الاثنين ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم هيثم جبار الشويلي

ليلة عتماء

مهداة الى أرواح من سقطوا في حضرة سيدة النجاة

كنت كباقي الصبية أفرح عندما ألبس الملابس الملونة، وأفرح أيضاً وقت أن تضع أمي يديها الناعمتين على رأسي تمشط شعري برفق وحنان، أجراس الكنائس تلتزم الصمت والجميع يهرع صوب سيدة النجاة، كان ابي يرقص على انغام القداس، وكانت أمي ترتل بصلاتها، ترنو بعينيها تطلب من العذراء النجاة، الجميع يجتمع تحت سقف الرحمة، والجميع يستمع لسمفونية سماوية يرتلها ويرددها القداس، الكل يردد خلفه، كان الصدى يداعب أجراس الكنائس بخجلٍ، يلف المكان ويعود مرة أخرى يداعب مسامع الحضور، حمامات بيضاء تجلس على حافة النوافذ المطلة على الايوان الخارجي تتطلع بعينيها الصغيرتين صوب الجمع الكثيف الذي يستمع لصوت القداس بهيبة ووقار، حمامة أخرى تداعبها إحداهن، وأخرى ترفرف بأجنحتها، وأخريات يحلقن في الصحن الخارجي، شعاع الشمس يخترق النوافذ العليا، يميل تدريجياً نحو الأنزواء والأفول، والليل يقترب مع اقتراب القدر، وقتها أطلقت تساؤلات عدة، هل كان قدراً محتوماً علينا؟، أم قدرُ حاكه رعاة التخلف والجاهلية؟، ووقتها أيضاً لم أدرك حجم التساؤلات التي القيتها على عاتقي أنا، لماذا كل هذه الفوضاوية والعشوائية في الفهم؟، من سيفسر لي كل هذا... لا أعلم، لربما كان فهمي على قدر عقلي الصغير، لكن عقلي ليس بأصغر من عقولهم الصدأة، وقتها عرفت حجم عقولهم عندما سمعت العويل والصراخ، الرصاص يملأ المكان ويقتل أرواحاً جميلة يحيلها الى جثث خاوية، كانت تكتظ هنا تنتظر لحظة صلاة بينها وبين الله، القداس كان طريقنا نحو الله، ومن كان يجتمع لأجلنا صُلِبْ على الخشبة ذاتها التي صُلِبْ عليها المسيح، تمتزج دماؤه بدماء المسيح، يعلق على الجذعِ ذاته، تسيل دماؤه، تجتمع أسفل الجذع، يعتلي صوت الفجيعة، وتهرب الحمامات البيضاء، تودع المكان عنوة، تحاول الهروب من عُتاةٍ لايفقهون من جمال الحياة شيئاً.

هل يدرك الله حجم المأساة؟

لماذا يسحقون بأقدامهم الجثث الهامدة التي لاتحرك ساكناً؟

اما ما تبقى من الصغيرات الجميلات اللائي كان يرددن خلف القداس فقد اكتفوا، بالقاء قنبلة عمياء صهرتهن جميعاً تحت حرارتها اللاهبة التي تسلب الأرواح سر نضارتها وجمالها، الخراب والدمار يعم المكان يحيله إلى لُهُبٍ صاعدة وكومة حجارة وبقايا دخان ورائحة جثث ودماء تَصْبَغُ جدران الكنيسة.

وقتها كنت أنا مع أمي وأبي نحلق بأجنحة ملائكية صوب السماء ننظر إلى ما كان يحدث على أرض النجاة، كانت العذراء تذرف ما تبقى من دموعها، ترفع يديها الى الله تطلب الرحمة والعفو والمغفرة، رأيت القس يحلق بأجنحة شتى يطير كحمامة بيضاء، يرفرف بأجنحته الملونة صوب السماء، كان يداعبنا تارة وتارة أخرى نصعد على أجنحته الجميلة فرحين مهللين، ننتظر الصلاة وقرع أجراس الكنائس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى