الثلاثاء ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٠
جدلية الحزن والألم من خلال المجموعة الشعرية
بقلم الهادي عرجون

«لي في العراق حبيبة» للشاعر العراقي مديح الصادق

ما قبل القول: يقول الشاعر المبدع (مظفر النواب):

ما أظن أرضاً رويت بالدم
والشمس كأرض بلادي
وما أظن حزناً كحزن الناس فيها
ولكنها بلادي...
لا أبكي من القلب
ولا أضحك من القلب
ولا أموت من القلب... إلا فيها....

فظاهرة الحزن والألم من الظواهر التي عرف بها الشعر العربي المعاصر، فالشاعر عموما يجعل من الحزن بابا للدخول إلى الفن والإبداع والتعبير عن خوالج النفس، فالشعر المعاصر كما عبر عنه إسماعيل عز الدين بقوله:"وفي شعرنا المعاصر استفاضت نغمة الحزن حتى صارت ظاهرة تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إن الحزن قد صار محورا أساسيا في معظم ما يكتب الشعراء المعاصرون من قصائد"(1)، و قد تفرد بها الشعر العراقي حيث شكلت هذه الظاهرة، حالة انفعالية، ووسيلة للتعبير عن الواقع العراقي وما يعانيه من مآسٍ وآلام تواترت عليه عبر السنين، حتى بات الألم والحزن السمة المعبرة في شعرهم ليطل علينا الشاعر مديح الصادق بمجموعته الشعرية التي تحمل عنوان (لي في العراق حبيبة)، التي ضمت بين طياتها 24 قصيدة، والتي صدرت عن دار المختار للنشر والتوزيع.

بادئ ذي بدء يمكن أن ننطلق من عتبة العنوان (لي في العراق حبيبة) كعتبة نصية لها دلالاتها فالعنوان لا ينطق عن الهوى بل يأتي لإثبات شيء واقع في نفسية الشاعر يبحث عنه في جرعات هذيانه وعن ذاته التي تعاني غربة الشاعر وآلامه وغربة الوطن وأحزانه، ومع هذا فالشاعر مديح الصادق قد مدح حبيبته (العراق) مدحا صادقا مع ما تحمله جملة الحالات الوجودية التي يكابدها الوطن من وجع وقلق وحزن وألم انعكست على روح النص.

من الملاحظ عند تصفحنا للمجموعة الشعرية (لي في العراق حبيبة) أنها بنيت على ثنائية الحزن والألم وهو نتاج لواقع اجتماعي مر به العراق وما زال يمر به، مما جعل هذا الواقع محركا أساسيا وسمة بارة في نصوصها، فنرى الشاعر يحترق وهو يحمل فوق كاهله هموم وفواجع، الوطن يقول في نص (حبيبتي ووجه الوطن):

"أنَّى وليت وجهي
فثمَّ وجهان بلا ثالث
حبيبتي التي سرقت نومي
وفي محجريها كل مكر النساء
شاحبا مثلما الموت في مقلتيها نائما
كان وجه الوطن"

كما تجتمع الأغراض وتتناسق في قصيدة واحدة بانسيابية مده، فالشاعر حين يعبر عن خوالج النفس من آلام وأحزان، فهو يعبر من خلالها عن تجارب وأحاسيس جماعية يحس بها كل عراقي، لأن الكتابة الشعرية تستوجب التعبير عن الواقع المعيش وعن آلام المستضعفين وأوجاع الوطن الذي تتواتر عليه الأحزان وقد ذكر الشاعر (مجزرة سبايكر) التي ارتكبت بحق أبناء العراق والتي راح ضحيتها الآلاف من الشباب في عمر الزهور تركوا الحسرة والألم عند ذويهم وفي العراق ككل، حيث يقول في نص (حبيبتي ووجه الوطن):

"آه، بقدر النازحين عن ديارهم
وزفرة حرى
مثل تنهيدة أم المعلق في الجسر
وشهقة الرضيع الذي
في سبايكر غدرا أبوه قتل
بكت عينا حبيبتي دمعا
موشحاً دما"

كما يتجلّى معجم الحزن والموت في الكثير من النصوص سواء من عنوانها أم بين ثنايا النص والتي تحرك في داخلنا تلك الاستجابات المختزلة والدلالات التي من شأنها أن تظللنا بسحابة سوداء قاتمة انعكست على صفحات الديوان فبدا معجما الحزن والموت طاغيين مع وجود فرصة لاستعادة النبض والتقاط الأنفاس كلما أغرقنا الشاعر في السوداوية رغم ما في نصوصه من أمل وحب، لكن الشاعر مديح الصادق عندما يستعيد صوته وسيطرته على النصّ يعود إلى حزنه وآلامه يقول في نص (دم في السماء العراقية) ص111:

"أفواج الأرامل اللائي
خضبن الكفوف من دم الشهداء
الزاحفين وقد
لبسوا الصدور دروعا لهم
كنائس قد فجرت صلبانها
والمصلون تقطعت أوصالهم
في المعابد، في الجوامع
دم في السماء، دم في الشوارع
الموت مجانا يوزع
في كل بيت، في كل حي"

لتكون الصورة أكثر مباشرة وأقدر على التعبير في حالته النفسية ووجدانه الخاص، فتكرار كلمة (الدم) التي تكررت أكثر من (19 مرة) في المجموعة ليست مفردة مفرغة من كل معانيها ودلالاتها بل أنها تمثل الغربة والحزن والموت المسيطر، فالحزن (خبز الشعراء) كما قيل عنه، أما الفرح والتفاؤل فهو استثناء، وصدق الشاعر محمد الماغوط حين قال:"ليس الفرح مهنتنا"وبذلك يحاول الشاعر مديح الصادق أن يضعنا أمام حقيقة إحساسه بهذا الوطن في ذاته وانعكاس لما يمر به الوطن على نفسيته، كما أن التكرار المتعمّد في الديوان والإيقاع السريع للألفاظ والكلمات مع كثافة الصور بدوره يعكس لنا حالة واقعية يجسدها تارة ويخفيها تارة أخرى في ثنايا النص.

الشاعر مديح الصادق حزين ومتألم لوطنه، يجعل من الحزن بابا للدخول إلى الفن والإبداع ولكنه يحول هذا الألم والحزن إلى فلسفة شعرية، وفي خضم هذا الوجع والألم، لا ينسى هموم الأمة العربية والإسلامية، حيث يقول: في نص (تراتيل الدماء) ص104:

"دم يسيل
دم بلا ثورة يراق
كما في الشام
في القدس، وفي تعز
يموت الصائمون قبل وبعد الصوم
والحالمون بثوب العيد
مثلما يرتدي صغار السلاطين
المحتمين وراء الدروع
وخلف متاريس أبناء الخائبات
كما يموت الفتية الأحرار في العراق"

وأحيانا في تكرار بعض الحروف بعينها في النص، ممّا يعطي الألفاظ التي ترد فيها تلك الحروف أبعاداً تكشف عن حالة الشاعر النفسية والتي نجدها متواترة في بعض السطور كتكرار حرف الشين قرابة (414 مرة) وهومن الحروف الشجرية المهموسة، وقد اعتبرت النقاط الثلاث دموعا تساقطت من عين العاشق، فالشاعر مديح الصادق يعاني فراق محبوبته (العراق والأم) يحن إليها، حين يقول في نص (لي في العراق حبيبة) ص23:

"ليست ككل النساء حبيبتي
وما هو كسحر الباقيات جمالها
بابل في عينيها أرى
وفي القامة سومر لاح لي ملوكها
ذوائب الشعر تحكي لنا
آشور وما حكت
لشهرزاد من قصص، شهريار
وأخبارها العجيبة
هناك في العراق لي حبيبة"

ويليه حرف السين أكثر من (219 مرة) ويمتاز هذا الصوت بصفير عال يوحي بنفس قلقة، ويدل على الحرقة والانحدار والعلو وينسجم هذا مع رؤية الشاعر لواقعه وما يحيط به من ظلم واستبداد رغم أن هذا الحرف حرف مهموس بجرس إيقاعي ترتاح له الأذن، يشبهه الصوفيون بالمشط الذي تمشط به الجميلة شعرها، أو يشبهونه بالمحبوب يقول في نص: (باقة ورد لأمي) ص41:

"أنهار هذي الأرض
من نبع أمي... تجري
منها الخير، منها الطيب
منها ترضع الذمم
بل سلة الخبز
تمسي جبلا
إن لامست كفيك
وإن هبت رياح الشر
فدعواك لجرحنا بلسم"

والشاعر من خلال تكرار هذه الحروف يجعل من المتلقي متهيئا للدخول إلى عمق النص الشعري خاصة أن تكرار الحرف يحقق أثرا واضحا في ذهن المتلقي ويشده نحو المعنى الذي يريد الشاعر مديح الصادق التعبير عنه في نصوصه التي يستعرض من خلالها أحداثاً واقعية وتاريخية في شكل قبسات شعرية تعبر عن حالته بعيدا عن أمه العراق، حيث يجسد ويصور الحياة الواقعية بعيدا عن الوطن والتي يعيشها بكل ما فيها من مآسٍ وأحزان انعكست على نفسيته.

في الختام يمكن القول إنه من خلال تناولنا لشعر مديح الصادق نلاحظ هذا الحزن الكامن في العمق المنتشر بين السطور المبعثر في العواطف الكامنة في نصوصه بدت صريحة تارة وخفية تارة أخرى تقودنا إليها موسيقا الشجن والفرح لتحملنا على أجنحة المعنى ليبعث برسائل إلى المتلقي الذي يبحث عن روح النص دون تنميق وتزويق لفظي فالعبارة سهلة بسيطة تحرك وجدان المتلقي وتفتح له مسارب النص وترسم له جغرافية مروره عبر ثناياه، وهو بذلك يخالف رأي الشّاعر أدونيس في قوله:"القارئ يحدّد الكاتب من الخارج والكاتب يحدّد نفسه من الدّاخل". ليكون التميز والتفرد ويحصل التفاعل والمتعة، فشعر مديح الصادق وما يحمله من رؤية إبداعية وعمق شعري متأصل وما تميز به في بنية الروح المملوءة بالشجن والحزن.
لننتهِ في خلاصة القول إلى أن ظاهرة الحزن في الشعر العراقي الحديث والمعاصر عموما قد شكلت علامة مميزة وفارقة حتى أصبح المحرك الأساسي في عملية الإبداع الشعري العراقي ليفيض حزناً وبكائية في لغته وعاطفته وتكوينه الوجداني، وهنا تحضرني الساعة مقولة لبلزاك يقول فيها:"الألم لا نهائي، أما الفرح فمحدود"(2).

عز الدين اسماعيل:(1929-2007) ناقد وأستاذ جامعي مصري


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى