الخميس ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٥
بقلم رياض أبو بكر

ليلةٌ حالكة

في تلك الليلةِ الحالكةِ جلسنا فوقَ رياحِ الذكرياتِ نستنشق الحكمةَ ونسافرُ عبرَ خفايا الذاتِ، نذرف دمعتَنا في إناءِ الحسرةِ فينكسر، فنتلّوع كأننا الرمضاءُ وننساب فوقَ لظى الزمانِ، فهذا هو الوطنُ المزروعُ فوق هاماتِنا محفورٌ ترابُه الأحمرُ براحاتِنا؛ أخذَ الجوى يدقُّ حاضرَنا والظلمُ يحاصرُنا ويأسر المستقبلُ آمالَنا ونغرقُ في مياهِ ماضينا، الشمسُ غربتْ وقد واعدتنا باللقاء فقبلنا البقاء وسنمكث ونرقد ناظرين لتلك الشمسِ ولو جفتْ عروقنا وانجلى ما بداخلِها من دماء .

أحدنا يتكلمُ بحرارة : سيسطع نورٌ ويمطر عدلٌ بغزارة.

والآخر بسخرية : قد جنَّ أبناءُ الحارة .

فقمت أشعل سيجارة .

أحدنا ذو أعينٍ دامية تعبث فيها قبورٌ من المدينة والريف وأطراف الضاحية، ويسأل دون إجابة، يرمي أفكاره لسحابة " ما الذي شنقَ الأفكار؟ وأسر النهار؟ وما يعنيه أيار؟ ماذا يعني انتصارُ الغرابِ لدى ديمقراطيةِ السرابِ؟ أيعني أن يقتل طفلي وهو مصطفٌ خلفي للصلاة ؟! أم قتل الشيخ وإحراق المحرابِ ؟!"

القلب المترعُ ليس به لحمٌ أو دمٌ بل أرض تتألم وزهر يتوجعُ، وأمةٌ لربها تتضرعُ، وداء بالمريضِ يطمعُ، تلك الليلة التي لم تعرف نارُها وطالت ظلالُها وضاقت الحياةُ بها، ابتسمتْ حينما علمتْ أن الدموعَ والدمَ ينزف من قبورِنا ليسريَ تحت الثرى، ويجري من صدورِنا، فتطايرتْ أوراقٌ كانت تصفّق لها راحاتُنا وجرتْ عبرَ النهرِ لتُكتب فوقَ البحرِ، النهرُ يبكي يستجدي يريد قرّاءه أن ينقذوه أو يدفنوه، ف"إكرام الميت دفنه"، لكن لا جدوى النهرُ استسلم ورمى كتاباتِنا على الضفة القصوى فوق قبّعةِ الصخر حيث زالتْ الشمس وذاب الهمس والغد يموت كالأمس.

لم يأبه الجميع لموتِ الربيع والدم النازف من قلبِ طفل رضيع ليحيا ذوو المستوى الرفيع، هذا….هذا….. هو الزمانُ الوضيع .

تذكرتُ حينا ولدتُ، حيث كانت أوّلُ صرخةٍ من فمي مغليةً على نارِ دمي "لا نحتاج إلى ماء بل إلى جلاءِ الدهماء"، وقد كان الشفاءُ في السماء، تعبنا فالتحفنا الخريف رغم أنه خفيف وادّعى أنه نيسان، صدقناه فمرتْ السنون والرياح ملّتْنا؛ فسقطنا فوقَ بحر الحياةِ، لم نكن حيتاناً بل الأضعف شأناً، التهمتنا الأسماكُ ثم قذفتنا بدعوى أننا الأشواكُ، ذاك البحر يقتل القواربَ إلا من ركب الغواربَ، لم نعرف أننا دعابةُ البحرِ بل كآبةُ العصرِ، اصطادونا وقتلونا لأننا رفضنا الجوع، وقلنا "لا للخنوع"، الصدق والوفاء ممنوع، الكفر فقط ما يحيا بكنف الربوع، ورجعنا أمواتاً على شاطئ العمرِ بعد غدرِ البحر والرمل يناجينا يبكي ولكن رفض أن يغذينا بهواءٍ ليس ملكاً له أو لقاتلينا، فتسجّينا بتابوت الوطن، نعم ما أجمل الموت لو كان النعش وطن والقبر بلادي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى