الثلاثاء ٢٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٠
بقلم علي بدوان

مخيم اليرموك زمان ... وشيء من الحاضر

تَهًلُ كل فترة على مخيم اليرموك من كل عام بزخارفها اليومية ذات الطابع الإجتماعي والمعيشي، الذي يُشكِّلُ إمتداداً لحياة الفلسطينيين على أرض الوطن. ومن بين تلك الزخارف الجميلة الإسراع بتحضير المؤن الموسمية من عموم المنتوجات الزراعية التي تزخر بها بلاد الشام عموماً، وفلسطين خصوصاً. في عادات طيبة وذات بُعدٍ إقتصادي متوارثة من أيام فلسطين، وخصوصاً من قبل أبناء العائلات الفلسطينية التي تعود لأصول فلاحية وبدوية ... ومدنية. من قرى وبلدات ومدن عموم فلسطين، من قرى الجليل وسهل الحولة الى أخر نقطة في منطقة النقب. كما هي عادة متوارثة عند أبناء المدن الفلسطينية. تلك العادات، وإن تراجعت بشكلٍ عام بفعل عدة أسباب، منها إنتشار معامل تصنيع (الكونسروة) التي باتت تختصر جهد العمل اليدوي في البيوت والمنازل. وضغوط الحياة اليومية على الأسر الشابة. ودخول المرأة الفلسطينية سوق العمل. لكنها تبقى عادات متأصلة وموجودة داخل المجتمع الفلسطيني في سوريا وعموم مناطق اللجوء في الأردن ولبنان وفي الداخل على امتداد أرض فلسطين التاريخية، حيث يبقى لعملية التحضير المنزلي للمؤن السنوية رونقاً خاصاً، كموروث إجتماعي أصيل، خصوصاً وأن بعض النساء تتفن في عملية تحضيرها وتخزينها، وجعلها طيبة المذاق، فضلاً عن النظافة العالية والجودة في التحضير والتخزين.

من تلك المواسم الجميلة، مانشهده من موسم تحضير مادة المكدوس، والتي تتفرد بها عموم بلاد الشام، في دمشق وفلسطين على وجه الخصوص من بين عموم المنطقة. والمكدوس مخزون عالي القيمة الغذائية، مُحبب تناوله في أيام الشتاء، ويتكون بشكل رئيسي من الباذنجان المحشو بالجوز والفلفل الأحمر الحار بعد تقطيعه، حيث يضاف اليه زيت الزيتون بعد إنضاجه بعملية تُتقنها نساء دمشق وعموم فلسطين. وفي الصيف أيضاً، يأتي موسم تحضير (ماء البندورة) ليتم إستخدامه طوال أيام العام بعملية الطهي للعديد من المأكولات. حيث تجري عملية غلي عصير البندورة في القدور على نار الحطب بين الحارات الفرعية في اليرموك، وإن إستعاضت العديد من النسوة عن تلك العملية بوضع العصير داخل قدور مغطاة بشاشٍ رقيق وتركه تحت نار شمس الصيف الحارة على أسطح المنازل. أما تحضير البامياء، وغيرها من مؤون الخضروات، فيتم أيضاً بطرقٍ مشابهة، بالرغم من دخول عملية (التفريز) على خط حفظ المؤن، وهي عملية غير محببة وغير مستساغة لدى الناس بسبب من فقدان المادة لسعراتها الحرارية، كما في فقدانها مذاقها. أما موسم الملوخية، فالحديث عنه طويل، حيث تملأ عيدان الملوخية حارات شوارع اليرموك الفرعية في موسم تخزين هذه المادة، وقد أشتهر بها أهالي بلدة صفورية قضاء الناصرة عن غيرهم من أهالي اليرموك، وإن كان الجميع على السواء بالنسبة للملوخية التي يعشقها أغلب اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، وقد علموا الدمشقيين طريقة طهيها (ناعمة) وليس كورق كما يطبخها الشوام الدمشقيين. وأما مواسم تحضير المربيات، فتستمر طوال العام، حيث لكل مربى موسم، فالمشمش في نهاية الربيع، أما مربى العنب فموسم تصنيعه هو موسم الصيف، حيث يُحضر على شكل حبات صامد أو على شكلٍ مهروس، أو كما يقال بالعامية الفلسطينية : ممروط. وفي هذا السياق، وقبل قيام أسواق الخضرة الكبيرة والواسعة، ومنها سوق الخضار المركزي في اليرموك، والذي يضاهي أكبر سوق للخضار بدمشق، ومعظم قاصديه من خارج اليرموك، إشتهر عددٍ كبير من البائعين للخضار والمنتوجات في اليرموك، منهم سويرح سويرح (أبو عادل الخماخم) وقد نال هذا اللقب العفوي بسببٍ من كميات الخضار الهائلة، وبالأطنان، التي كان يُنزلها أمام محله التجاري، والتي كانت تملأ شارع الجاعونة باليرموك. كما نذكر المرحوم أبو أسعد عللوه، بمحله الواقع على تقاطع شارعي المدارس وصفد، وعربته التي كان يملأها بالعنب على سبيل المثال فيما كانت الدبابير (الزلاقط) تحوم وتحط عليها أسراباً أسراباً. وللحديث عن عملية (سلق القمح) (سليقة) عنوان أخر، عندما تجري تلك العملية في مناسبات معينة، ويتم توزيع القمح المسلوق أو تحويلة الى مادة البرغل.

إن العديد من البائعين المتجولين، أيام زمان اليرموك، الذي عشنا فيه (على القلة والبساطة) كما يقال، وقبل التحول التجاري الكبير وإنتشار الأسواق، ذهبوا وتركوا وراءهم ذكريات طيبة وجميلة عن سيرة شعبٍ مكافح، ذاق أهوال النكبة وتداعياتها في دياسبورا المنافي والشتات، ومازال الى الآن تحت وطأة نتائج النكبة وليلها الطويل. من هؤلاء البائعين، كان الزغموت وهو من أهالي قرية الصفصاف قضاء صفد وكان متخصصاً ببيع الأسماك، وخاصة منها سمك السلطان إبراهيم (بحزه الذهبي) والذي يعشقه الفلسطينيون، وسمك المشط الطبراني. ومن بين البائعين أيضاً شخص من عائلة باكير الطيراوية، والمتخصص بالتجوال بين الحارات لبيع الأدوات المنزلية التي يحملها بطريقة معينة بواسطة عصا تمتد على كتفيه، وبصوته الأجش المنطلق بلهجة طيراوية (قُحة). ومن بينهم أيضاً شخص طبراني كان يبيع كل شيء على عربايته المتجولة وينده بعبارة (اللي عاوز) ... أما البرجاوي رحمه الله (أستشهد أحد ابنائه في محنة اليرموك)، وهو من عائلة منصور من بلدة إجزم قضا حيفا، فكان يبيع القماش بين أزقة اليرموك، على كتفه، ثم على حمار، ثم على دراجة، ثم إفتتح محلاً تجارياً بعد التحول التجاري الكبير في مخيم اليرموك. تلك صور جميلة من يرموك زمان. ستبقى باقية في الوجدان، فهي من سيرة هذا الشعب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى