لزوجته فريدة:

ـ المتحشفة، لقد حبلت كالقطة؟ قسماً بإلله أن أطفالهم ليسوا من صلبهم.. أنت وزوجتك فريدة كشقيق وشقيقة، ليقبض الله روحكما أنتما واطفالكما القذرين. قل لي يا إبراهيم ماذا أعجبك من فريدة؟ ليست جميلة، وليست ذات معرفة.. تفووو.. على ساقيها الهزيلتين؟ إني اقسم بالله إنك حين تحتضنها تغمض عينيك.. يا ذا الحظ النكد قل لي.. إن حسن ليس صادقاً ؟ تحامل إبراهيم وقال متأففاً :

ـ أنه حظي النكد! فهي إبنة عمي.. إنني مضطر ان اعتني بها حيث لصقت بي ولن تبارحني، أين أولي وجهي منها؟ سيمزقني عمي. أقسم بضريح والدي إنها الآن قد ازعجت خانقين، لن تستطيع مدينة بأكملها الوقوف في وجهها.

ـ لأنك لست رجلاً، خسئت .. إنك تخاف منها كالكلب.

ـ كلا. إنها تخاف من شيئين.. الجن ومن ثم المطر.. حيث تريد ليلاً الذهاب لقضاء حاجاتها فتقول لي قف عند الباب، غير انني أسخر وأستهزء بها، وحين يتساقط المطر ويكون المخاض قد جاءها حيث تصرخ وتصرخ لتصم آذاني.. لذا تراني يوم تمطر وكأنني افجع بفاجعة، حيث حظي النكد يجعلها أن يأتيها المخاض يوم الفيضان لتولد.. وقبل الفيضان بيومين لا يستكين الطفل في بطنها، أود أن تنجب طفلاً سأرسله في العام الثاني من عمره إلى المدرسة.
فلطم حسن لطمة على رأس (إباو) وأردف يقول:

ـ فليقبض الله روحك.. لماذا لا تعرف بأن المرأة تنجب بعد تسعة اشهر من الحمل.. إنها تخدعك لكي تقوم بإحتضانك.

ضغط حكيم السائق على دواسة الوقود وكان يمسح زجاج السيارة تباعاً من الداخل.. مغيراً من الموضوع:

ـ كفوا عن ذلك فالدنيا جاءها المخاض والرجال أيضاً، هذا ليس مطراً؟

كاد المطر أن ينفذ من زجاج السيارة كالرصاص. وكانت التلول على الجانبين ترتفع رويداَ رويداً، فتح (إباو) نافذة السيارة وكأنه لم ير المدينة منذ مائة عام، وهو يشم عبق الأرض حيث قال:
ـ أف ما اعذب عبق خانقين.. لن استبدلها بالكون كله.

أمتزجت رائحة نفط شركة خانقين ـ بانميل ـ بأزهار جبال وتلول وسهول المدينة، وكانت نيران نفط بانميل ترتفع من بعيد وكان المطر يتساقط مدراراً على المنطقة .. حين شاهد الركاب من بعيد لهيب بانميل المرتفع نحو السماء وأزدادت دردشتهم قدر حرارة تلك النيران حول النفط والأنجليز، وزبدت افواههم وتصبب العرق من وجوههم. فصرخ (إباو) :

ـ (يمعود) وماذا أستفدنا نحن من النفط ؟ فإن ( أبو ناجي ) مهيمن ومسيطر بقبضته عليه.

ـ مادام النفط ينبع من أرضنا فإن خيراته ستكون لنا فأنظروا إلى نيرانه، يقال بأن هذه المدينة ستنتج النفط لمدة ألف عام، يقال سيأتي يوم ويغدو النفط كالوند، ولكن من يستطيع الآن التحدث معهم فإن أبناء الكلاب هؤلاء سيصبون نفطنا على رؤوسنا ليحقرونا.

ـ لماذا اهو (هوانطة) ؟ وهل هذه المدينة دون أصحاب ؟

وكل مطلق العنان لنفسه.

ـ ولكن وا أسفاه وهل يستطيع أحد التصارع مع (أبو ناجي)؟

ـ لقد ولى ذلك الزمان، إننا سنقضي عليهم غداً أو بعد غد فالمدينة ليست ملكاً لآبائهم.

ـ مادام ستخرج النفط بنفسه فيعتبره ملكاً له.

ـ سوف تشهد بأننا سنغرس أصابعنا في عيونهم غداً أو بعد غد .. صحيح أنهم يمتصون الآن دمانا ونفطنا سوية ولكن الدنيا ليست اليوم فقط .. فأنتظر وأدرك ماذا سيحدث غداً أو بعد غد.
وددت ان أقول شيئاً لكن سيارتنا وصلت إلى قمة آخر تلة على الطريق ومن ثم نزلت مباشرة بتأن لتقف عند نقطة التفتيش فدلف الشرطي كريم ساغ أولصي برأسه إلى داخل السيارة وهو يغطي راسه بقطعة من الغرارة وقال لـ(إباو):

ـ قرة عينك يا (إباو) لقد رزقك الله ولداً ولا تخف لقد هبت المدينة كلها لنجدة زوجتك.

ـ فأغرورقت عينا (إباو) بالدموع وقال بصوته الأجش:

ـ قسماً بإلله فإني سأرسله من الآن إلى المدرسة وأكشف له كل أسرار الأنجليز.

(*) بانميل منطقة في خانقين، فيها مصفى للنفط بإسم مصفى الوند، قام النظام السابق بإغلاقها ونقل محتوياتها إلى منشآت نفطية أخرى.

(إباو): كلمة تصغير لإبراهيم.
(علة): كلمة تصغير لعلي.
(أبو ناجي): الإنكليز.
(هوانطة): يعني (كل على هواه).

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى