السبت ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢١
بقلم غزالة الزهراء

مالم يكن في الحسبان

«لقد سلبته منك بالقوة، افعلي ما تشائين»
التوقيع: نورا
التهمت عيناها النجلاوان ما نسج على متن هذه الوريقة الصغيرة، زفير حارق تصاعدت أبخرته كاللهب من أحشاء غيداء، لفها دثار قاتل من الصمت العميق، الأسى يتخبط في عينيها النجلاوين مثلما يتخبط الجنين في بطن أمه، كبرياؤها كأنثى قد حزت فيه رماح غدر مسموم ، وأحاسيسها البكر هي الأخرى مذبوحة ببشاعة مطلقة لم ترمم انهياراتها بعد، من يشيد لها توازنا نفسيا محكما تتكئ عليه؟ ومن يرسم على وجوه صغارها ألق سعادة دائمة، واشراقة غد موعود؟ فؤادها الجريح يتصبب ألما، ويصرخ بصمت موحش في وجه النفاق والرياء نابذا كل أشكال الخيانة التي تذبح الأحاسيس الريانة وهي في أوج اتقادها. هل يكون الانتقام منهما ترياقا شافيا يغذي أوردتها بمصل الانتعاش؟ وهل يتحقق ذلك في يوم ما لتنهض من فجيعتها متماسكة من غير كسور ولا ندبات، وتتغنى بأهازيج انتصارها؟
هي ثرية العاطفة، غنية الفكر، ومرموقة الخلق، هل تقذف بكل هاته الخصال عرض الحائط وهي ملوثة اليدين بدمهما النتن، وتصير في وقت وجيز رهينة قضبان حديدية صلبة تحد من تحركاتها بشكل رهيب؟ لا، وألف لا، ليس من طبيعتها أن تشن حربا ضروسا ضد أي إنسان، فلتفوض أمرها لخالق الكون لأنه يمهل ولا يهمل.
قال لها وهما في حكم المخطوبين: غيداء حبيبتي لن أتجاسر مطلقا على التفريط فيك، درة ثمينة مثلك سأخبئها بين رموش عيني.
بابتسامة ناصعة كالعقيق ابتلعت محياها: أأنت جاد فيما تطربني به من حلو الكلام؟ ألا تلحق بك السنون الزاحفة تغييرا ناحيتي؟
ـــ أبدا، أبدا يا توأم روحي.
سكت هنيهة ثم أضاف عساه يتوصل إلى إقناعها: لن أتردد ولو لحظة من لحظات عمري في تلبية كامل طلباتك، ستكون بين يديك في طرفة عين شريطة أن تلغي من دماغك فكرة العمل خارج البيت. ما رأيك في اقتراحي هذا؟
ـــ الوظيفة لا يكون لها بالغ التأثير على علاقتي بك، والاهمال لن يكون من نصيبي في أداء واجباتي كزوجة نحو زوجها، سأسعى جاهدة للتوفيق بين الاثنين، البيت والوظيفة على حد سواء.
ـــ فكرة كهذه لا تروق لي بتاتا، أعدك ألا ينقصك شيء وأنت بجانبي، لماذا تودين ارهاق نفسك أكثر مما ينبغي؟
بعد محاولات عدة مشحونة بإلحاح تلو إلحاح رضخت لمطلبه، وكان زفافهما أبهى زفاف أسعد الأهل والمقربين والأصدقاء.
مر عام يجر عاما وهما يتبختران في نعيم سعادتهما وقد أسفر ذلك عن انجاب توأمين رائعين، السعادة التي كانا يرشفان من نبعها الغزير لم يدم عمرها طويلا، بل هناك من تجرد من معالم آدميته فافتك بها وبالتالي شتتها وأبادها.
أبرقت في سرها وهي مقتنعة بما تفكر به: لن أقعد مكتوفة اليدين جراء مما حصل واضعة يدي على خدي، ونادبة حظي العاثر، سأتحرك بكل شجاعة نحو هدفي المنشود، وأحقق ذاتي من خلال وظيفة لائقة تلائم مستواي الجامعي.
وذات يوم ارتطمت غيداء بالصاعقة، نبأ مؤلم ضعضع كيانها فكانت السباقة إلى المشفى وهي غير مستوعبة مما سمعته.
ـــ كيف حدث هذا؟ وأين زوجك؟
أسبلت نورا عينيها في ندم جلي ثم قالت باقتضاب شديد: في العناية المركزة.
وتابعت تقول بنبرة تنز ألما: لم يتمكن من السيطرة على سيارته، انحرفت عن مسارها وبالتالي حدث ما حدث. إنه في حالة سيئة للغاية لا تومئ بالخير أبدا، اصفحي عني عما سببته لك من أذية لمشاعرك، واحباط معنوياتك، وتدمير روحك النبيلة على أعتاب أنانيتي الزائدة عن حدها.
ـــ منذ صغرك وأنت على هذه الحال، في ثنايا قلبك حقد يتأجج، لن تنطفئ شرارته ناحيتي، كوني على يقين بأن قلبي سيظل مشرعا دفتيه لاحتوائك.
ـــ كنت فعلا متغطرسة وحقودة لا يستهويني من الحياة سوى اغتصاب ما في يدك والتلذذ بطعم انتصاراتي، الضغينة بلغت بي مبلغها حيث أعمت بصيرتي لأن أصب على تلك الوريقة حمم خيانتي لتحترقي بلسعاتها، ورميتها تحت باب بيتك، سلبت منك زوجك، أب أولادك بطرق ملتوية ومغشوشة، أرجو مسامحتي.

تفيأت ظلال الصمت مرغمة ثم استأنفت قائلة بصوت أجش: كان لي ما أردت، ولكن ما الفائدة من ذلك كله؟ الندم على ما اقترفت استحال إلى عذاب مزمن يمزق شراييني، وها أنذا صرت مشلولة بين ليلة وضحاها، أليس هذا هو العقاب العسير الذي أستحقه؟
انخرطت غيداء في نحيب مر نظرا للحالة المتدهورة التي آلت إليها أختها نورا.
قالت بعدما مسحت دموعا جارفة انحدرت متسارعة على خديها: لن أتخلى عنك في محنتك، أنت شقيقتي، وستبقين شقيقتي على مدى الحياة.
ومن ثم انحنت عليها واحتوتها بين دفء ذراعيها لتشعرها بمدى حبها الحميم لها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى