الأربعاء ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم حسين أبو سعود

ليالي الأكوادور

في خضم البحث عن عنوان مناسب لهذا المقال تذكرت كتاب ليالي بشاور، ولمن لا يعرفه فهو كتاب في المناظرة بين المذاهب اجراها احد السلاطين الافغان بين علماء الطرفين، ولكن هل سيتناول هذا المقال القضايا المذهبية وهو مخصص أصلا لأدب الرحلات، والجواب كلا ولا علاقة لليالي الاكوادور بالليالي ولا بالف ليلة وليلة، ولكنه على اي حال عنوان لبعض مشاهداتنا في جمهورية الاكوادور الواقعة في امريكا الجنوبية، لقد هبطت الطائرة القادمة من ليما عاصمة بيرو الى مطار كيتو في الساعات الاولى للصباح، واذا به مطار بسيط، والحركة فيه بطيئة، ويقال بأن هذا المطار هو اصعب مطار للطيارين باعتباره ذو مدرج واحد ويقع وسط المدينة تماما والمدينة محاطة من جهاتها الاربعة بالجبال الشاهقة، وكان هناك صديق باستقبالنا في المطار فقلنا له بأننا نريد الذهاب مباشرة الى مدينة غواياكل ولكننا نريد ان نتناول الغداء قبل السفر، فاخذنا الى مطعم شعبي نظيف ولم يكن لنا خيار غير السمك، باعتبار ان اللحوم المذبوحة هناك ليست بالحلال لانها غير مذكاة على الطريقة الاسلامية، فطلبت بعض الخبز فقيل لي انه لا يوجد عندهم خبز ولكن هناك الموز الذي يتناوله السكان بكثافة، فهو ياتي مطبوخاً، مقلياً او مشوياً او على شكل رقائق خفيفة، وتقدم بعض المطاعم الرز ولكنه غير لذيذ البتة، غير انهم يلتهمونه التهاماً ومن المؤكد بانهم يقولون عن اطباقنا الشهية بانها بلا طعم، وهكذا فان كل حزب بما لديهم فرحون.

اخذنا مقاعدنا في الباص المريح، وقبل ان يتحرك دخل علينا شخص يحمل كاميرة فيديو وبدأ يصور المسافرين فردا فردا كاجراء احترازي للتعرف على الركاب في حالة حصول جريمة، لاسيما وان البلاد معروفة بانتشارالجريمة حتى قال لنا احدهم بان اكثر اصحاب سيارات التاكسي يتواطئون مع عصابات السلب والنهب ضد الركاب. وصرنا نعيش في حالة من اليقظة والحذر طوال الرحلة، بل وطوال بقاءنا في تلك البلاد. علما بان اكثر جمهوريات امريكا اللاتينية مبتلاة بالجرائم وتزداد النسبة في كولومبيا وفنزويلا فيما تم تحذيرنا كثيرا في العاصمة كيتو ومدينة (غوايا گل) وقد استغرقت الرحلة من كيتو العاصمة الى مدينة غواياگل التجارية حوالي ثمان ساعات علما بان المسافة لا تتعدى الـ 200 كيلو متر ولكن الطرق المعبدة جيدا تلتف بين الجبال الشاهقة جدا فصار الباص يسير بين الخضرة الممتدة على طول الطريق والمشاهد الخلابة والشلالات والمناظر الساحرة ويجتاز الانهار الجميلة، ولم يتوقف الباص الا مرة واحدة لتناول الطعام في مدينة ساحرة اسمها (سانتو رميغو) تكثر فيها المطاعم والفنادق.

واما مدينة غواياگل فهي كبرى المدن في الاكوادور وفيها ميناء تجاري ومبان كبيرة ومصانع، وهي اكثر المدن سكاناً، وقد وجدنا فيها جالية مسلمة تتكون من جنسيات مختلفة، اختاروا العيش في تلك المدينة النائية بحثا عن الرزق والاستقرار واكثرهم يعملون في المطاعم حيث نقلوا(الشاورما) والفلافل والشيشة الى هناك،ويظلون يعملون في المطاعم حتى ساعة متأخرة من الليل، فيعودون الى منازلهم ليناموا حتى ساعة متأخرة من النهار ثم يعودوا الى اعمالهم في تكرار يومي قد يكون ممتعا للبعض ومملا للبعض الاخر كل حسب حالته النفسية، وتحوي المدينة على مبان تعد آية في المعمار لاسيما الكنائس الضخمة الفخمة حيث النقوش الجميلة والزجاج المعشق، ولكن عدد المصلين كان قليلا جدا مقارنة مع حجم الكنيسة التي تستوعب الالاف تقريبا، مع اني رأيت في احد الدكاكين وهو مقر لبعثة تبشيرية خمسة من المصلين يمسكون بايدي بعضهم البعض وهم يصلون على شكل ويبدو انهم يعانون من مشاكل نفسية معقدة وهم من البروتستانت، كما لاحظت ان المسلمين قد أخذوا معهم خلافاتهم التاريخية القديمة الى هناك ايضا، الا في مدينة (كوينكا) حيث يخرج الشيعة والسنة كل عام يشاركهم عدد من الاكوادوريين في مسيرة ضخمة بمناسبة يوم المولد النبوي الشريف، حيث تحضر وسائل الاعلام لتغطية هذا الحدث المليء بالاعلام والرايات والالوان الذي يتخلله توزيع الاطعمة والاشربة والحلويات على المارة،وقد دعانا احد الاخوة لزيارة مدينة كونكا لانها مدينة جديرة بالمشاهدة حسب قوله، فذهبنا اليها فوجدناها كذلك فعلا وقد وجدنا فيها الكثير من كبار السن الامريكان الذين يفضلون قضاء الباقي من اعمارهم في هذه المدينة الساحرة لانها جميلة ورخيصة وآمنة، اذن فهي افضل مكان للمتقاعدين، هي مدينة هادئة مشيدة على الطريقة الاسبانية القديمة وفيها نهر هادر ينزل من الجبال المحيطة بالمدينة الواقعة اصلا على المرتفعات حيث يشعر البعض بنقص الاوكسجين في الوهلة الاولى تصاحبها اعراض اخرى مثل ثقل في الراس وضيق في التنفس سرعان ما يتعود عليها الزائر، وتمنيت لو تتاح لي الفرصة لاعود الى هذه المدينة واقيم فيها ستة اشهر متتالية لانجز ما بجعبتي من اعمال ادبية وفكرية غير مكتملة في جو من السحر والمتعة والهدوء والجمال.

لقد اخذونا في احد الايام الى جبال اكثر ارتفاعا والى بحيرات خيالية تنام بين الجبال، ووجدت من الازهار البرية ما لم أر مثلها في حياتي فكان المطر والصحو في وقت واحد ورأيت الغيوم تداعب اطراف الجبال، نعم شعرت بثقل في الراس وضغط في الاذن وضيق في التنفس الا ان متعة الصيد في الاحواض الاصطناعية انستني تلك الاعراض ولعل اعجب ما رأيت هو سمكة كانت ميتة بيد الصياد القاها في البحيرة فعادت اليها الحياة بقدرة قادر حيث تحركت قليلا قليلا حتى استعادت نشاطها كاملا. وقد تعود الناس هناك على ان يصطادوا ما يشاءون من السمك ليقوم في النهاية صاحب الحوض بوزن السمك المصطاد وقبض الثمن اي انه يبيعه بالوزن.

ولعل اجمل ما في مدينة كوينكا هي الاحواض الكبريتية الحارة المنتشرة في اطراف المدينة، وبالنسبة لي كانت تجربة فريدة رائعة ان انزل في جو بارد الى حوض ماء كبريتي حار و اكثر من يؤم تلك الاحواض هم كبار السن طلبا للعلاج من آلام الروماتيزم والمفاصل على انني قرأت في احدى الكتب الحديثية بان اتيان هذه الاحواض لطلب الشفاء مكروه من الناحية الشرعية.

وحان موعد العودة الى كيتو عاصمة الاكوادور استعدادا للعودة الى ارض الوطن، فركبنا الباص في الساعة الثامنة مساء لنقضي الليل كله في الطريق، وحدث ما لم يكن في الحسبان حيث هطلت امطار غزيرة ونحن في الطريق بين الغابات الكثيفة والجبال الشاهقة، فتعطل السير تماما بسبب الرياح الشديدة والمطر الغزير، فتخيلت بان الموت يتربص بنا هنا بعد ان نجانا الله تعالى من زلازل تشيلي، وتذكرت الجنازة التي رأيناها في مدينة غواياكل حيث كان يتبعها الرجال والنساء معا وبعضهم كان يرفع علما لفريق كرة قدم وكان يمشون بها الى المقبرة حيث اخبروني بانهم يمشون لمسافات بعيدة حتى يصلوا المقبرة التي هي عبارة عن حاويات توضع فيها الاجساد.

اذن سوف يقتلنا البرد والجوع ان نحن بقينا هنا، من ينقذنا؟ وقد حدث مثل هذا في الطريق من كابريرو الى سانتياغو حيث قضينا المسافة التي تستغرق اربع ساعات في اثني عشر ساعة ولكن كان معنا في حينه الكثير من الفواكه والبسكويت، واما هنا فلا شئ سوى الظلام والرعد والريح والبرق والمطر وريح صرصر عاتية لساعات في الليل البهيم بين مزارع الموز ولا موز.

وهل هناك سوى الله تعالى ينقذنا، وعندما وصلنا الى كيتو في اليوم التالي وكنت متمددا على فراشي الوثير في الفندق وقد ذهب العناء والتعب والخوف تذكرت ليلتي الماضية وتذكرت الظلام والامطار والاعاصير والبرد والجوع، وتذكرت الاية الكريمة ( ان مع العسر يسرا) وهكذا هي الحياة صعوبات ثم تساهيل، وحلاوة الكوارث انها تذكر الانسان بربه وتعيده اليه.

واذكر عندما توقف المطر وبدأت السيارات بالمسير كيف كنا نسافر بلذة ومتعة نحو الفجر الضحوك مع الاشجار والجبال، و دخلنا كيتو وقد اسفر النهار وبدأت حركة الناس بالتوجه الى اعمالهم وعندما نزلت من الباص قلت بطريقة لا ارادية وبصوت مسموع: صباح الخير كيتو، ودخلنا دكانا قريبا يبيع الفاكهة وكنا قد اعتدنا ان نشتري الفواكه الغريبة وما اكثرها هناك ونختار الاشكال العجيبة والالوان المختلفة والاحجام الغير الهندسية،نأكلها كلها وما استعذبنا طعمها كررنا شراءها وما لم نستسغ طعمها لا نشتريها مرة اخرى، واما اسماءها فلا يمكن حفظها لصعوبتها، وقبل التوجه الى المطار في الليل دخلنا مطعما لتناول العشاء الاخير، وجبة سمك كالعادة وقد عوّد صاحب المطعم زبائنه على كتابة ملاحظات على الجدار في ذم او مدح الطعام، فما كان مني الا ان تناولت القلم العريض الذي جاء به وكتبت عبارة (لا اله الا الله وذيلته بتوقيعي، ومن يعرف لعلها ستكون في ميزان حسناتي يوم القيامة.

وبدأ العد التنازلي وآن الاوان لنقول: وداعا كيتو، واعلنت المضيفة عن اقلاع الطائرة من مطار كيتو متوجهة الى مدريد، وهكذا تنتهي القصص، فقال زميلي وهو يلوح لمباني المدينة من الطائرة التي بدأت بالارتفاع عن الارض: العودة للاهل له طعم العسل.

ملاحظة: اللغة الرسمية للاكوادور هي الاسبانية اذ استعمرتها اسبانيا لثلاث قرون حيث دخلتها سنة 1534 م وخرجت منها سنة 1830 م.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى