الثلاثاء ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم محمد سمير عبد السلام

مرح الغياب

قراءة في كزهر اللوز أوأبعد لمحمود درويش

للغياب حياة خاصة في كتابات محمود درويش، فهومنبع إبداعي للصور، والحكايات، والصوت الداخلي للذات، إنه يبعث آثار الأنا، والمكان، والوعي بالعالم في مشهد كوني متجدد لا نهاية له.

الغياب عند درويش مرح لا يهتم بالنهايات ؛ لأنه يناهضها، فدائما ما يترك مساحة فارغة للنشوء المتجدد للصور المبدعة، وكأنه يذكرنا بزيف فكرة النهاية الحاسمة، ومن ثم فإن صوت درويش سيظل ممتدا في مرح الغياب، وعلاماته النصية – التاريخية، وأطيافه الفاعلة داخل القصيدة، وخارجها ؛ تلك الأطياف التي تحمل أثر درويش، وإدراكه المبدع لقوة الغياب، واحتفالياته الموسيقية، والتصويرية، والكونية المتنوعة، والمتداخلة، والمضادة للحدود.

إن المتكلم في ديوان محمود درويش " كزهر اللوز أوأبعد " يكتشف الطاقة الإبداعية الكامنة في مدلول الغياب، وهي ثراؤه اللانهائي بالصور، والتكوينات المختلطة المتحررة من القيود، والحدود، ومن ثم كان الغياب فضاء حرا للصور والأماكن، والأخيلة ؛ فهي تمارس فيه تحققها الذاتي / الجمالي، ثم نراه يمارس نوعا من الذوبان في هذا الوهج الذي تولد للتوعن الغياب، وقد تحققت حياته الجديدة بما فيها من صخب، ولذة، ووهج.

في نص " أحب الخريف، وظل المعاني " يتجسد دال الخريف في منطقة غائمة ملتبسة، يبدأ منها الإبداع في تشكيل عوالمه الفريدة انطلاقا من زوال الحدود، والتصنيفات.

الخريف هنا مبدأ لإدراك العالم، والانحياز لحركيته الإنتاجية الخفية ؛ ففيه الكتابة، والحياة، والموت، وإعادة تسمية الأشياء.

الخريف قوة النشوء الكامنة في الغياب، وقد كشف درويش عن تداعياته، ومساحاته الفارغة الثرية بالأخيلة.

يقول:

" أحب الخريف وظل المعاني / ويعجبني في الخريف غموض خفيف شفيف المناديل / كالشعر غب ولادته إذ يزغلله / وهج الليل أوعتمة الضوء / يحبوولا يجد الاسم للشيء ".

الخريف هنا رؤية للوجود، توشك أن تبدأ في إعادة كتابته دون أسماء، أوتكوينات حاسمة، إنه لذة البدايات الأخرى في سياق الغياب، والنهايات المتوهجة بحياة جديدة.

إن القصيدة تضع أسئلة الوجود، والحياة في الخريف الذي يتحدى النهايات في مدلوله الخاص ؛ ومن ثم يكتسب الليل وهجا، والضوء عتمة ويظل الغياب معلقا لا يكتمل أبدا ؛ لأنه منتج لحياة خفية ملتبسة بالحضور.

والموت مثل الخريف، أوهوتأويل له ملتبس بفرح الحياة، وديناميكيتها السردية، فالجانب السردي عند محمود درويش يؤكد فاعلية الغياب من جهة، كما يعيد تمثيل الموت كحياة متجددة تقاوم مدلول المحومن جهة ثانية.

يقول:

" في مثل هذا الخريف تقاطع موكب عرس لنا مع إحدى الجارات / فاحتفل الحي بالميت، والميت بالحي ".

المكان يذوب في أطياف المشهد المجازية، والأسطورية، فالبشر إيحاءات مجردة ينتجها الجانب الإبداعي في المكان، وهكذا يقبض درويش على الإيحاءات المتجددة، وعلى ما تخلفه من فراغ نرى فيه الحياة، والموت في حالتي صخب، وفرح.

وقد تمتزج الذات اللاواعية التي نراها في كتابات فرويد، وكارل يونج بالأسطورة، وحلم اليقظة، مما يعزز من فكرة الاتساع، والذوبان في قوة الغياب الكونية التي تشبه الخريف أيضا.

يقول:

" يعجبني أن أرى ملكا ينحني لاستعادة لؤلؤة التاج من سمك في البحيرة ".

هل هي استعادة للذات الأسطورية الكامنة في اللاوعي الجمعي؟ أم أنه ذوبان في المادة الكونية ذات الإيحاءات الأنثوية المؤجلة؟

الخريف انتظار للحياة.

هل كان درويش يقع في تلك الهدنة؟ في انتظار حياة مرحة يولدها الغياب؟

الخريف فراغ للأخيلة الصاخبة القادمة، الحاملة لكل أطياف الحكايات، والأشعار، والمعارك، والأساطير، إنه انتظار للحياة يستشرفها وراء الغياب، والقصيدة، والحياة نفسها.

الخريف عند درويش حياة ما بعد الحياة، الصوت المؤجل للقصيدة، والمعركة.

يقول عنه:

" يعجبني أنه هدنة بين جيشين ينتظران / المباراة ما بين شاعرتين تحبان فصل الخريف / وتختلفان على وجه الاستعارة / ويعجبني في الخريف التواطؤ بين الرؤى والعبارة ".

تتراوح الدوال بين التحقق، والانتظار، والانقسام، وكأن ثمة ما هوقادم من عتمة الغياب،
وجمالياته التي لا يمكن القبض عليها رغم حضورها الاستعاري المتكرر في النص.

ويتوحد المتكلم بالطيف ليحقق حياة ما بعد الغياب في نص " مقهى، وأنت مع الجريدة " ؛ فقد تحول إلى وعي مرح طليق خارج الحدود، والقيود الجسدية الظاهرة، ولكنه يملك جسدا قيد التشكل، والنشوء المستمر الذي يشبه الحياة، ويتحداها.. يشبه الحياة، ويتجاوزها.. يشبه الحياة في ولادة جديدة خارج العالم بكل ما فيه من قوى، وصراعات.. هل استشرف درويش هذه الحياة؟ هل حققها الآن؟

يقول:

" ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين / ولا ترى / إحدى صفات الغيب تلك ترى، ولا ترى.. فاصنع بنفسك ما تشاء / اخلع قميصك أوحذاءك إن أردت / فأنت منسي وحر في خيالك / ليس لاسمك أولوجهك ها هنا عمل ضروري / تكون كما تكون ".

لقد اندمج الصوت الشخصي، بالصوت الكوني اللاشخصي، فالوعي يعاين التحول، والكينونة الجديدة، في ولاداتها الأخرى، وسياقاتها المنتظرة خارج الحدود القديمة رغم أنها تحمل الصوت القديم نفسه، وقد تخلى عن قيوده لأجل الحرية.

وتظل حالة السكون التي تشبه النرفانا مسيطرة على المتكلم ؛ فهي شرط الذوبان في شعر ما بعد الموت، وما بعد الحالة الإنسانية.

يقول:

" مقهى، وأنت مع الجريدة جالس / في الركن منسيا / فلا أحد يهين مزاجك الصافي / ولا أحد يفكر باغتيالك / كم أنت منسي وحر في خيالك ".

هل هي لذة الوعي حين يلتحم بالمشهد في حالة غياب؟ أم أنها قصيدة المشهد التي تحرفه في سياق حر يشبه براءة الامتلاك الأولى للعالم؟

إن الفراغ عند محمود درويش فضاء لاختلاط الانفعالات، والصور، بحالات التجسد المؤقتة التي تسمح لنفسها بالظهور، والعودة في أشكال جديدة. يبدوهذا واضحا في نص " فراغ فسيح ".

يقول:

" أفق مهمل كالحكايا الكبيرة / أرض مجعدة الوجه / صيف كثير التثاؤب كالكلب في ظل زيتونة يابس / عرق في الحجارة / شمس عمودية / لا حياة ولا موت حول المكان ".

إنه يعلق المكان في تجسدات مؤقتة، ليؤكد أن المكان يتجدد حين تعانق المادة أخيلة القصيدة، هل هوالمكان؟ أم أنه قصيدة المكان التي هي مستقبل المكان، وأصله الغائب؟

تسير القصيدة في هذا الاتجاه الذي تجف فيه الحدود، والمطلقات، والحكايات الكبيرة، بينما يبرز الإبداع في المشهد كصورة رمادية تعلق المكان، وتحدثه مرة أخرى في نصيته الأولى.

ويجرد درويش الأخيلة الأنثوية من أي حدود، أوتعريفات، في نص " الجميلات هن الجميلات " ؛ فهويستعيد التناقضات الأنثوية الممزوجة بالوحشية، والسكون في آن من اللاوعي.

المرأة في هذه القصيدة تزدوج بانطباعات المتكلم، وأخيلته التي تجمع الصفات، والأطياف المتضادة. إنها تؤول أخيلة الأنوثة دون أن تحاول القبض عليها، أوتحديدها.

إن الإجابات المجازية التي يقدمها النص عن الجميلات، تمزجهن بإيحاءات ذاتية، وكونية، وأسطورية، مثل تجدد الحياة في الربيع، والإلهام الإبداعي، واليأس المضيء، والقوة التي تشبه الذكورة، والأغاني، والمرح ثم القتل.

يقول:

" الجميلات هن الجميلات / نقش الكمنجات في الخاصرة / الجميلات هن الضعيفات / عرش طفيف بلا ذاكرة / الجميلات هن القويات / يأس يضيء ولا يحترق.. الجميلات هن الكبيرات / مانجومقشر ونبيذ معتق /.. الجميلات كل الجميلات أنت / إذا ما اجتمعن ليخترن لي أنبل القاتلات ".

هل كانت المرأة معبرا للغياب عند درويش؟

هل كانت مشبعة بسياق الأحلام، والإيحاءات التي بحث عنها وراء الذات، والمكان؟

لقد انفرطت دوال الأنوثة في القصيدة، وتركت لنا هذا الفراغ المرح الصاخب الذي يؤكد حب
محمود درويش للحياة الكامنة في الغياب.

قراءة في كزهر اللوز أوأبعد لمحمود درويش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى