السبت ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٠٦
آخر كلام
بقلم شريف حتاتة

مدرسة الباليه المائي وبائع الخس

أنا عضو فى أحد نوادى القاهرة . انضممت إليه سنة 1948 عندما كنت طبيبا فى مستشفى القصر العينى الجامعى ، أى منذ ثمانية وخمسين سنة وهكذا يمكننى ممارسة بعض الألعاب الرياضية عندما أنتهى منها أنصرف فليست لى علاقات مع الأعضاء الآخرين . أحيانا عندما يصفو الجو ، وتتراقص أوراق الشجر فى النسيم ، أجلس على مقعد من الخيزران وأسرح ، أو أتأمل التغييرات التى طرأت على الأعضاء والعضوات ، أو على أنواع الناس المنضمين إليه .

عشت فيه فترة قصيرة أثناء عصر الملكية والاحتلال الإنجليزى . كانت عضويته إذ ذاك مقصورة على أبناء وبنات الأسر الأرستوقراطية . هذه المرحلة انتهت سريعا بالنسبة الى فقد قررت الأرستوقراطية أن مكانى الطبيعى ليس بينهم وإنما بين المجرمين فى سجن مصر .

فى يوم 23 يوليو سنة 1952 استولى أبناء الطبقة الوسطى من ضباط الجيش على الحكم . لكن رغم خلافاتهم مع بشاوات القصر والإقطاع والرأسمالية الكبيرة كانوا متفقين معهم فى بعض الأمور ، ومنها أن المكان المناسب لى ليس ملاعب النادى الخضراء وإنما "ليمان طره" ، أو سجون "الواحات الخارجة" و "المحاريق" فى أقصى جنوب الصحراء الغربية .

بعد أن أديت مدة العقوبة التى رأى المجلس العسكرى أنها ثمانية لكى أتعلم الدرس ، وأكف عن نشاطى الهدام ضد مجتمع المثل العليا ، والعدالة والحرية الذى يقوم فى مصر ، وأفرج عنى عدت الى النادى . ذلك لأننى مؤمن بأهمية الرياضة فى الحفاظ على صحة البدن والعقل خصوصا فى ظل نظام يبذل قصارى جهوده للقضاء عليها .
هكذا أتيح لى أن أشاهد من جديد التغييرات التى حدثت فى الفئات المنضمة اليه ، فهى مكونة الآن بشكل أساسى من رجال أعمال ومهنيين وأسرهم . انهم جزء من المستويات الأعلى للمجتمع ، متداخلين مع السلطة الى أقصى حد رغم الضيق الذى يبدونه إزاءها . وفى هذه الأيام حيث تداخلت الأمور وأصبح من الصعب التمييز بين اليسار ، واليمين ، والوسط ، لا غضاضة فى أن أكون عنصرا مقبولا فى صفوفهم رغم اختلافى معهم .

فى عيد أول مايو عندما كان بعض العمال يتظاهرون من أجل حقوقهم ويضربون ضربا عنيفا من قبل رجال البوليس ، كنت أنا فى حمام السباحة . وفى هذا اليوم أقام المسئولون فى النادى بطولة فى السباحة و "الباليه المائى" المستورد من بلاد الكفر . وذلك لعدد من بنات المدارس الإعدادية الخاصة جدا . كان الحمام مزدحما بعشرات من البنات الصغار اللاتى لم يتوقفن عن القفز الى الماء ، والخروج منه لتقفزن اليه من جديد ، أو عن السباحة فيه ، أو عن مد أذرعتهن وسيقانهن خارج المياه فى حركات توقيعية رشيقة على نغمات الموسيقى الصاخبة المستوردة هى أيضا من الغرب . هذا بينما جلست الأمهات المحجبات على جانبى حوض السباحة لتشاهدن براعة بناتهن فى أداء مختلف الألعاب . كل هذا فى جو احتفالى مشحون بالصرخات ، والصفافير ، والنداءات التى تصم الآذان . فقد تعودنا أن نقيس مستوى النشاط الذى نقوم به بكمية الضجة التى يحدثها .

كنت أنا غاطسا فى الجزء المتروك من الحوض لسباحة الكبار عندما لاحظت امرأة شابة فى العشرينات من عمرها واقفة على حافة الحمام . كانت ترتدى ثوبا مكونا من قميص طويل وبنطال ضيق قماشه الفزدقى الفاتح جدا ، تتدلى منه "الدانتلا" فى بعض أجزائه . حول رأسها وعنقها كانت ترتدى حجابا من القماش نفسه ، وحول أحد أصابعها خاتما مزودا بفص أخضر اللون كبير الحجم. فى ملامحها وسامة فتيات الغلاف فى مجلات بلاد النفط.

كان من الواضح أنها مدربة الأطفال و أنها من أسرة مرفهة. كانت تلقى عليهن توجيهاتها بصوت عصبى صارخ وباللغة الإنجليزية قائلة : "كام هير" (تعالى هنا) ، "وان ، تو ، ثرى ، فور" (واحد ، اثنين ، ثلاثة ، أربعة ، "إيديوت" (ياعبيطة) ، "ستيوبيد" (ياغبية) ، "يو آر نو جود" (انتى مش نافعة) وهكذا .

ابتعدت عن مكان التدريبات لأواصل السباحة وقرب الساعة العاشرة والنصف تركت النادى . كانت معى بعض الأوراق التى أردت تصويرها فاتجهت الى حى "حدائق شبرا" الذى أسكنه منذ عشر سنوات . وهذا الحى رغم التغيير الكبير الذى حدث فيه مازال يحتفظ بأجزاء خلفية توجد فيها بيوت وشوارع هادئة تظللها الأشجار . وفى أحد هذه الشوارع حانوت لبيع الخردوات مملوك لشيخ معمم وضع فيه جهازا للتصوير .
ركنت سيارتى بالقرب من الحانوت . هبطت منها وأعطيته الأوراق ثم عدت لأجلس فيها . كانت السيارة مركونة بجوار جامع وبعد الجامع بقليل كانت توجد مدرسة .
جلست فى السيارة أشاهد ما يدور فى الشارع . بعد قليل فتح باب المدرسة وتدفق منها أعدادا من البنات الصغار ، "مراييلهن" الزرقاء الفاتحة نظيفة ، وشعورهن مضفورة ، أو ممشطة بعناية . سرن فى الشارع بهدوء ، تتحدثن سويا ، أو صامتات . بين الحين والحين أسمع ضحكة لها رنين ، ضحكة مشرقة مثل شمس الصباح .

أمام الجامع توقفت عربة "كارو" يجرها حصان . كانت تحمل أكواما من الخس . هبط منها "العربجى" أسمر اللون ، نحيف الجسم يرتدى عمامة ممزقة وحول وجهه لحية سوداء تركها تنمو كما تشاء . لمحته يلقى بنظرة الىّ ، سواد عينيه فيه بريق ، وفوقهما تمتد حاجبان بارزتان . أخذ يرش الخس بالماء من كوز وبالتدريج توافد عليه الناس . بنت مراهقة ملأت ذراعيها باخس ، رجل فى مقتبل العمر ، شعره أشيب . ابتاع سبعة أو ثمانية "عيدان" ثم سار فى الشارع وعلى وجهه رضى بما يحمله الى البيت . شاب يرتدى قميصا ، وبنطالا وقف على الرصيف ، فأعطاه قلب أحد "عيدان" الخس فأخذ يمضغ أوراقه ببطء،
كان الجو جميلا ، وأشعات الشمس تخترق أوراق الشجر ذهبية اللون . بالتدريج اختفى كوم الخس من على العربة ، ولم يبق سوى القليل منه . فتناول "العربجى" عودين منه وتقدم بهما ووقف الى جوار الحصان وأخذ ينزع الأوراق الواحدة بعد الأخرى ليطعمه بواحدة منها ، ويمضغ هو الأخرى ، هكذا بالتناوب كأنهما رفيقان.
ظل واقفا الى جوار الحصان شاخصا أمامه كأنه سرح فى شىء . أرى الحصان يمد "خشمه" اليه ليلتقط أوراق الخس منه ، وأنا جالس فى السيارة أشاهد ما يدور ، فأشعر بالراحة تتسرب الىّ ، بأن هذا الشارع الصغير بناسه ، بالأطفال اللاتى مررن علىّ ، بسائق العربة ، وحصانه والخس أصبحت فى هذه اللحظة جزءا منه وأنه سيبقى معى أينما سرت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى