الأحد ١٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢١
بقلم علي القاسمي

مفهوم القطيعة مع التراث في فكر محمد عابد الجابري

تقديم:

ألقى المفكر الدكتور محمد عابد الجابري حجراً في بركة الفكر العربي الراكدة في زمن الهزائم والانكسار، عندما نشر كتابه القيِّم " نحن والتراث" في بيروت سنة 1980. في هذا الكتاب يضع اللبنات الأساس في طريق نهضة الأُمَّة العربية الإسلامية وتطوُّرِها ورقيِّها. وقد دعا فيه إلى نقد العقل العربي السائد والتخلّي عن الفهم التراثي للتراث. وأثار كتابه هذا ردودَ فعلٍ واسعةً، واتُهِم الجابري بأنَّه يدعو إلى قطيعة إبستمولوجية مع تراثنا الذي هو عماد هُويَّتنا.
وفي ورقتنا هذه نقدّم دراسةً موجزةً عن مفاهيم التراث، والقطيعة الإبستمولوجية، ومفهوم القطيعة في فكر الجابري، وتجديد التراث.

معنى التراث لغةً:

"التراث" اسم من الفعل "وَرِثَ". فنقول "ورِثَ فلاناً، ومنه وعنه: صار إليه ماله أو مجده بعد موته(1). فالتراث ما يخلِّفه الميت لورثته من تركةٍ، سواء أكانت تلك التركة مالاً أو مجداً أو عقيدةً أو علماً أو فكراً. وقد ورد هذا اللفظ بهذا المعنى في القرآن الكريم: ﴿وتأكلون التراث أكلاً لماً﴾ (الفجر: 9)، فهنا يعني التراث التركة المادّية ، وكذلك ﴿يرثني ويرث من آل يعقوب﴾ (مريم: 6) وهنا يعني التراث تركةَ النبوة والفضيلة والمعرفة وليس المال.

كما ورد هذا اللفظ بمعنييْه، التركة المادية والتركة المعنوية، في الحديث الشريف، إذ قال الرسول (ص) يصف المؤمن العابد الزاهد بالدنيا: " وكان عيشه كفافاً، فعجلتْ منيته، وقلَّتْ بواكيه، وقلَّ تراثه." وفي حديث آخر: " إنّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنَّما ورّثوا العِلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر."

وورد لفظ "التراث" كثيراً في الشعر العربي كذلك، ومنه قول المتنبي:

ولستُ أبالي بعد إدراكي العُلا أكان تراثاً ما تناولتُ أم كسبا

مفهوم التراث اصطلاحاً:

خلال النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حاول المثقَّفون العرب في المشرق إحياءَ التراث الفكري والثقافي العربي، في سعيهم إلى إيجادِ هُويةٍ عربيةٍ مشتركة، تمكِّن من إقامةِ أُمّةٍ عربيةٍ موحَّدةٍ مستقلَّةٍ عن الإمبراطورية العثمانية. فأخذ استعمال لفظ " التراث" في القرن العشرين، يدلّ على "ما ورثه العرب عن أسلافهم من حضارة"؛ وراح اسم" التراث" يختلف في دلالته الخاصَّة عن اسميْن آخريْن مشتقَّيْن من الفعل (وَرِثَ) كذلك، هما "الإرث" و "الميراث"، إذ إنَّهما يشيران إلى نصيب كلِّ فردٍ من تركة الميت؛ فهما يقتضيان وفاةَ الأب وحلول الابن محلَّه، في حين أنَّ "التراث"، في دلالته الحديثة، يشير إلى الإرث الفكري والثقافي الذي وصلنا من آبائنا وأسلافنا على مرِّ العصور والذي ما يزال فاعلاً في ثقافتنا السائدة. وهكذا، فإذا كان الإرث أو الميراث المادّي يتطلَّب موت الأب أوَّلاً، فإنَّ " التراث" الفكري والحضاري يعني حضور الأب في الابن، واستمرار الماضي في الحاضر.

ويختلف التراث عن التاريخ على الرغم من أنَّ كلاً منهما متعلِّقٌ بالماضي. فـ "إذا كان التاريخ هو الماضي في بُعده التطوري، فإنَّ التراث هو الماضي في بعده التطوري موصولاً بالحاضر ومتداخلاً معه ومتشابكاً به."(2) ويشكّل التاريخ حوارَ الماضي مع الحاضر عبر التراث، حواراً يكون فيه زمام المبادرة للحاضر الذي يتشابك فيه الماضي بالمستقبل.

يدلّ لفظ "التراث" اليوم على كلِّ ما خلّفته لنا الأجيال السابقة من:

ـ معارف (العلوم الإنسانية والعلوم الأساسية والطبيعية)،

ـ قِيَم (أنماط تفكير وسلوك، وعادات، ومُثل)

ـ نُظُم ومؤسَّسات (الأسرة، المسجد، المدرسة، الأوقاف، الخلافة...)

ـ إبداع وصنع: (الغناء والموسيقى والتراث الشعبي، والفنون المعمارية والزخرفية والتصويرية..)
فالتراث تراكمٌ حضاريٌّ وثقافيٌّ ينتقل عبر الأجيال والقرون عن طريق اللغة والمحاكاة والتقليد، ويشمل العناصر المعنوية من أفكارٍ ومعتقداتٍ وسلوك، والعناصر المادّية، كالصناعات والحِرَف والآثار.

والتراث ظاهرةٌ إنسانية نجدها في جميع المجتمعات، فلكلِّ أُمَّةٍ تراثها، على الرغم من أنَّ الأمم تختلف من حيث عمْق تراثها الحضاري في التاريخ أو ضخامته أو بساطته. كما أنَّ جميع الأُمم تشترك في تراثٍ إنسانيٍّ عامٍّ. ولهذا، فإنَّ "التراث" يشمل "التراث القومي": ما هو حاضر فينا من ماضينا"، ويشمل كذلك "التراث الإنساني ": ما هو حاضر فينا من ماضي غيرنا" (3). ومن ناحيةٍ أُخرى، قد يُنظَر إلى التراث من حيث مجالات تخصُّصه، فتكون له أنواع مثل "التراث العلمي" و "التراث الجغرافي" و"التراث الشعبي"، إلخ.

أخطاء شائعة عن التراث:

سعى أعلام النهضة العربية في القرن التاسع عشر الذين كانوا يرومون إقامة أمّة عربية موحّدة مستقلة، إلى إحياء التراث العربي، كما قلنا، من أجل إشاعةِ شعورٍ لدى العرب بأنَّهم أُمّةٌ واحدةٌ ذات هُويةٍ متميِّزةٍ عن غيرها من الأُمم، بتاريخها الواحد، ولغتها الواحدة، وتراثها الشعبي المتميِّز، وثقافتها المشتركة. ولهذا اقتصرت حركةُ إحياءِ التراث في بدايتها على تحقيق المخطوطات التراثية التي تتناول اللغة والأدب والتاريخ والفقه والتفسير والحديث. وكانت تلك المخطوطات قد كُتِبت في عصور مختلفة من مسيرة الأُمَّة العربية: عصور الازدهار وعصور الانحطاط، وتحمل كمّاً هائلاً من المعارف المختلفة والمنهجيات المتباينة، منها العقلاني ومنها الخرافي؛ منها ما يدعو إلى الوحدة ومنها ما يبث التفرقة الطائفية والمذهبية، منها ما يدعو إلى نقد الأوضاع الاجتماعية ومقاومة الظلم، ومنها ما يفرض الطاعة للسلطان الغاشم بوصفه ظلّ الله في الأرض.

ولهذا أخذ مفهوم التراث لدى بعضهم يقتصر على المخطوطات التي تتناول علوم العربية والإسلام، وساد شعور لديهم بأنَّ "إحياء التراث" يعني تحقيق المخطوطات البالية ونشرها، وأنَّ التراث يقتصر على ما هو قديمٌ وسلبيٌّ من العلوم الإنسانية، ونُسِيت أهمُّ مظاهر الحضارة العربية إبان ازدهارها مثل حرِّية الفكر وحرِّية الحوار وحرِّية الانتقال، انتقال الأفكار والأفراد والسلع، والاعتماد على العقل والتجربة وطلب المعرفة حيث كانت(4). وأثارَ بعضهم مسألة قِيمة هذا التراث وجَدْواه في محاولتنا لتحقيق النهضة والتنمية والتطوُّر. فدارت معاركٌ فكريةٌ بين أولئك الذين يقدِّسون التراث فقالوا "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها" وبين أولئك الذين أضحى التراث، في نظرهم، مسؤولاً عن هزائم الأمة وانكساراتها، فرأوا ضرورة التخلُّص من كلِّ ما هو قديم والأخذ بالجديد، من أجل اللحاق بالغرب المتطوِّر. وأُطلق على هذه المعارك الفكرية اسم "القديم والجديد" وما يتعلَّق بها من مقارنات بين "الشرق والغرب" أو "الإسلام والغرب" أو "العرب والأوربيين".(5)

القطيعة مع التراث:

اعتقدَ بعض المفكرين أن لا سبيل إلى التخلُّص من سلطة تراث الماضي المتخلِّف، ووضع حدٍّ لتحكُّمه في حاضرنا ومستقبلنا، والدخول في حداثة العصر، إلا بإحداثِ قطيعةٍ معرفيةٍ معه بحيث نتوسَّل بعقلِ الحداثة، فلا سلطة إلا للعقل الذي يتّخذه العلم الحديث مصدراً وحيداً، ولا سلطة إلا لضرورات الواقع (6). ومن الذين نادوا بذلك اللبناني حسين مروة في كتابه "النزعات المادية في الإسلام"، والمصري حسن حنفي في كتابيه "التراث والتجديد" و "من العقيدة إلى الثورة"، والجزائري محمد أركون في كتابه "تاريخية الفكر الإسلامي"، والمغربي محمد عابد الجابري في كتابيه "نحن والتراث" و "نقد العقل العربي".

ولكن ما المقصود بالقطيعة في مصطلحهم؟ وهل القطيعة مع التراث ممكنة فعلياً؟

مصطلح "القطيعة المعرفية (أو الإبستمولوجية)" ظهر على يد فيلسوف العِلم الفرنسي غاستون باشلار (1884ـ1962)، ليدل على مفهومَين:

الأوَّل، تخلّي العالِم في المختبر عن المعرفة التقليدية الشائعة، والأخذ بالمعرفة العلمية الموضوعية القائمة على التجربة والبرهان.

الثاني، القطيعة بين الأنظمة المعرفية في تاريخ العِلم. والنظام المعرفي هو مجموعة من المفاهيم والمقولات وطرائق التفكير التي تمكِّننا من حلِّ المشكلات أو التوصل إلى معرفة جديدة ترقّي حياتنا. فعندما يصل النظام المعرفي الذي نستخدمه، إلى طريق مسدود، ولا يستطيع معالجة الإشكاليات التي تواجهنا، لا بدَّ لنا من تغيير الزاوية التي ننظر منها إلى الأشياء، أي التخلّي بوعيٍ تامٍّ عن ذلك النظام المعرفي القديم، وتبنّي نظامٍ معرفيٍّ جديدٍ يستطيع التعامل مع الإشكاليات التي عجز النظام المعرفي القديم من التعامل معها. فالتطوُّر العلمي لا يتوقَّف على التراكم الكمي فحسب، بل على آليات التفكير الجديدة أيضاً.

وفيما اشتغل باشلار على المفهوم الأوَّل لمصطلح القطيعة المعرفية، تبنّى المفهومَ الثاني وطوَّره ثلاثةٌ من المفكرين هم: الفيلسوف الناقد الفرنسي ميشيل فوكو (1926 ـ1984) الذي اتَّبع طرائقَ بحثٍ جديدةٍ في كتابه "تاريخ الجنون" ، والفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير(1916 ـ 1990) الذي أعاد قراءة كارل ماركس قراءةً بنيويةً، فبيَّن أنَّ ماركس في كهولته قد قطع صلته الإيديولوجية والمثالية بالفلسفة الألمانية، وتبنّى مقاربةً علميةً ونظريةً قرأَ فيها الأشياء قراءةً نسقيةً توضِّح بنيتها الداخلية ونظامها الهيكلي؛ ومؤرِّخ العِلم الأمريكي توماس كوهن (1922 ـ 1996) صاحب كتاب "بنية الثورات العلمية" الذي برهن فيه على أنَّ التطوُّر العلمي ليس بالضرورة تراكمياً وتدريجياً، وإنَّما قد يتأتّى من ثوراتٍ بنيويةٍ يتمُّ فيها تغييرُ نسق البحث وآلياته. وأصبح للقطيعة المعرفية مفهومٌ مختلفٌ شيئاً ما لدى كلِّ واحد من هؤلاء المفكِّرين الثلاثة (7).
وعندما استعار الباحثون العرب مصطلح "القطيعة المعرفية " من أولئك المفكِّرين الغربيين، طبَّقوه على التراث بطرقٍ مختلفة.

والسؤال الذي يطرح نفسه، كما يقولون، هو: هل نستطيع إحداث قطيعةٍ تاريخيةٍ فعليّةٍ مع التراث؟

ينبغي، أوَّلاً، أن نشير إلى أنَّ الإنسان يمتاز عن الحيوان في القدرة اللغوية وقابلية التفكير والعمل. فالحيوان لا يستطيع الاستفادة من خِبَر وتجارب أسلافه من الحيوان، ويقتصر الإرث الذي يناله على الإرث البيولوجي؛ في حين أنَّ الإنسان قادر على الاستفادة من معارف إسلافه وخبراتهم وأفكارهم، والإضافة إليها وتطويرها بتجاربه ومعارفه وعلمه، من أجل بناء حاضره وتقدُّمه في مستقبله (8). وحتّى لو أراد القطيعة مع بعض المعارف أو القيم أو طرائق التفكير التي ورثها عن الأسلاف، لا بُدَّ له أوَّلاً أن يتلقّاها وينقدها، ليعرف عجزها، لكي يتخلّى عنها.

هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أُخرى فإنَّنا لا يمكننا، حتى لو أردنا، إحداث قطيعةٍ تامَّةٍ مع بعض عناصر التراث، مثل اللغة والقيم والعادات والتقاليد والمشاعر، لأنَّ هذه العناصر يستغرق نشوؤها وتكوُّنها حقباً تاريخيةَ طويلة، ولا يمكن إلغاؤها بضربة لازب. فأنت تستطيع أن تنقل البدويَّ من خيمته إلى عمارةٍ شاهقة خلال ساعات، ولكنَّك لا تستطيع تغيير قِيمه ومُثُله وتجعله يتحدّث بلغة شكسبير بنفس السرعة.. فاللغة، مثلاً، وهي أهمُّ عناصر التراث، لأنَّها وسيلته الأساسية في نقل المعرفة وتراكمها من جيل إلى جيل، لا يمكن القطيعة معها واستبدالها بلغةٍ أُخرى دون حدوث صعوباتٍ خطيرةٍ على مستوى التفكير وتمثُّل المعلومات والإبداع، ودون المخاطرة بهُوية الأُمَّة وتماسكها. وهنا يكمن أحد أسرار وأسباب تخلُّف الأُمّة العربية علمياً وتكنولوجياً في العصر الحاضر؛ فالحكومات العربية تصرُّــ مخالفةً بذلك إجماعَ علمائها ومفكريها ــ على استخدام لغة المستعمِر القديم (الإنكليزية أو الفرنسية) في تدريس العلوم والتكنولوجياً، دون أن تدرك أنَّ تراث كلِّ أُمَّةٍ من الأمم يشتمل على منظومةٍ مفهومية خاصة بها تنسجم وتتفاعل مع بنية لغتها، واستبدال وسيلة نقل المعرفة وتمثّلها (اللغة) يؤدّي إلى بطءٍ في الفهم، وصعوبةٍ في التمثّل والإبداع، وعرقلةٍ في تبادل المعلومات بين الأفراد والمؤسَّسات، ما يستحيل معه إيجاد مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية المنشودة. "فتراث أيَّة أُمَّةٍ من الأُمم ليس هو تراكمُ معرفةٍ وخِبَرٍ وتجارب فحسب، ولكنَّه تمثيلٌ لشخصية الأُمّة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ويعني ذلك تمثيلاً لخصائص الأُمَّة الحضارية، المادّية والمعنوية؛ فالشخصية القومية الحضارية لا تولد في الحاضر وليست لها حقبة زمنية معينة، وإنَّما هي وليدة إرثِ أجيالٍ متعاقبة عبر التاريخ وعبر تجاربِ وخِِبَرِ وأفكارِ تلك الأجيال. ولذلك فالتراث الحضاري هو العامل الأساسي في وحدة الأُمَّة وبقائها واستمرارها، وهو الوسط الذي تنمو فيه الشخصية الحضارية وتترعرع." (9).

مفهوم القطيعة في فكر الجابري:

إنَّ الدراسة المتأنية لكتاب الدكتور الجابري القَيِّم "نحن والتراث"، تدلُّنا على أنَّ للقطيعة أربعة أنواع في فكر المؤلِّف:1ـ القطيعة مع نماذج محدَّدة من التراث،2ـ القطيعة مع القراءة السلفية للتراث.3ـ القطيعة بين مفكِّرٍ وآخر في التراث،4ـ القطيعة بين حقلٍ معرفي وآخر في التراث.
وسنتناول هذه الأنواع من القطيعة بإيجاز فيما يأتي:

1ـ القطيعة مع نماذج معيَّنة من التراث:

في حقيقة الأمر لم يدعُ الدكتور الجابري إلى قطيعةٍ تاريخيةٍ تامّة مع التراث كلِّه، أو إلقاء التراث في المتاحف وتركه هناك، فهذه أطروحة فاسدة، كما يصفها الجابري نفسه. وإنَّما دعا إلى قطيعة معرفية مع نماذجَ معيَّنةٍ من التراث. فقد نادى في كتابه "نحن والتراث" إلى " إحداث قطيعةٍ ابستمولوجيةٍ تامةٍ مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر."(10) [والحرف الأسود والخطوط تحت الكلمات هي من وضع الجابري]. ففي عصر الانحطاط، انحصرت الثقافة العربية في مواد دراسية محدودة هي النحو والفقه والتوحيد، وانحصرت بنية العقل العربي في طريقةٍ واحدةٍ في التفكير هي "القياس"، الذي وقع الإفراط في استعماله دون التقيُّد بشروط صحة هذا النوع من الاستدلال. وانتقلت هذه البنية الفكرية من عصر الانحطاط إلى عصرنا الحاضر فاستخدمها بعض المنادين بالإصلاح، فدعوا إلى"قياس الغائب على الشاهد". والغائب هنا هو المستقبل، والشاهد هو الماضي المجيد. ليبرهنوا على أن "ما تمّ في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل". وفي نظر الجابري، لا يمكن للعرب أن يؤسِّسوا مشروع نهضتهم الحاضرة على الماضي، وإنَّما ينبغي استخدام طرائقَ علميةٍ موضوعيةٍ حديثة لتحقيق النهضة.

2ـ القطيعة مع القراءة السلفية للتراث:

دعا الجابري إلى القطيعة مع القراءة السلفية للتراث، لأنها، ــــ على حد قوله ـــــ "قراءة لاتاريخية، وبالتالي فهي لا يمكن أن تنتج سوى نوعٍ واحد من الفهم للتراث هو: الفهم التراثي للتراث ـــ التراث يحتويها وهي لا تستطيع أن تحتويه، لأنَّها: التراث يكرِّر نفسه." فالقطيعة التي يدعو إليها الجابري " ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحوّلنا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث"(11).

ولما كانت القطيعة، في رأي الجابري، لا تؤسَّس نفسها ما لم تقدّم بديلاً. فهو يقدِّم طريقةً بديلةً ملائمة في التعامل مع التراث، تعتمد قراءةً معاصرة تاريخيةً موضوعية، بحيث يُنظَر إلى النصوص التراثية بوصفها شبكةً من العلاقات، وتُعالَج معالجةً بنيوية، وتحلَّل تحليلاً تاريخياً يربط النصَّ بمجاله التاريخي بكلِّ أبعاده الثقافية والإيديولوجية والسياسية والاجتماعية. وبعبارةٍ أُخرى، يدعو الجابري إلى "قراءة معاصرة" للتراث تتجاوز التجميع والتوثيق والتحليل، وتتوخى التأويل، أي إعطاء المقروء معنى بالنسبة لمحيطه الفكري والاجتماعي والسياسي. فتربط النصَّ أو المقروء في عصره من حيث الإشكالية التي يعالجها، والمحتوى المعرفي، والمضمون الإيدولوجي. والمعاصرة بهذا المعنى، تفصل المقروء، عن القارئ، عنا، لأننا نعيش في عصر آخر، ولكنّها تصله بنا على مستوى الفهم، أي أننا نفهمه في إطار الظروف التاريخية التي أفرزته.

قُلنا قبل قليل، إنَّ أعلام النهضة العربية في القرن الميلادي التاسع عشر عملوا على إحياء التراث العربي بوصفه وسيلةً لإعطاء الأمة العربية هُويّةً متميزة عن الإمبراطورية العثمانية، واستقلال العرب عنها. والجابري يتفهّم هذا الأمر ويتقبله على شرط ألّا تتحوَّل الوسيلة إلى غاية بذاتها، فهو يقول عن القراءة السلفية للتراث:

"كانت تبرر نفسها عندما كانت وسيلة لتأكيد الذات وبعث الثقة فيها. إنّها آلية للدفاع معروفة، وهي مشروعة فقط عندما تكون جزءاً من مشروع للقفزة والطفرة.. لكن الذي حدث هو العكس تماماً، لقد أصبحت الوسيلة غاية: فالماضي الذي أُعيد بناؤه بسرعة قصد الارتكاز عليه لـ "النهوض"، أصبح هو نفسه مشروع النهضة." (12)

وهو بذلك يفرّق بين مستويين في التعامل مع التراث: مستوى الفهم ومستوى التوظيف.

3ـ القطيعة بين مفكِّرٍ وآخر في التراث:

لكي يحقِّق الجابري أهدافه في كتابه هذا، قام بقراءةٍ معاصرة لتراث العرب الفلسفي. وفي هذه القراءة، يرى أنَّ للفلسفة العربية التراثية وجهَين: محتوىً معرفياً ومضموناً إيديولوجياً. فالمحتوى المعرفي لهذه الفلسفة هو في معظمه مادَّةٌ معرفيةٌ ميتة غير قابلة للحياة، أمّا المضمون الإيديولوجي، فهو يحيا على مرِّ الزمن في صور مختلفة.

يرى الجابري في الفلسفة العربية، كما ظهرت على يد الكندي ثمَّ تطوّرت على يد الفارابي، فلسفةً مناضلةً من أجل العلم والتقدّم، ولكن ابن سينا ارتدّ بها من عقلانية الكندي والفارابي المتفتحة، وحوّلها إلى فلسفة روحانية غنوصية لاعقلانية ظلامية، عمل الغزالي والسهروردي الحلبي على نشرها. ويقول الجابري إنه عندما انتقلت الفلسفة العربية إلى الغرب الإسلامي، رفض ابن باجة "مشاهدات" الغزالي المزعومة التي جلبت له "اللذة"، وأكد ابن باجة أنَّ السعادة الحقيقية هي بلوغ أقصى درجات العقل النظري. وقد ساعد هذا ابن رشد على تأسيس منهجه الفلسفي الأصيل وعقلانيته النقدية الواقعية. وهكذا اعتبر الجابري أنَّ ابن رشد قام بقطيعة مع غنوصية ابن سينا وفلسفته المشرقية، وفنّد آراءَه ورفضَها، ورفضَ كذلك "التصوُّف السنّي" الذي نادى به الغزالي، لأنَّ سنّة الرسول (ص)، كما يقول الجابري، "لم تعرف التصوّف قط... [و] أن الخطاب القرآني هو خطاب عقل وليس خطاب غنوص أو عرفان أو إشراق"، (13).

ومعروف أن بعض النقّاد في المشرق العربي اتهموا الجابري بأنّه يعمل على فصل الفلسفة في المشرق عنها في المغرب، وأنّه فضّل الفلسفة في الغرب الإسلامي. بيدَ أنَّ الحقيقة كما هي ماثلة في كتابه هذا هو أنّه فضّل الفلسفة الرشدية العقلانية على السينوية الغنوصية، بعد أن أشاد بالفلسفة العربية كما أصّلها الكندي وطورها الفارابي وكلاهما من المشرق (14). بل أكثر من ذلك، فقد شارك الجابري في مهرجان الفارابي الذي نُظِّم في بغداد في أواخر أكتوبر من عام 1975 بمناسبة مرور ألف ومائة عام على ميلاد أبي نصر الفارابي، وقدَّم فيه دراسته القيمة " مشروع قراءة جديدة لفلسفة الفارابي السياسية والدينية... "وأطلق فيها لقب "فيلسوفنا الأعظم"، على الفارابي. والدراسة تشكّل فصلاً من كتابه "نحن والتراث."

4 ـ القطيعة بين حقلٍ معرفي وآخر في التراث:

كان بعض المتكلِّمين في تراثنا يحاولون التوفيق بين العقل والنقل، ودمْج الدِّين في الفلسفة والفلسفة في الدين، فجاء ابن رشد ورفض محاولاتهم تلك. ويقول الجابري:

"لقد قطع ابن رشد هذا النوع من العلاقة بين الدين من جهة والعلم والفلسفة من جهة أخرى، فلنأخذ منه ــــ إذا كان لا بدّ من استعمال هذه الكلمة مرة أخرى ــــ هذه القطيعة، ولنتجنّب تأويل الدِّين بالعلم وربطه به، لأنَّ العلم يتغير ويتناقض ويلغي نفسه باستمرار، ولنتجنّب تقييد العلم بالدين لنفس السبب. إنِّ العلم لا يحتاج إلى أية قيود تأتيه من خارجه، لأنَّه يصنع قيوده بنفسه." (15)

ولكي تكون القطيعة التي أرساها ابن رشد بين الدين والفلسفة فاعلة، فإنه قدّم البديل الذي "دعا فيه إلى فهم الدين داخل الدين وبواسطة معطياته، وفهم الفلسفة داخل الفلسفة وبواسطة مقدِّماتها ومقاصدها."وهذا في نظر ابن رشد تجديد في الدين وتجديد في الفلسفة. (16)
ويرى الجابري أنَّ هذا البديل الذي قدّمه ابن رشد في هذه القضية يمكن لنا أن نقتبس منه منهجَه ونوظّفه في عصرنا الحاضر لبناء العلاقة بين تراثنا والفكر العالمي بحيث نحقِّق الأصالة والمعاصرة معاً.(17)

تجديد التراث:

وهكذا نرى أنَّ الجابري لا يدعو إلى قطيعة معرفية تاريخية مع التراث برّمته، وإنّما إلى قطيعة مع نماذج معينة من التراث في عصر الانحطاط، ومع القراءات غير الموضوعية للتراث، ومع الفكر الغنوصي الذي ساد في فتراتٍ من تاريخنا، ومع بعض المناهج غير الموضوعية. إنَّ الجابري يدعو إلى تجديد التراث، لا إلى إلغائه.

نستطيع أن نجدّد التراث وفق رؤيةٍ معاصرة، فننتقي منه النماذج الإيجابية التي تساعدنا على بناء حاضرنا ومستقبلنا، ونترك نماذجه السلبية أو نعدّلها. فتجديد التراث يعني اختيار النماذج النافعة من تراثنا اختياراً قائماً على الفهم والتمييز والنقد والمفاضلة بين العناصر التراثية، وجعل الصالح منها منطلقاً إلى الإبداع والابتكار بطريقة تعبر عن ذاتية الأمة.

في تراثنا نماذج جيدة يمكن الإفادة منها، ومن هذه النماذج:

النموذج العلمي التجريبي: الذي طوره عدد من علمائنا القدامى مثل جابر بن حيان والبيروني وابن الهيثم والخوارزمي وابن النفيس وغيرهم كثير.

النموذج الوظيفي أو النفعي للمعرفة، انطلاقاً من الدعاء النبوي "اللهم علّمني ما ينفعني، وانفعني بما علّمتني، وزدني علماً، وكلُّ علمٍ وبالٌ على صاحبه إلا مَن عمل به."

النموذج التربوي، الذي يجعل التعليم مدى الحياة حقّاً للإنسان وواجباً عليه وعلى الدولة، ويجعل الحرِّية الفكرية أساساً لتنمية الشخصية الإنسانية وتنمية المعرفة ذاتها.

النموذج اللغوي، الذي يتّسم بالروح العلمية والفكر والموضوعي في تحليل اللغة الفصيحة المشتركة وتقعيدها، لتكون أداةً طيعة للتواصل ونقل المعرفة وبلورة هُويَّة الأُمَّة.

النموذج الاجتماعي، الذي يجعل من الإنسان مركز الاهتمام، والأُسرة الخلية الأولى في المجتمع، ويركِّز على التوادِّ والتراحم والتعاطف بين أبناء المجتمع.

النموذج الإنساني، الذي يؤكِّد حقوق الإنسان، والمساواة المطلقة بين بني الإنسان، ذكوراً وإناثاً، انطلاقاً من ﴿يا أيُّها الناسُ اتقوا ربَّكم الذي خلقكم من نفْسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء﴾ (النساء: 1)). (18).

وخلاصة القول إن الفقيد الجابري كان يدرك أنَّ التراث العربي تراثٌ حيٌّ، لأنَّه ظلَّ سارياً بيننا متغلغلاً في نفوسنا، وأنَّه قابلٌ للتطور، وأنَّه إنسانيٌّ في قِيَمه ومناهجه ومواقفه، فهو يدعو إلى الإخاء والمساواة في الإنسانية، وهي معايير صالحة في هذا العصر وفي سائر العصور. ولكنه كان يدرك، في الوقت نفسه، أن الثقافة العربية السائدة حالياً هي من مخلَّفات عصور الانحطاط، لاسيّما في طريقة التفكير التي تنتهجها. ولهذا سعى إلى تخليصها من شوائبها، وتبنّي طريقة موضوعية في قراءة التراث. والموضوعية تعني، لديه، فصل الموضوع عن الذات، بحيث يخضع الموضوع إلى معالجةٍ بنيوية، وتحليلٍ تاريخي، والكشف عن الوظيفة الإيديولوجية، السياسية والاجتماعية، التي يتوخاها. وهذا لا يتم إلا بدراسة العقل العربي نفسه بطريقة عقلانية في التفكير تنسجم وروح العصر الحاضر. وهذا ما فعله في كتابه القيم، "نقد العقل العربي" (19).*

الهوامش

علي القاسمي (المنسِّق)، المعجم العربي الأساسي (تونس/باريس: الألسكو/لاروس، 1989) مادة "ورث".
الطيب تزيني، " التراثية" في: الموسوعة الفلسفية العربية (بيروت: معهد الإنماء العربي، 1988)، المجلد الثاني، ص 310.
د. محمود السيِّد، " التراث بين الماضي الحي والغد المنشود"، دراسة في المؤتمر الثامن لمجمع اللغة العربية بدمشق، 9ـ13/11/2009.
د. مروان محاسني، رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق، في كلمته في حفل افتتاح المؤتمر الثامن للمجمع، 9ـ13/11/2009.
د. عبد الإله النبهان، "التراث العربي: مفهومه ومواقف المفكرين"، ورقة قُدّمت في المؤتمر الثامن لمجمع اللغة العربية بدمشق، 9ـ13/11/2009
حسن أبو هنية، "خطابات القطيعة وتأويل التراث" في:www.alghad.com/?news=136661
للتفاصيل انظر: هاشم صالح، مخاضات الحداثة الإبستمولوجية (بيروت: دار الطليعة، 2008).
إبراهيم الحيدري، "تراث" في : معهد الإنماء العربي، الموسوعة الفلسفية العربية (بيروت: معهد الإنماء العربي، 1986)، ج1، ص 245 ـ246.
المرجع السابق.
د. محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي (الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي ودار الطليعة، 1980)، الطبعة الأولى: مدخل عام ص 18.
المرجع السابق، ص 19
المرجع السابق، ط2، ص 18. وقد استخدمنا الطبعة الثانية من الكتاب، لنرى ما إذا كان الجابري قد عدّل بعض أفكاره بعد أن تعرّضت الطبعة الأولى للنقد. فوجدنا أن الطبعة الثانية احتفظت بالنص كما هو، مع إضافة " مقدمة الطبعة الثانية" التي دافع فيها عن طروحاته السابقة في وجه النقاد.
المرجع السابق، ص 71.
المرجع السابق، ص 72
المرجع السابق، ص 72
المرجع السابق، ص 73
المرجع السابق، ص 73
هذه النماذج الإيجابية لخّصها الدكتور محمود السيد، في دراسته التي قدّمها إلى مؤتمر مجمع اللغة العربية بدمشق حول التراث، المذكور سابقاً.

يقع كتاب "نقد العقل العربي" في ثلاثة مجلدات، صدرت طبعاتها الأولى كالتالي: 1ـ تكوين العقل العربي (بيروت: دار الطليعة، 1984)، 2ـ بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1986)، 3ـ العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1990).

(*) يضم هذا المقال أجزاء من مقال سابق لنا حول التراث بين الأصالة والمعاصرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى