السبت ١ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم إبراهيم مشارة

مع أبي العلاء في منفاه الباريسي

نعم أيها القارئ لا تعجب لهذا العنوان كون المعري قد أفضى إلى ربه منذ زمن بعيد، ولكن أهل الفكر أحياء بيننا خالدون خلود الكلمة، كما يبقى المعري من خلاله منفاه الباريسي الجديد والاضطراري شاهدا على طول وعمق وسوداوية المأساة السورية، وتمثال المعري في مسقط رأسه معرة النعمان والذي أطار متطرف من جبهة النصرة رأسه في حادثة مشهورة بتاريخ 2013،ومتحفه الذي افتتحه عميد الأدب العربي طه حسين قد تعرض للتخريب كذلك من قبل طيران النظام السوري لتستمر مأساة المعري كذلك في حياته وفي مماته.

أبو العلاء المعري(363ه/973م، 449ه/1057م) المولود بمعرة النعمان بإمارة حلب الحمدانية والمتوفى بها كذلك، والشهير بلقب رهين المحبسين أي العمى والبيت، نصير العقل والمتمرد على كل سلطة مهما كانت دينية أو سياسية أو أعرافا وتقاليد اجتماعية إلا ما يمليه العقل، هو كذلك نصير الفكر الحر والشك باعتباره طريقا إلى المعرفة ونصير النزعة الإنسانية وأحد روادها في الفكر العربي الإسلامي المشغوف بفتنة السؤال ومتاهة التفكير والتأمل، فلا يضئ عتمة الوجود إلا نور البصيرة ولا يضئ دهاليز الفكر إلا شموع الأسئلة التي توطد أسس معرفة جديدة وهدما للمتوارث إذا تأزم أمام تناقضات الراهن ومعضلاته وبذلك تنفتح الروح النقدية والفكر الجديد على آفاق رحبة وترتاد مجاهيل مغرية غير منخرطة في المألوف والمتوارث والتبعية للسياج الدغمائي في إدانته للدهشة والحرقة المستنسلة من حرقة على مكابدة قلق الوجود وهاجس المعرفة، متعالية على كل خلفية عشائرية أو إثنية أو طائفية وقد قاده رفضه وتمرده وحرصه على كرامته واعتداده يإنيته المعرفية إلى رفض التمسح بالبلاط وتدبيج القصائد العصماء في مدح كاذب متزلف لقاء المال كما تعالى في صبر أيوب على ملذات الحس مكتفيا بالنزر اليسير الذي يديم معضلة الحياة وقد جاءها مكرها مجنيا عليه كما قال وعاش نباتيا مكتفيا بالدبس والعدس محرما على نفسه الزواج حتى لا يجني على غيره ويخلف سيزيفا جديدا يكابد مشقة دفع الصخرة بلا جدوى لترتد عليه وتدفعه إلى قعر العدم، وقد قادته واقعيته الانتقادية إلى اليأس من صلاح الإنسان لفساد تركيبته منددا في أشعاره الكثيرة بنفاق وبلادة وانتهازية الإنسان فاضحا النزعة الذئبية فيه على الرغم مما يظهره من تقوى وما يعلنه من صلاح وليس ذلك إلا حرص الإنسان على مكاسبه ومصالح الاستراتيجية متقنعا بقناع الدين أو سياسة الرعية:

فأميرهم نال الإمارة بالخنا
وتقيهم بصلاته يتصــــــيد

ولا تغدو المجتمعات البشرية أن تكون مجرد قطعان تأتمر بأمر ساستها وكهانها ووعاظها فليس من مخرج لورطة مثقف نقدي مثل المعري إلا بالعزلة والاقتصاد في كل شيء، في المطعم والمشرب والملبس والزهد في المجالس وشيوع الاسم والتعالي على سلطة الأعراف والتقاليد وسلطة النصوص التي يريد شراحها ومفسروها إلجام العقل وتحريم السؤال دفاعا عن مصالحهم وتمركزهم في المتن طاردين إلى الهامش كل مفكر حر نقدي يشكل خطرا على تراتبية المجتمع وبطريركيته.

قاد المعري بدعوته إلى العقلانية ثورة بيضاء في الفكر العربي الإسلامي مفجرا الأسئلة فاضحا للتناقضات حافرا حفرا أركيولوجيا في طبقات الفكر لا هادي له إلا عقله:

كذب الظن لا إمام سوى الـــــــــ
عقل مشيرا،في صبحه والمســـاء

هو الحفر الذي أبان عن تماهى الغرائز البشرية والأهواء السلطانية وتبعية الجماهير تحت وهم العادة وسلطان العرف وهيمنة رجال الدين والسياسة مع المعرفة الصحيحة الشحيحة واختلاط حابلها بنابلها ثم التمييز بين الدين كجوهر والدين كمظهر وأنحى باللائمة على الثاني مما شكل خطرا على مركزية رجاله فرموه بكل نقيصة وعيروه بعاهته كزنديق، ملحد، أعمى البصر والبصيرة، هو إذن شاعر ومفكر وهو فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة فجر الأسئلة وألقى بالقنابل الحارقة في ساحة الركود والامتثال والطاعة والتسليم بلا بينة أو برهان مهاجما السلطة السياسية باعتبارها نصبا واحتيالا والسلطة الدينية باعتبارها انتهازية ومصالح شخصية متسربلة بسربال الدين:

إنما هذه المذاهب أسبــــــــا
ب لجلب الدنيا إلى الرؤساء

ومقسما البشر تارة أخرى إلى فئتين:

اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
دين ،وآخر دين لا عقل لــــــه

نشر المعري فكره ومواقفه في شعره الشهير باللزوميات والتي كانت نسجا على منوال غير مسبوق وساح سياحة غير مسبوقة كذلك في العالم الآخر متنقلا بين الجنة والنار واصفا جمال حورياته وقبح أهل النار من الشعراء الذين أودعهم فيها كعنترة وامرئ القيس والحطيئة وغيرهم والرسالة وإن كانت أدبية بحتة ونقدية إلا أن الجرأة فيها وانطلاق الخيال شكلت مهمازا حقيقيا لقريحة شعراء آخرين في الشرق والغرب كابن شهيد الذي قلده في "التوابع والزوابع" ودانتي في "الكوميديا الإلهية" وملتون في "الفردوس المفقود" ،رسالة بليغة وفريدة نقدية أدبية اخترقت السياج الدغمائي على وجه ثوري في الفكر العربي الإسلامي.

ومن الطبيعي أن يجر هذا على شاعر بليغ ومفكر جرئ الويلات والمحن والبغض والتشهير لكنه لم يأبه لكل ذلك وواصل رسالته الثورية من محبسه منحازا إلى العقلانية منددا بالتبعية والإمعية والغوغائية مخلصا لنزعته الإنسانية التي يعتبر بمعية التوحيدي من كبار روادها، وقد أوجع التحامل على المعري لفيفا من الكتاب والشعراء حتى ألف ابن العديم كتابا في الدفاع عنه "الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري"،وكان ياقوت الحموي من أشد المتحاملين عليه.

ظل المعري حاضرا في عقل ووجدان كل مفكر حر مشغوفا بفتنة الأسئلة وحرقة التأمل غير مرتهن لأي خطاب سياسي أو ديني أو عشائري أو طائفي ومنحازا فقط للعقلانية والنزعة الإنسانية.

وإيمانا بالقيم التي ناضل المعري لأجلها تأسس مشروع "ناجون" في ديار الغربة وفي المنافي الغربية بفضل لفيف من المثقفين والمفكرين والشعراء والفنانين السوريين تلك النخبة التي نجت من القتل والسجون والتعذيب ووجدت في المنافي أوطانا مؤقتة، تحلم بوطن حر وديمقراطي يتساوى فيه الناس على أساس المواطنة ويستشعرون كرامتهم ومعناهم الإنساني بلا نبذ عشائري أو طائفي أو ديني وهو حلم مشروع ويستحق عناء التضحية ومكابدة النضال، ووضعت جمعية ناجون أهدافا لها لخصتها في نقاط أربع: الضغط من أجل تحقيق العدالة ومحاسبة الجناة والمتورطين في التراجيديا السورية، وإعادة الاعتبار لثقافة حرة نيرة انتهكت في موطنها الأصلي وتكريس المعري كبوصلة ثقافية لم ترتهن إلي أي خطاب ديني أو سياسي وأخيرا الاحتفاء بالمعري كواجهة ثقافية سورية أثرت الشعرية العربية والفكر النقدي.وقد نوهت ناجون على موقعها الالكتروني بأهداف مشروعها (كان من الطبيعي في لحظة إسعافية ملحة أن تتوجه مساهمات السوريين للإغاثة والإعانة، ليبدو وكأن العمل الثقافي والفكري ترف فائض عن اللزوم ،ولكنه بالتوازي مع تلبية الحاجات الإنسانية الضرورية لبقاء السوريين ونجاتهم الآنية كان لابد من التأسيس لنجاة مستدامة ،نجاة ترتكز على الوعي الإنساني الأصيل الذي يتطلع إلى مستقبل يليق بنا نحن السوريين).

المشروع الذي أطلقته ناجون التي يديرها فارس الحلو وقد فقد أخاه نمير في سجون النظام وفر إلى الخارج لتأييده الثورة السورية شاء تكريم المعري نصير التنوير والفكر النقدي بنحت تمثال ضخم له تكفل به الفنان عاصم الباشا في منفاه بغرناطة وبتمويل اللاجئين السوريين فقط وباشر العمل في 2018 وأخيرا يصل هذا التمثال من غرناطة إلى مدينة مونتروي بالضاحية الباريسية في 02 مارس 2023 بارتفاع 3.25 متر وبوزن طن ونصف ويستقر هناك مغتربا كالسوريين ولاجئا مثلهم إلى حين عودته إلى الوطن ليكون بديلا للتمثال الذي حطم عام 2013 وقد أنجزه الفنان فتحي محمد عام 1940.

من منفاه الباريسي يبقى المعري مفجرا للأسئلة يحدو به الحنين إلى وطنه مشردا مثل اللاجئين السوريين وحالما بقيام سوريا حرة وديمقراطية بلا عشائرية أو طائفية وقد كان ذلك هدف الثورة السورية لولا تدخل المتدخلين فسرقوا الثورة من شعبها وارتهنوا مستقبل البلد للمجاهيل والمخاطر الجمة ليس أقلها الاستقطاب الدولي وحرب المصالح ليدفع السوريون فاتورة ثقيلة من الدم والدموع والمنافي والسجون والمعتقلات.

وفي 15 مارس وفي رمزية كبيرة بالموازاة مع تاريخ اندلاع الثورة السورية تم تدشين التمثال بحضور كوكبة من الشعراء والمفكرين والفنانين والكتاب وأحباب الحرية والمعري بإهداء إلى جميع المشردين والمنفيين والمعتقلين والحالمين بوطن حر وديمقراطي، حفل بسيط يراعي فلسفة المعري الشاجبة لكل تظاهر وبذخ وهرج وتبذير اقتصر على فقرة موسيقية لنعمى عمران ومسيرة حداد ترحما على ضحايا الثورة السورية وضحايا زلزال تركيا وسوريا وعرض فيلم "ماء الفضة"للمخرج أسامة محمد وأخيرا مأدبة غداء نباتي تماشيا مع التقاليد المعرية واحتراما لفلسفته ومنهجه الحياتي.

المعري الذي رحل إلى بغداد شابا مستزيدا من العلم في المجالس الأدبية والفكرية والدينية اشتاق إلى وطنه معرة النعمان ولم يصبر على ألم المنفى ولم يكابد كثيرا وحشة الأهل فانفجر شعريا حنينا وهو يقول:

فيا برق ليس الكرخ داري وإنما
رماني إليه الدهر منذ ليــــــــال
فهل فيك من ماء المعرة قطرة
تغيث بها ظمآن ليس بســــــــال؟

يظل في منفاه البارسي يستنزفه الحنين إلى موطنه سوريا وإلى مسقط رأسه معرة النعمان وكأنه يقول استعجالا للأوبة:

فيا برق ليس "السين" داري وإنما
رماني إليه الدهر منذ ليــــــــــــال

لقد حاول ذلك المتطرف باعتدائه على تمثال المعري طمس العقلانية وإبادة روح الشغف والسؤال مكتفيا بالتقليد والوثوقية مكرسا منهج القطيع وثقافته ولكن فرنسا احتضنت المفكر الحر لينضاف تمثاله إلى تماثيل فلاسفة الأنوار والإنسانية أمثال ديدرو ومونتيسكيو وفولتير ولو أن المعري مقيم بينهم إلى حين كلاجئ ومغترب ومهجر، كما حاول أعداؤه في حياته إلغاءه ومحوه عبر تكفيره وتحذير الناس منه لكنه انتصر عليهم بخلود فكره وترديد الزمان لشعره بينما انطمس ذكرهم هم، ذلك الشعر الذي ملأه أسئلة وحيرة وشكوكا بناءة حاديها ومحجتها العقل وصاريها الحرص الإنساني على بناء معرفة صحيحة لا تنساق لثقل التاريخ وتناقضات الراهن ونوازع البشر مما يؤهلها لارتياد آفاق بكر وبحار عليا لم يسبق لسندباد أن أشرف عليها بالمكابدة التي تعلي من قدر الإنسان وتعزز الحضارة وتغني التمدن، لا حياة الدعة والكسل والاطمئنان وثقل العادة والعرف وتقديس الأقوال المأثورة.

وتظل المعضلة السورية قائمة والمعري خير شاهد عليها إلى حين تكريس خطاب الأنوار والحريات ودولة المواطنة القائمة على المساواة والكرامة والأخوة نابذة كل خطاب عشائري أو إثني أو طائفي أو ديني يحث على الكراهية والإلغاء وتظل المنافي السورية في القارات الخمس تطمح إلى حرية وطن مغتصب دفعت الكثير من أجل حريته وديمقراطيته وهي تردد قول أبي العلاء:

ولو أني حبيت الخلد فردا
لما أحببت بالخلد انــفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى