الأحد ٨ آذار (مارس) ٢٠٢٠
بقلم الحسان عشاق

محاكمة مقرفة

وجوه متكلسة أكلتها الشمس، وبصم الفقر المدقع على أجسادهم أخاديد غائرة، متفرجون منفرجو الأسارير، يجدون لذة في قتل الوقت بالتفرج على غسيل الناس، متقاعدون يحملون على أكتافهم نعوشا من الانكسار، يبحثون في ردهات المكاتب الدبقة الاستفزازية عن فرح فر من سجن الأبدان في لحظة سهو، الأدمغة البالية تمضغ الجرائم المثيرة التي ترعد الفرائص بذعر، يلعنون الزمن العاهر الذي ترتكب فيه أفعال يندى لها الجبين، باحثون عن اللذة يلعقون أجساد الكواعب، يتصيدون المطلقات والعوانس، يحلمون بليلة داعرة، سماسرة يبيعون الوهم، نظرات متفحصة مدربة، تبحث عن صيد ثمين، فما أكثر الضحايا الذين يسقطون في الشباك المنصوبة، الوطن حقل لتفريخ الدجالين والنصابين، كل يوم يسقط آلاف الضحايا ويسقط نصاب، وتقرع أجراس الاحتراس، وتتطور أساليب النصب، وسيبقى النصب احد أوجه فساد المجتمع مادام هناك جيش من المغفلين وجيش من المحرومين.

النظرات المنكسرة المشدوهة، مشدودة إلى الكراسي الفارغة، التي تبدو وكأنها معلقة في الهواء، انفتح باب صغير، انتصب الجميع وقوفا دفعة واحدة، تماما كتلاميذ المدارس عندما يقومون ويقعدون في خشوع وقدسية تحية للمعلم، ليس احتراما وإنما خوفا من العقاب ،أطبق الصمت المتقطع، صاحب البذلة الزرقاء ذات الأزرار الذهبية، يزجر بصوته الخشن بعض النسوة اللواتي يثرثرون بدون اكتراث، عيونه الوقحة تنهش الأجسام الفتية تنفذ إلى مناطق الظل، تلك التي لا تراها الشمس ، يمرر لسانه القرمزي على شفتيه، امرأة تمسك رضيعا بحنان، عيناه الصغيرة مغمضة، فمه ملتصق بالنهد المندلق على الصدر شبيه بجرد يطل من حجر، البراءة تسبح على محياه، ينام على الصدر بأمان غير مبال بالعالم الغريب الذي ادخل إليه دون إرادته، قدر أبناء الفقراء، السفر في بطون الأماكن الأكثر وحشة، الأكثر قذارة، صورة بخسة لرحيل مر في تجاويف الحياة

 أغبياء هؤلاء ...

 لماذا...؟

-يبحثون عن المشاكل أينما وجدت ويقضون أعمارهم في ردهات المكاتب الدبقة، خصومات على الأرض والدجاج والحمير والخمر والاغتصاب الأموال التي يجمعونها يدفعونها بسخاء للغرباء.

 انه قدرهم

 أو قدر عليهم ...؟

 من يدري...
أصحاب البدل السوداء التي يتدلى منها شريط اخضر، يدلفون الواحد تلو الآخر، الابتسامات الماكرة تنبصق من السحنات، الشعور بالقوة يضمخ تضاريس الوجوه، يرقص مزهوا ملتهبا، نافذا، فتاكا، ففي أيديهم تعلق مصائر الناس، لهم أن يفعلوا ما شاءوا، أن يجرموا البريء ويبرؤوا المجرم، لا مكان للضمير في زمن البيع والشراء، والبحت عن اقرب السبل لجمع الثروة، لا يهم كيف، مادام الرقيب غارق في النوم، يطالب بنصيبه من الغنيمة، أكوام الأوراق المهلهلة والمصفرة توزع ذات اليمين وذات الشمال، الصمت الجنائزي أطبق على القاعة، إلا من بعض الكحات المشنوقة، القلوب الخائفة تمضمض في حلوقها بسملة باهتة، في حيرة من أمرها، الآمل مشدود إلى خيط رقيق، صاحب الحذاء العريض ينادي على أشباح تم حشرهم في غرفة مظلمة مجاورة، المقل الذابلة تطل من كوة صغيرة تصطدم بالنور فتدمع، كالخارجين من جوف الأرض بعد سجن طويل، الرعشة تستبد بهم تلبسهم، ربما يعرفون أن الجرم الذي أتوه لا يعفي من العقاب، وان العقوبة ستكون قاسية وان أجسادهم لن تستنشق هواء الحرية إلا بعد سنوات.

وقف شاب بوجه مصفر تخترقه ندوب عميقة كتمثال فرعوني عبثت به السنون، يرتجف من شدة الخوف يكاد يسقط نودي على فتاة في مقتبل العمر، توسطهما أصحاب البدل السوداء التي يتدلى منها شريط ابيض، وقت قليل انصرم، تكلم احدهم عن الظروف الاجتماعية التي تؤدي بالفرد إلى ارتكاب بعض الأخطاء في فترة تهور، عن العطالة التي تقطع سيوفها الملايين من رقاب أبناء الوطن، عن الفوارق الاجتماعية التي أدت إلى بروز ظواهر اجتماعية مجرمة ليس الفرد مسئولا عنها لأنها فرضت عليه. رائحة السياسة بدأت تزكم الأنوف، ربما أراد أن يحول القضية إلى مسالة سياسية، فالسياسة أصبحت أفيون المجتمعات المتخلفة، يمضغون الأمور السياسية صباح مساء، ينظرون في المقاهي والحانات في الإدارات وغرف النوم، والمراحيض، يضاجعون السياسة كمن يضاجع عاهرة في ليلة سكر طافح وفي الصباح يتكشف أنها سرقت حافظة نقوده، فيصب لعناته على الموسمات في بقاع العالم، يقسم بأنه لن يعاشر امرأة في حياته. لكن عندما تبدأ عملية التسخين ويبدأ اللاعبون في الدخول إلى الملاعب، تجدهم يندفعون نحو أولياء النعم لاستجداء الصدقات، يسوقون حججا واهية لتلميع صورة من عاقرهم زجاجة من النبيذ المعتق وازجل لهم العطاء، ويصدرون أحكاما اعتباطية على كل من تمردعلى طقوس سائدة أصبحت تقليدا وقاعدة عامة.

 لهذه الأسباب التمس من عدالتكم الموقرة تمتيع موكلي بالسراح المؤقت أو تبرئته من المنسوب إليه، لان جريمة الاغتصاب غير ثابتة نظرا لغياب أدلة ولمحكمتكم واسع النظر.
لا ادري لماذا يكررون هذه الاسطوانة البالية والمملة... هل لان مجال اشتغالهم ينحصر في البحث عن بعض القرائن والأدلة السطحية.... فالقضايا عامة تدخل فيها عوامل كثيرة، بدءا من البحث التمهيدي الذي ينجز في المخافر، وغالبا ما يكون مبالغ فيه، والتصريحات التي يدلي بها الأضناء تنتزع تحت التعذيب والإرهاب النفسي، والدفاع في هذه الحالة معصوب العيون لأنه لم يحضر أطوار البحث التمهيدي، وعمله يقتصر على استغلال بعض الثغرات الهشة المضمنة في المحضر وكذا علاقاته داخل المحكمة، والشاطر من يعزف على جميع الأوتار، طريقة بائسة تقتل الاجتهاد والبحث، وتسقط بعض أصحاب البدل السوداء ذات الشريط الأبيض في برك الآسن والتجارة الرخيصة وتفقد الهيبة، مرة فوجأت هيئة المحكمة بمتقاض يحتج على محام يدافع عن غريم له مفندا كل التهم الموجهة لموكله، لم يتمالك المتقاضي أعصابه، وصب جام غضبه على المحامي صارخا في وجهه إن كان حاضرا وقت ارتكاب الجريمة، اهتزت أركان القاعة بالقهقهات العالية، انسحب الجميع حتى عاد الهدوء.

كانت الفتاة مطأطأة، تجيب في ضيق وبتلعثم شديد، عيناها موزعة بين الأرض ، وبين المخلوقات الآدمية المتشحة بالسواد، قبرة وسط سرب من الغربان، القلب يرتجف ، دقاته ترتفع، تحس به يكاد ينخلع، ضباب الخجل والخوف يلفها، يتراكم بالداخل كالسرطان، كرائحة كلب ميت ترك في حقل مجاور، كل الأسئلة تحمل آلاما وتفتح في المخيلة رعبا اخرس، سفود سحب من النار لتوه، يثقب العظام، يمزق الأشلاء، شلوا شلوا، الأوجاع تسلقت المعدة، تكاد المصارين تخرج من فمها، من انفها، من عينيها، تجربة أصعب بكثير من عملية الاغتصاب، اغتصاب جماعي وسط حشد من الرجال، وأمام الأهل والأتراب، عملية رجم حقيرة، بدلا من مداواة الجرح يشعلون النار في الجسد كاملا، نفس التشريح الكريه، مورس عليها في المخفر، بعض العيون الوقحة لعقتها بشبق واشتهاء، خيل إليها في لحظة أن الرجل الذين تقعي أمامه سينقض عليها لامحالة، كانقضاض قط شرس على فار محاصر من الجهات الأربع، لم تجد من وسيلة لتهرب من مخاوفها سوى أن أطلقت العنان للعبرات تغسل بحرقة وجهها المتغضن .
 قولي يا ابنة الكلبة والق...كيف اغتصبك...؟

 لقد امسكني بالقوة...، هددني بالسكين..، خلع ملابسي قطعة قطعة...قيدني من يدي ورجلي...
 الم تذهبي معه بمحض إرادتك، نعرف انك تفعلين هذا مع شباب القربة...؟
 لا.....
 كلكن تقلن هذا الكلام يا عاهرات وتخلقوا لنا المتاعب، أكملي يلعن أبوك...؟
 وضع شيئه في شيئي ... عندما بدأت اصرخ كمم فمي، ضغط بقوة، حاولت أن أبعده لكنه كان أقوى وأحسست بجسمي يتمزق.
 كم مرة فعل نفس الشيء...؟
 لا ادري...
 الم تستحسني ذلك ....؟

كانت تجيب وعيناها تدمع، الكلمات النابية تلسع دواخلها، ترتعش وتصمت، تمنت لو انشقت الأرض وابتلعتها، تمنت لو نبتت لها أجنحة وطارت في الفضاء الواسع بعيدا، كل هذه الأشياء السخيفة لن تعيد إليها بكارتها، لن تعيد إليها بسمة الطفولة التي اغتصبت في لحظة سهو، قطار أحلامها نسف بشدة، وفارس الأحلام لقي حتفه، اعترض سبيله قطاع الطرق، الفضيحة تشدخ الرأس الصغير، والآلة التي ينقر على أزرارها، تحدث صوتا يخفف من وحشتها، شبيه بزخات المطر على سقف بيت صفيح، وقع الأقدام والصرخات التي تأتي من مكان غير بعيد، تزيد من اضطرابها ووحشتها، انتصب الهيكل العريض، أمرها بالنهوض من الأرض حيث تقعي، امسكها من يدها، أحست بيده اليسرى، تضغط على مؤخرتها الناتئة، تصعد بليونة لتسقط على نهديها النافرين، أحست بحرارة أنفاسه خلف أذنها، لفحت وجهها، رائحة التبغ، نفذت إلى رئتيها كحت بشدة، طار رشاش اللعاب على اليد، ركلها بقوة حتى كادت تسقط، بالت في سروالها، انزلقت البول ليلامس الإسفلت، بصمت على الأوراق التي افرشها أمام عينيها عدة مرات، أمرها بالعودة ، لطمتها نسمات الهواء، تنفست الصعداء، بدأت الأشياء تصفو في مخيلتها، رمقت خضرة الحقول والأشجار المزهرة بعيون دامعة، ركضت بتهور، تدفق الألم بداخلها كنهر غاضب، العرق يحممها، أمام البيت بدأت تصرخ، اشتد العويل واللطم على الأخاديد، انتابها دوار شديد، سقطت فاقدة الوعي، قالت لها أمها ألا تخجل وان تقول كل شيء، لم يبق أي شيء لتخجلي منه، فالدوار يعرف ما حصل، الأهل يعرفون، لقد كتبت عليك المصيبة، إنها إرادة الله، ولا رد لقضاء الله، اللعنة على من كان السبب.

الطبيب الذي كشف عنها كان لطيفا ومؤدبا في البداية، لكن حين أمرها بنزع ملابسها، تضايقت، ترددت برهة، وما لبثت أن استسلمت، تمددت على سرير ناعم، تضرب منه رائحة سائل تنظف به القروح، تتذكر رائحته جيدا، في العام الماضي جاءت سيارة بيضاء إلى السوق وعبر مكبر الصوت كانوا يحثون الآباء على أخد أبنائهم ليكشف عنهم الطبيب، في الصباح حملت أخاها إلى مستوصف القرية لحقنه ضد بعض الأمراض ذات الأسماء الغريبة، تسللت إلى انفها نفس الرائحة المدوخة، أحست باليد تتحسس شيئها، سارت بداخلها رعشة لذيذة، تألمت أغمضت عينيها، زفرت، سحب ورقة خربش عليها، تم وضع عليها ختما احمرا، نظرت إلى الوراء، عيون جاحظة تفترسها، تنهشها، تلعقها، تنفذ إلى دواخلها، الجميع ينتظرون أن تكشف السر، ليطلع العفريت من القمقم، كمن ينتظرون نوبتهم أمام مشعوذ محترف يقرأ الطالع، مطرقت رأسها الكلمات الحادة الآمرة الآتية من المنصة، تلاطمت في ذهنها صور كثيرة مبعثرة، هاجمها الخواء الداخلي وأطبق عليها، فاض نهر الخجل بداخلها، لم تعد تذكر أي شيء، انطفأت فوانيس الذاكرة دفعة واحدة، التصق اللسان بالشفة السفلى، اقتحمتها فكرة الهرب، كفجر يوم جديد ، نظرت يمنة فيسرة، بلعت ريقها، هرولت بدون اتجاه مخترقة الجموع، علا الصخب داخل القاعة، قهقهات عالية، انتشرت عدى الضحك، مست أصحاب البدل، بعضهم غطى وجهه بالأوراق المهلهلة، بحركة مدروسة، اقترب الشرطي من الرجل الذي يتوسط أصحاب المنصة همس له شيئا، قبل أن يلتفت كشر في القاعة تكشيرة تحمل أكثر من معنى، عاد الهدوء تقدم صاحب البذلة السوداء التي تتوسطها خرقة بيضاء، رفع صوته المبحوح عاليا.

 إن موكلتي تعرضت للتعذيب النفسي في جل مراحل البحث فلا اعتقد إن إنسانا مرت عليه تجارب غريبة سيكون قادرا على الصمود وانتم تعلمون أن مجتمعنا محافظ ومثل هذه الأمور تتطلب إقرار جلسة مغلقة لتجنب المزيد من الإحراج لموكلتي ولعدالتكم واسع النظر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى