الخميس ٣١ أيار (مايو) ٢٠١٨
ذاكرة القهوة بنكهة رمضان (12)
بقلم سماح خليفة

مازالت رائحة التوت تزكم أنفي

هل يحدث أن أنزفني شوقا ذات حلم، لشجرة التوت التي أزكمت أنفي ثمارها الخضراء الصغيرة الناضجة المطرزة بشقاوة أناملنا نحن الأطفال الذين حملتهم حكاياتهم المتوهجة في وضح النهار لاحتضانها وتسلقها.

لم تتسيد حوش دار سيدي فقط، بل تسيدت قلبي وذاكرتي، لم أستلذ في طفولتي بمذاق ثمار التوت كما تلذذت بثمارها التي اهدتنيها رطبا جنية تساقطت كلما هززنا فروعها بمحبة ووفاء.

كان صباحا رائقا في دار سيدي، عندما استيقظت وأنا أتلمس بقايا حلم حريري دثر ذاكرتي بحب.

فتحت جفني المطبقان من ليلة أثقلتها عباءة السهر حتى حجبت نور الدهشة في عيني.
لملمت ما تساقط من بقايا حلم على أغصان شجرة التوت وحملت كلي حتى وصلت المغسلة، نضحت الماء في وجهي محاولة ترتيب شعري وهندامي؛ فأمي ليست هنا لتساعدني في رفع شعري الكثيف وتوغل أصابعها الحانية في سواده ليزداد جمالا وألقا.

على خلاف شعر بنات خالي، شعر أشقر كثيف طويل، لغة أجنبية بلكنة متكسرة يرطن بها مع والدتهن، أحاول ترجمة ما يقلنه من خلال تعابير الوجه وحركة اليدين عبثا.

لم تدعوني زوجة خالي لتسرح شعري، استأت كثيرا، فلملمته أنا على عجل، وشددته بربطة بيضاء اللون،جلست أنتظر جدتي حتى دعتنا لتناول الإفطار، وما إن فرغت حتى همست لابنة خالي: "تعالي نروح نلقط توت"، وفاتني جهلها للعربية حتى رأيت ملامحها وهي تنظر إلي كالبلهاء. أشرت لها بيدي لتتبعني وفعلت. انطلقنا نحو شجرة التوت.

كنت أشعر بها ترحب بنا، خشخشة أوراقها سمفونية تعزف على مسامعي لحنا للجمال الرباني.

كانت عظيمة كثيفة ضخمة جذورها ضاربة في الأرض بعمق، فروعها تشمخ إلى عنان السماء بكبرياء.

ركضت مسرعة أباعد بين أوراقها وأغصانها حتى عانقتها بشدة، كانت تحتضنني بلهفة، تسلقت فروعها حتى جلست على أحدها، بدأت ألتهم ثمار التوت، كانت ابنة خالي ترمقني بعين الدهشة، وبدأت أقذف حبات التوت صوبها حتى طرق باب الحوش فجأة.

هرعت تفتح الباب فإذا بأمي وأخواتي قد تصدرن المشهد الأمامي في حكاية زوجة خالي التي لا تفتح الباب عندما يرن الجرس. عاتبنها ولم تدرك ما قلنه، حتى رفعت صوتي وقلت:

الجرس يعني ترن ترن ترن..... فضحك الجميع.

وبعد إن جلس الجميع في فيء شجرة التوت ألقيت على مسامع جدتي سؤالا: هل ستموت شجرة التوت يوما يا جدتي؟ تنهدت ثم أردفت: سيقتلها أبناؤها يا ستي قبل أن تموت.

استأت كثيرا من إجابة جدتي التي أحزنتني ولم أدرك مغزى ما قالته؛ حتى أصبحت شابة تزوجت وغادرت طوباس لأعود ذات يوم لحضنها فأجدها اجتثت وقد صب مكانها الباطون.

ماتت الشجرة ومات الحلم ولا زالت رائحة التوت تزكم أنفي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى