الثلاثاء ٢٢ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم جميل حمداوي

مقاربة سيميائية لديوان:«من بروج الذاكرة»

للشاعر المغربي سعيد الجراري

توطئـــــة:

ها هو الشاعر المغربي سعيد الجراري يصدر باكورة أعماله، وديوانه الشعري الأول:"من بروج الذاكرة "1، وذلك بعد فترة طويلة من الترقب والانتظار والتنقيح والمراجعة والتقويم على غرار شعر "الحوليات" عند الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى. فلم يتسرع سعيد الجراري إلى طبع الديوان حتى أشرف على التقاعد. فمرت عقود وعقود من الزمن، وهو يعيش في تلك الفترات الزمنية الحرجة لحظات الشك والتردد بين الطبع أو الإحجام عن ذلك، إلى أن نصحه بعض أصدقائه بضرورة جمعه، وتنقيحه، وتثقيفه، ومدارسته، و إخراجه إلى النور في أحلى صورة طباعية ممكنة. وهكذا، فقد قام الناقد جميل حمداوي بجمع الديوان، وإعداده ترتيبا وتنظيما وتبويبا، وتقديمه إلى القراء المغاربة بصفة خاصة والقراء العرب بصفة عامة، مع مقاربته نقديا على ضوء المقاربة السيميائية.

هذا، وسنحاول في هذه الورقة النقدية المقتضبة مقاربة هذا الديوان على ضوء السيميائيات التطبيقية تفكيكا وتركيبا، وذلك قصد التوصل إلى البنى العميقة التي تتحكم في الديوان توليدا وتكونا وبناء، وتحديد آليات الانتقال من البنية السطحية إلى البنية العميقة، وذلك بغية معرفة طرائق انبثاق المعنى، معتمدين في ذلك على طريقة المستويات والبنى المنهجية لمعرفة كيفية تشكيل الدلالة النصية في هذا الديوان الشعري الأول لسعيد الجراري.

أ- مرحلـــة التفكيـــك والتشريـــح:

من المعلوم أن السيميائيات دراسة وصفية موضوعية وعلمية لمقاربة شكل الخطاب، وذلك قصد معرفة طرائق انبثاق المعنى وتوليده. فتكشف لنا، بالتالي، منطق الدلالة أو المدلول أو المعنى، وذلك عن طريق تحديد نقط الاختلاف، ورصد لغة التضاد والتباين والتشاكل، عبر تحليل الخطاب النصي، مع ممارسة لعبة التفكيك والتركيب.

هذا، وتتطلب مرحلة التفكيك البنيوي والتشريح السيميائي من الناقد القارئ تفكيك القصيدة الشعرية إلى بنيات منهجية ومستويات بنيوية خطابية محايثة قائمة على الوصف السانكروني والتأويل العلاماتي بغية الوصول إلى مرحلة التركيب والاستنتاج.

ب- المستوى المناصـــي:

ينبني عنوان الديوان:" من بروج الذاكرة" على صيغة شبه جملة تتكون من أربعة عناصر تشكل ظاهرة التضام النحوي: جار ومجرور والمضاف والمضاف إليه. ويرد حرف الجر:" من" للدلالة على التبعيض أو التقليل ؛ لوجود كثرة الأبراج التي تتخذ هنا طابعا ماديا أو فلكيا. ومن ثم، فتركيب العنوان يفيد التقرير والتثبيت والتأكيد، ويحمل صيغة استعارية مجازية تثير حيرة المتلقي بسبب الانزياح الدلالي والمنطقي. فالذاكرة لا بروج لها واقعيا، إلا إذا فهمت من خلال تأويلها بأن ذاكرة الشاعر متنوعة ذهنيا وزمنيا، وهي متدرجة في النزول والصعود، وتتعالى في الزمان والمكان، وتنفتح على التقاطع الزمني: الماضي والحاضر. كما أن قصائد الديوان هي فعلا مشدودة إلى الماضي المثقل بذاكرة مترنحة ومتناقضة تجمع بين الأمل والألم، والسعادة والشقاء.

ج-المستوى المعجمي والدلالي:

يرتكز الديوان الشعري لدى سعيد الجراري على مجموعة من التيمات والموضوعات، والتي يمكن حصرها في المواضيع التالية: الزمن(إطلالة من بروج الذاكرة، شراع فوق حوض الجزيرة...)، والمكان(يا سائلا عن رُبى الناظور، و تل الصنوبر...)، والطبيعة (شعاع الروح، أعشق العشق، وليس بدري كالبدور...)، والوطنيات (سلوا وطن العلا لمن اللِّواء؟ و حب الأوطان، أنت الإمام بحبل الله معتصم، و لقد عم فضل الله واستحكم النصر، و أمولاي هذا عيد عرشك رافل، و إذا ما عظيم الشأن رام المحامدا، و تسابقت القبائل والوفود، و خطط المسيرة حاكها متبصر، أنوار طلعت كالشمس إذ طلعت...)، والقوميات ( أطفال العامرية...)، والاجتماعيات (الأم، وبنت الزجاجة...)، والتصوف (رحيق الليالي، وشعاع الروح...)، والموت (رقصة الموت...).

ويعني هذا أن قصائد الشاعر سعيد الجراري تغلب عليها الرؤية الوطنية والرؤية الذاتية الوجدانية. والدليل على ذلك أن ثمة العديد من القصائد في الديوان تنتمي إلى القصائد الوطنية القائمة على مدح الممدوح، وتعداد مناقبه وفضائله، ورصد منجزاته، والدعاء له بالسلام والظفر والصحة والعافية. وينتمي هذا النوع من الشعر إلى ما يسمى بشعر العرشيات الذي يتسم بالنزعة الوطنية، والإخلاص، والولاء، والدعوة إلى الوحدة الوطنية. أما الرؤية الذاتية في الديوان الشعري، فتتمثل في التغني بالذات الرومانسية، واستكناه الوجدان الاستبطاني، وتمثل العشق والحب الروحاني، واسترجاع الذاكرة زمانا ومكانا وطبيعة وأشخاصا.

ومن هنا، فأهم الثوابت الموضوعاتية في القصيدة تتمثل في العناصر المحايثة التالية:

1- الذات/ 2- الآخر/ 3- الزمان/ 4- المكان.

ويتمثل البعد السردي الدلالي عبر الديوان الشعري في الصياغة المنطقية التالية: (مع العلم أن ٨ رمز للاتصال، و۷ رمز للانفصال، و← رمز للتحول)
الذات ( الشاعر):[ الذات ٨ الموضوع ( الماضي)← الذات ۷ الموضوع( الحاضر)]

ويعني هذا أن الشاعر بعد أن كان سعيدا يمتلك سحر الماضي، وذاكرة الزمان، وشهوة المكان في الماضي، لم يعد في الحاضر يمتلكهما بشكل محقق ومحين. لذا، أصبح الشاعر شقيا وتعيسا، وذلك مع ترهل الزمان، ونكد الحياة، وبؤس المكان.

ومن هنا، ففاعل الحالة ( الشاعر) ينتقل من حالة السعادة إلى حالة الشقاء:

ذات الحال: [ الذات ٨ الموضوع( السعادة) ← الذات ۷ الموضوع(الشقاء)].
وعليه، فالمربع السيميائي أو النموذج التأسيسي في الديوان مبني على ثنائية السعادة والشقاء، ولها علاقة وطيدة بجدلية الماضي والحاضر. ويعني هذا أن الشاعر عبر صفحات الديوان يتأرجح بين حالتي السعادة والشقاء، وذلك عبر زمنين متباينين: الماضي ( السعادة) والحاضر(الشقاء).

ويمكن توضيح العلاقات المنطقية لهذا المربع السيميائي على الشكل التالي:

1- علاقات التضاد: السعادة والشقاء؛

2- علاقات شبه التضاد: اللاسعادة واللاشقاء؛

3- علاقات التناقض: السعادة واللاسعادة، والشقاء واللاشقاء؛

4- علاقات التضمن: السعادة واللاشقاء، والشقاء واللاسعادة
الشقاء السعادة اللاسعادة

اللاشقاء

ومن المعروف أن المربع السيميائي عند كريماس Greimasأو فرانسوا راستيي François Rastierأو النموذج التأسيسي عند جوزيف كورتيس Josef Courtès يتضمن مجموعة من العلاقات الدلالية والمنطقية كالتضاد وشبه التضاد والتضمن2. ويتحقق هذا المربع السيميائي على مستوى البنية العميقة. وبالتالي، فهو الذي يولد دلالات الخطابات السردية على مستوى التمظهر النصي أو على المستوى السطحي. ومن هنا، فالمقاربة السيميائية تبحث دائما عن كيفية انبثاق المعنى والدلالة، و تحاول أيضا رصد منطق التواصل والإبلاغ، والكشف عن القواعد والقوانين الصورية والتجريدية الثابتة التي تتحكم في الأجناس والأنواع والأنماط الأدبية.

هذا، ويتضمن المربع السيميائي أو النموذج التأسيسي بنية دلالية بسيطة مولدة لكل مختلف التمظهرات النصية السطحية. كما أن هذه البنية الدلالية البسيطة يقول عنها كريماس:" إنها ذات طابع لازمني، يمكن اعتبارها مؤولا نهائيا، بالمفهوم الذي يعطيه بيرس Pierce لهذه الكلمة، أي إنها تعد نقطة نهائية داخل سلسلة من الإحالات ونقطة بدئية لهذه البنية يجب أن تفهم بمعنى قابليتها للتحقق في أشكال خطابية بالغة التنوع."3

ومن أهم الحقول الدلالية والمعجمية الموجودة في الديوان، نذكر: حقل الدين، وحقل المدح، وحقل الوطن، وحقل الزمن، وحقل المكان، وحقل القيم، وحقل العرفان، وحقل الطبيعة، وحقل الذات... وهذه الحقول كلها تخدم ثنائية السعادة والشقاء، وتصب في جدلية الماضي والحاضر.

لكن يلاحظ أن كلمات الديوان ليست مصطلحات تقنية أو علمية أو معرفية أو نقدية، بل هي كلمات شعرية قائمة على الإيحاء والتضمين، كما أنها كلمات:" حية وملونة، وحارقة، ومنشدة، ومزعزعة للإحساس".4

بيد أن الشاعر، ولاسيما في قصائده المدحية، يستعمل بنية عاملية ترتكز على البرنامج السردي عند الذات البطلة( الآخر). أما الذي يتقمص هذه الذات الإنجازية والإجرائية، فهو الممدوح / ملك المغرب (الحسن الثاني)، والذي يقوم في قصائد العرشيات بعدة وظائف وإنجازات من أجل إسعاد الوطن ( المسيرة الخضراء/ بناء السدود / تعمير الوطن...)، وذلك على الرغم من وجود معيقات عديدة، ووجود البطل المعاكس أو المزيف أو المضاد( عدو الوطن).

ويمكن القول: إن البنية العاملية حسب كريماس تتكون من ستة عوامل رئيسية، وهي: المرسل والمرسل إليه، وذلك على مستوى التواصل، ومن ذات وموضوع على مستوى الرغبة، ومن مساعد ومعاكس على مستوى الصراع. ويمكن أن يكون المرسل شخصا أو جمادا أو حيوانا أو فكرة مجردة. وبالتالي، نتعامل مع العامل سيميائيا من خلال منطق نحوي أصولي يتكون من مسند وفاعل ومفعول به، أي من وظيفة وذات وموضوع.

وتتمثل البنية العاملية في المجسم التوضيحي التالي:

1- محــــور التواصل:

المرسل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المرسل إليه

↓ ↓

الوطنية والبيعة المقدسة الشعب المغربي

2- محور الرغبة:

الذات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الموضوع

↓ ↓

الممدوح إسعاد الوطن

3- محور الصراع:

المساعد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المعاكس

↓ ↓

الشعب أعداء الوطن

وعليه، فالاختبار الترشيحي أو التحفيزي لدى الآخر( الممدوح/ الملك) يتمثل في التشبع بالوطنية الخالصة، والعزم على خدمة الشعب وإسعاده، وحماية الدين والأمة كما في هذه الأبيات الشعرية:

إذا ما عظيم الشأن رام المحامدا
خطا نحوها خطـوا حثيثا مسـددا
أنت الإمام بحبل الله معتصــــمُ
في كل أمـر عظيم،أنت معتــــزمُ
وحدت شعبا عزيزاً، بعد تفرقـــه
أرجاؤه التحمـت،والجمع منسجمُ
جلت عزائمك العلياء في أفــــقٍ
هيهات يدركها،عربٌ ولا عجــــم
فسر بنا قدماً، نفديك بالمهــــــجِ
المجدُ غايتنــــا، والعز والقمــــــمُ
خليفــــــــة الله صنت البلاد لنا
في كل طاغيةٍ،يعصي،فينقصــــمُ

ومن جهة أخرى، يتجلى الاختبار التأهيلي / الكفائي في قدرات الممدوح الخارقة على التخطيط ومواجهة الوقائع والأحداث القائمة والمفاجئة دينيا وذهنيا وعقليا ووجدانيا وحركيا وبدنيا، ومعرفته الذكية بخطط التنمية البشرية وقواعد الحرب الإستراتيجية، وكفاءته الجيدة في طرائق الحوار والتسييس والتدبير والمجابهة، وإرادته الخالصة في خدمة الشعب. لأن رعاية الرعية ماديا ومعنويا، والاهتمام بها عناية وترقية وتقديرا، يعد ذلك الأمر عملا شريفا، ويعتبر أيضا واجبا مقدسا، وتشريفا وطنيا، ورسالة دينية نبيلة:

له في سداد الرأي سبق وشهرة
فليس يضاهي بأسه أي واحــــــــد
خبير بأحوال الرعية كلــــــــها
فيا شعبنا أكرم بأعظـــم قائــــــــد
كريم همام نافذ العزم صامــــد
تحدى بحزم ثابت كــــل جاحــــــــد
تسامى عن الأعداء أيقن أنهم
معارضة ليســــت بذات شواهـــــــد
وليس لهم إلا هراء ومنكـــر
من القول لا يثني ثبات المجاهــــــد
لقد خصه الله العلي بنصـــره
ونجاه من كل الخطـــــوب الشدائــــد
ويكفيه فخرا أن يعنيه ربــنا
على دحر مكروه ومحـــــق المكــــائد

أما الاختبار الإنجازي في الديوان، فيتمثل في رصد ما خلفه الممدوح من منجزات هائلة، حيث يمكن الإشارة مثلا إلى المسيرة الخضراء، وبناء السدود، وتعمير البلاد، وتحقيق التنمية الشاملة:

إذا ما عددنا مشهدا تلو مشـــــهد
من المجد حار البال في شأن رائد
فكم من صروح للمفاخر قد بنى
وكم من أساس شاده للمساجـــــــد
مشاريع شتى من سدود كثيرة
وتعمير أرجاء القرى بالمعاهــــــد
أعدت إلى الصحراء سالف عهدها
وصنت حدود الملك من شـر حاسد
وألفت ما بين العروبة كلــــــــــها
لتبني لها مجدا متيــن القواعـــــــد
وللعرب قد أسديت شتى نصيحة
لتحقيق أهداف ونيــــل المقاصـــــد
وللقدس قد أصبحت أنت رجاؤه
وبلسمه الشافــــــــــي وأقوى مساند
مواقفك الشماء في كل محفل
سموت بها نحو السهى والفـــــــراقد

ويشير الشاعر إلى البطل المضاد أو البطل المعاكس والمزيف، وذلك عن طريق استعمال نبرة السخرية والتهكم والازدراء والتحقير كما في هذه الأبيات الشعرية:

فيا أيها الساعي إلى طعننا خلـــفا
ستسحـــــقك النيران والموت والذعر
بحزم أمير المؤمنين العدى عادوا
بعار وخزي ليس يصفو لهـــــم صدر
يجرون أذيال الهزيمــــــة في ذل
ولم يبق للأنـــــــذال حــظ و لا قـــــدر

أما الاختبار التمجيدي في البرامج السردية المتعلقة بالممدوح، فيتمثل في حب الشعب له تثمينا وولاء وبيعة وطاعة، والإشادة بمنجزاته شعرا ونثرا ودعاء:

فيا سبط خير الخلق دمت لنا ذخرا
ودامت لك الأفراح والنصر والعمر
وأهلا بعيد العرش قد ملأ الدنيـــا
حبورا وبشرا كله حـــــــــلل خضر
شموس وأنوار أضيفت للأقمــــار
وعيد به الأنحاء يملأها العطــــــر
أهازيج نشوى من جنوب ومن كل الشــ
ـمال القرى صارت يواكبها الزهر
إلى منبت الأحرار ينشرح الصدر
متى حل عيد العرش عاد لنا البشر
عليه ثناء الناس في كل معمـــور
وفي كل أرجاء البـــــــــلاد له ذكر

وعليه، فلقد أخضع الشاعر عن وعي أو غير وعي قصائد المدح وشعر العرشيات لمنطق البرامج السردية عن طريق توفرها على الطابع السردي، واحتوائها أيضا على مجموعة من الاختبارات السيميائية القائمة على التحفيز، والكفاءة، والإنجاز، والتقويم.

qالمستوى الصوتي و الإيقـــــاعي:

من الملاحظ أن الشاعر سعيد الجراري قد زاوج في ديوانه الشعري بين الأصوات المجهورة( الباء، والميم، واللام، والدال، والراء، والعين....)، والأصوات المهموسة(السين، والشين، والصاد، والحاء، وهاء السكت أو الوقف...)، والأصوات المحايدة(الهمزة...)، بيد أن الأصوات المهموسة أقل من الأصوات المجهورة. ويعني هذا أن الشاعر كان ينتقل من بنية الحركة إلى بنية الهمس، والعكس صحيح كذلك. كما أن قصائد الذات أقرب إلى الهمس وهدوء الروح، في حين نجد قصائد العرشيات أميل إلى الحركة وصخب الفعل. وبالتالي، فأصوات الديوان أنفية مع اللام والنون، وحنجرية مع الهمزة، وشفوية مع الباء والميم، وحلقية مع العين والحاء...

ويلاحظ كذلك أن الأصوات المائعة أكثر ترددا في الديوان(الراء، واللام، والميم، والياء، والنون....)، وبعدها تأتي الأصوات الرخوة الاحتكاكية سواء أكانت صفيرية أم غير صفيرية (السين، والشين، والصاد، والحاء....)، وتعقبها كذلك الأصوات الشديدة (الباء، والدال، والهمزة، والكاف، والتاء، والقاف...).

ويؤكد ما توصلنا إليه من نتائج ما ذهب إليه إبراهيم أنيس في كتابه: "موسيقى الشعر" 5، وعلي حلمي موسى في كتابه::" إحصائيات جذور معجم لسان العرب" 6، " فالحروف المهموسة (حثه شخص فسكت) نسبتها المائوية 30.452٪، ونسبة الحروف المجهورة 69.542٪. هذا من حيث النسبة العامة، وأما من حيث التخصيص، فهناك عدة أحرف مجهورة هي التي تتردد كثيرا، وهي (ر، ل، ن، ب، م، ع، ق، د، ج). وأما في غير هذه الحروف، فهناك تداخل. فقد يتردد المهموس أكثر من المجهور، والعكس حاصل أيضا. كما أن الحروف الشديدة نسبتها المائوية 31.454٪ (ق،ط،ب، ج، د، أ، ت). ونسبة الحروف المائعة 33.078 ٪ (ل،م،ن، ر،ع). وإذا ما راعينا عدد الحروف في كل مجموعة يظهر لنا أن الحروف المائعة أكثر ترددا، تليها الحروف الشديدة فالحروف الرخوة."7

وهكذا، نلاحظ أن هذه الأصوات باختلاف أنواعها(المجهورة، والمهموسة، والمحايدة، والشديدة، والاحتكاكية، والمائعة، والتكرارية(الراء)، والمطبقة(الصاد، والضاد، والطاء، والظاء)...)، والمثبتة في هذا الديوان الشعري، تتناسب موسيقيا ونفسيا ودلاليا ومعنويا مع أجواء قصائده، وتتلاءم بشكل من الأشكال مع سياقات نصوصه الإبداعية.

هذا، ويستعمل سعيد الجراري مجموعة من البحور والأوزان في قصائده الشعرية سواء أكانت تفعيلية أم عمودية. ومن بين هذه البحور الخليلية التي يوظفها الشاعر: البحر الطويل، والبحر البسيط، والبحر الوافر، والبحر الرجز، والبحر الرمل. ومن ثم، فالبحور الطويلة التي يشغلها الشاعر كالطويل والبسيط والكامل في المدح وغرض العرشيات تتسم بكثرة الحركات والنغمات والسكنات، علاوة على طول النفس الشعري، ووفرة التعبير طلاقة وانسيابا واسترسالا، وطلاوة التصوير والتشخيص، ودقة الاستطراد والاستخراج والاستقراء. وفي هذا يقول حازم القرطاجني في كتابه:" منهاج البلغاء وسراج الأدباء":" فالعروض الطويل نجد فيه أبدا بهاء وقوة، وتجد للبسيط سباطة وطلاوة، وتجد للكامل جزالة وحسن اطراد، وللخفيف جزالة ورشاقة، وللمتقارب سباطة وسهولة، وللمديد رقة ولينا مع رشاقة، وللرمل لينا وسهولة".8

وإليكم جدول توضيحي للبنية الإيقاعية في الديوان الشعري:

القصائد التجنيس النوعي البحر العروضي القافية والروي
أنوار طلعت..... قصيدة عمودية البحر البسيط قافية مطلقة موصولة رويها الباء.
خطط المسيرة... قصيدة عمودية البحر الكامل قافية مطلة موصولة مؤسسة دخيلة رويها اللام.
تسابقت القبائل.. قصيدة عمودية البحر الوافر قافية مطلقة موصولة مردوفة رويها الدال.

إذا ما عظيم الشأن قصيدة عمودية البحر الطويل قافية مطلقة موصولة رويها الدال.
أمولاي.... قصيدة عمودية البحر الطويل قافية مطلة موصولة مؤسسة دخيلة رويها الدال.

لقد عم فضل الله... قصيدة عمودية البحر الطويل قافية مطلقة موصولة رويها الراء.
أنت الإمام.... قصيدة عمودية البحر البسيط قافية مطلقة موصولة رويها الميم.
حب الأوطان..... قصيدة عمودية البحر الطويل القافية مطلقة موصولة مؤسسة دخيلة رويها العين.

سلوا وطن العلا... قصيدة عمودية البحر الوافر قافية مطلقة موصولة مردوفة رويها الهمزة.
يا سائلا........ قصيدة عمودية البحر البسيط قافية مطلقة موصولة رويها الدال.
بنت الزجاجة.... قصيدة عمودية البحر الكامل قافية مطلقة موصولة ومؤسسة دخيلة متنوعة الروي: السين والحاء.

أطفال العامرية.... قصيدة عمودية البحر البسيط القافية مطلقة موصولة رويها الباء.
رقصة الموت.... قصيدة نثرية بدون وزن معلوم تنويع القوافي، واستعمال هاء السكت.
الجلاميد.... قصيدة نثرية بدون وزن معلوم تنويع القوافي
ليس بدري.... قصيدة مقطعية البحر الرمل تنويع القوافي
أعشق العشق... قصيدة نثرية بدون وزن معلوم تنويع القوافي
شعاع الروح... قصيدة تفعيلية البحر الرجز تنويع القوافي
الطين الأشقر... قصيدة نثرية بدون وزن معلوم تنويع القوافي
زورقي... قصيدة نثرية بدون وزن معلوم تنويع القوافي
تل الصنوبر.... قصيدة نثرية بدون وزن معين تنويع القوافي
أمي، دمي.... قصيدة نثرية بدون وزن معين تنويع القوافي
رحيق الليالي... قصيدة نثرية بدون وزن معين تنويع القوافي
إطلالة....

قصيدة نثرية بدون وزن معين تنويع القوافي
شراع فوق.... قصيدة نثرية بدون وزن معين تنويع القوافي

ويتضح لنا من خلال هذا الجدول التمثيلي أن الشاعر يكتب أربعة أنماط معينة من القصائد الشعرية، وهي:

1- قصائد عمودية خليلية؛

2- قصائد مقطعية خليلية؛

3- قصائد تفعيلية؛

4- قصائد نثرية.

ومن يقرأ القصائد الشعرية النثرية لدى سعيد الجراري، فإنه سيجد خضوعها إلى حد كبير لمجموعة من التفاعيل الشعرية الموزونة التي تنسب إلى بحور عدة. بل يمكن الحديث أيضا ضمن هذا التنوع العروضي داخل القصيدة النثرية عن ظاهرة التدوير، ومزج التفاعيل بشكل كبير لتحقيق نوع من التوازي العروضي، والتشاكل اللغوي، والتعادل النحوي والصوتي.

أما على مستوى القافية الشعرية، فقد كان الشاعر يميل كثيرا إلى القافية المطلقة الموصولة على حساب القافية المقيدة بالسكون، والتي لم يوظفها إلا في بعض قصائده الشعرية النثرية. زد على ذلك، يوظف الشاعر الروي الأكثر استعمالا في الشعر العربي القديم والحديث، مثل: الدال، واللام،والباء، والراء، والميم، والهمزة، والسين، والحاء، والعين، وهاء السكت...

هذا، ويكثر الشاعر من القوافي الذلل، السهلة الركوب إيقاعيا، مثل: الدال، والباء، والميم، واللام، والراء، والهمزة. أما الحاء والعين والسين في الديوان الشعري، فهي من القوافي الشاذة وغير المطردة. وبالتالي، فالقصائد الشعرية العربية التي تعتمد على هذه القوافي تعد نسبتها قليلة جدا.

أما هاء السكت، فيستعملها الشاعر في قصائده الشعرية الجديدة سواء أكانت نثرية أم تفعيلية للتأكيد على القافية المقيدة بالسكون. بينما أغلب القصائد الشعرية في الديوان، فهي مطلقة موصولة عادية أم مردوفة أم مؤسسة دخيلة. كما أن القوافي مجهورة وشديدة، باستثناء الحاء والسين فهي قواف مهموسة ورخوة واحتكاكية.

بيد أن الشاعر سعيد الجراري قد وقع في بعض العيوب العروضية على مستوى التقفية، كالإكثار من عيب سناد التأسيس، وهو أن يأتي الشاعر ببيت مؤسس وآخر غير مؤسس، مثل، قول الشاعر:
فويل لهم منا وتــــــبت قلوبهم

وسحقا لمسعى من علينا تمردا

سيصلون نارا من جنود بواسل

ذوي أهبة لايرهبون الشدائدا
فقافية " تمردا " غير مؤسسة، بينما قافية " الشدائدا " مؤسسة ودخيلة.

وهناك مثال آخر في قصيدة:" حب الأوطان" حيث نجد عيب سناد التأسيس كما في هذه الأبيات( بدائع/ منابع/ مولع):

إلى مغرب الأمجاد تهدى الروائع
من الشعر وشته القوافي البدائع
وزين فيه الوزن سندس نسجـــه
كما زين الزهر الندى والمنــابـع
في روضة النشوان،تشدو العواطف
من الحب للأوطان والقلب مولـــع

وهناك مثال آخر لعيب سناد التأسيس كما في قصيدة " بنت الزجاجة"(تصافحوا/ يصلح):

شربوا كؤوس خمرهم، وسُلافِهِمْ
فتعانقوا،وتراقصوا،وتصافــــحوا
لما انْتَشَواْ، فقدوا الصواب بشكرهم
فالعقل أثمن ما يصان، ويصلـــــحُ

هذا، ويكثر الشاعر على مستوى حركة القافية من الضم والكسر، ويقل الفتح. وقد قال فوناجي Fonagy بأن الكسرة تعني الصغر واللطف والجمال... والضم تعني الكبر والحزن والقوة.... والفتح يعني الكبر والضخامة.9

ولكن، في رأينا الشخصي، لا تعني الضمة القبح كما يذهب إلى ذلك بعض الزاعمين10، ففي قصائد الشاعر تدل حركة الضم على العظمة والرفعة والسمو والفخامة والسيادة والرياسة والظفر والانتصار والهيبة. أما حركة الكسر التي توجد في كثير من القصائد الشعرية، فتدل في رأينا على التأكيد الدلالي، والتقرير المعنوي، والتشديد في النبرة، واللطف في النطق والإيقاع. ولا علاقة لها بالانكسار والصغر والاحتقار، وذلك حسب سياقات قصائد الديوان، بل تدل على مجابهة المواقف والوقائع والأحداث والحالات والأفعال والأشياء بالكسر، والتسلح بقوة التنفيذ والقرار. أما حركة النصب في الشعر، فتدل على القوة والتعدية والضخامة.

وإذا انتقلنا إلى مستوى الإيقاع الداخلي، فلقد استعمل الشاعر التصريع والتقفية في البيت الأول على غرار القصائد الخليلية العمودية:
سبط الرسول رفيع الأصل والحسب

تعلو مناقبه شوطا عن السحب
(البيت من البحر البسيط)
عبر الحدود أشــاوس وبواســــــــل
متتابعــــــين قبــــــائل فقــبائل
(البيت من البحر الكامل)

كما وظف الشاعر في ديوانه الشعري الأول التكرار الصوتي (السين، والشين، والباء،والراء، واللام، والنون...)، وذلك بغية استحصال نوع من التجانس الموسيقي، وتوفير التنغيم الهرموني، وخلق نوع من المضارعة الدلالية:

سبط الرسول رفيع الأصل والحسب
تعلو مناقبه شوطا عن السحــب
رمز الشهامة في كل الأمور فلـــــم
تخطئ فراسته قصدا ولم تخــب
هو الذي وسعت أرجــــاء حكمتــه
شتى العلـوم وبعد الأفق والرتب
في حسن منطقه الدر الثمين وفي
حسن البيان له سبق وفي الخطب
يمضي بلا كلل يسعى إلى أمــــــل
فــي المجد للوطن والعز والأرب
أنوار طلعته كالشمس إذ طلعـــــت
تحيي المرابع من بعد وعن كثب
أو كالهلال بدت أنواره سطعــــــت
فوق الهضاب سناه غير محتجب

هذا، وقد شغل الشاعر أيضا التكرار الترادفي ( أشاوس وبواسل) والتكرار اللفظي(المشاكلة) (قبائل كررت مرتين)، وذلك لخلق إيقاعية موسيقية ذهنية، وتجييش المتلقي بهزات القصائد ذات الإيقاعات التنغيمية النبرية، وكل ذلك من أجل الوصول إلى قرابة معنوية ودلالية:

عبر الحدود أشاوس وبواســــــــل

متتابعــــــين قبــــــائل فقبائل

كما استعمل الشاعر التجانس الصوتي (حامي/ حمى) لخلق لحمة دلالية متشابهة، وإيجاد نبرة نغمية نصية هرمونية ثرية:

وحامي حمى الدين الحنيف بحكمة
وعزم له ماض تحدى به العدى
أحامي حمانا دمت للعرش سيدا
لتبني لنا عيشا رفيعـــــا وأرغدا

ويلتجئ الشاعر إلى توظيف ظاهرة المماثلة عن طريق إدغام المتقارب والمتماثل من الأصوات كما في الكلمات المشددة بالتضعيف(اللحن، والطرب، والشهب...):

في كل رابيـــــة عيد ومحتفـــل
وفرحة صدحت باللحن والطرب
أعلامنا رفعت في الجو زاهيــة
جذلانة رفرفت في الأفق والشهب
فيا أيها الملك المحبوب دمت لنا
ذخرا ومفخرة في نصر وفي غلب

تلكم – إذاً- أهم الظواهر الصوتية والنغمية المتعلقة بالإيقاع الخارجي والداخلي، والتي تعني أن الشاعر كان يملك أذنا موسيقية مرهفة متقدة وحادة وحارة.

qالمستوى الصرفي والتركيبي:
يشغل الشاعر في ديوانه الشعري بكثرة مورفيم المد عن طريق تشغيل حروف العلة أو المد أو حروف اللين أو حروف التأسيس للتأكيد والتشديد، وتفخيم المقاصد والمواقف، وتقوية المشاعر والانفعالات. ويحمل المد غالبا في طياته نبرة التأفف والاستعلاء والأنا والتطاول كما نلاحظ ذلك في هذه الأبيات الشعرية:

عبر الحدود أشاوس وبواســــــــل
متتابعــــــين قبــــــائل فقبائل
رفعوا المصاحف هاتفين مكبريــ
ن وكلهم عضد وأعزل راجـل
فإذا المعمر لا يطيق إقامــــــــــة
ببـلادنا وإذا به متخــــــــــاذل
متذمـــــر متراجــــع متقهقـــــــر
فقد الصواب ولم تفده الجحافل
خطط المسيرة حاكــــــها متبصر
بمهارة، فطن، وأعقل، عـادل

ومن هنا، تتأرجح القصائد الشعرية في الديوان بين توظيف الجمل الاسمية ذات النبرة التقريرية التأكيدية، والجمل الفعلية ذات النبرة الحركية الديناميكية. وترد الجمل الاسمية لتعلن مجموعة من القرارات والأحوال والمواقف الثابتة، بينما الجمل الفعلية ترد في شكل أفعال ووظائف وأدوار إنجازية، ولاسيما في القصائد المدحية وشعر العرشيات.

ومن ثم، فالجمل الشعرية كما في الشاهد الشعري السابق تنتقل من تراكيب فعلية دالة على الحركية والفعلية الأدائية، في حين نجد التراكيب الاسمية في الأبيات الأخيرة دالة على ثبات الأوصاف والأحوال.

ويقيم الشاعر بعض قصائده الشعرية على قانون التوازي والتعادل والتماثل، والذي يعد جوهر الشعر عند رومان جاكبسون R.Jakobson. ويكون هذا التوازي على مستوى التماثل الصوتي، والتشاكل اللفظي، وتعادل الجمل والتراكيب النحوية. ويقول جاكبسون في هذا النطاق: " كل مقطع، في الشعر، له علاقة توازن بين المقاطع الأخرى في نفس المتتالية، وكل نبر لكلمة يفترض فيه أن يكون مساويا لنبر كلمة أخرى، وكذلك، فإن المقطع غير المنبور يساوي المقطع غير المنبور، والطويل عروضيا يساوي الطويل، والقصير يساوي القصير، وحدود الكلمة تساوي حدود الكلمة، وغياب الحدود يساوي غياب الحدود، وغياب الوقف يساوي غياب الوقف. فالمقاطع تحولت إلى وحدات قياس، ونفس الشيء تحولت إليه أجزاء المقاطع وأنواع النبر".11

ويتمثل التوازي في الديوان الشعري بكثرة على مستوى الصوتي والصرفي، ويقل كثيرا على مستوى التركيبي كما نلاحظ ذلك في هذه الأسطر الشعرية المتوازية:

انهيار صومعه

احتفال توأمه

مورسية والبوسنه

....................

وليد بوسنه

حفيد مورسيه

سليل معلمه

قتيل شرذمه
ويلاحظ أن معظم قصائد الديوان الشعري، على مستوى التركيب البنائي، غنائية وجدانية قائمة على التذويت والوصف والتشخيص، بيد أن ثمة قصائد قصصية سردية، مثل: هذه القصيدة التي تحوي الحدث السردي والصراع والفضاء والشخصيات والصيغة الحوارية:

ذات منام

لا أتذكر، من زارني

ذات منام

ولكني،أتذكر كيف كان...

كان يؤوساً، جهوما

ينزف همًّا

ينفث حمى،أحرف

حامية، متمردة

على الطين الأشقر

....................

قال لي:

وهو عبوس قنوط

الطين الأشقر

يمتص الأسمر

يمتص الأحمر

يمتص اليابس والأخضر

قلت: كيف هذا؟

قال:

قطف العمائم

عولم القبعات

عولم "كوكا"

ذالك المشروب الأسود

الغازي

المدجج بالدولار

غزا بلاد السند والهند

فتح بلاد الذب الأسود

اكتسح البحار

وما فوق البحار

..............................

سألت:

وماذا؟

لو عولم "الكوكايين"

أجاب منزعجا:

إنها العولمة الكارثة

إن عولم المسحوق الأبيض

الساحق

يحترق الذهب الأزرق

تختنق الأنغام

تحتضر الألوان

ينسحق الأفق الأبلق

تنكسر الأصلاب

تندحر الترائب

ويعود الطين

إلى بطن الطين

زد على ذلك، فقصائد الشاعر تجمع بين نصوص مقطعية ونصوص نثرية وقصائد شعرية بسيطة غير مركبة ولا متعددة الأغراض، مثل قصائد الشعر القديم أو قصائد الإحيائيين. بيد أن قصائده العرشية تخضع لثلاثية: الابتداء(المطلع)، وحسن التخلص(الاستطراد)، والاختتام(المقطع). ويعني هذا أن قصائد الديوان موحدة ومستقلة بموضوع دلالي وموضوعاتي واحد، ويترتب عن هذا وجود وحدة موضوعية وعضوية، بالإضافة إلى وجود خاصية الاتساق اللغوي والانسجام الذهني.

qالمستـــوى الأسلــوبي:

يوظف الشاعر سعيد الجراري في ديوانه الشعري مجموعة من الأساليب الإنشائية الموحية القائمة على التضمين والشاعرية، سواء أكانت هذه الأساليب الإنشائية طلبية أم غير طلبية. ومن بين هذه الصيغ الأسلوبية نجد التعجب:

عجبا لمن جحد الجوار ومارعى
ذمم الأخوة ثم أصبح ينــــــــذل
عجبا!! فكيف تجاهل الكرم الوفيـ
ر وصــــار يشعل فتنة ويضلل

ونجد كذلك صيغة القسم لتأكيد ثبات الموقف والعزيمة:

قسمــــــــا برب العالمين وعونه
سنظل نحفظ عهدها ونواصل
ونواجه الأعداء حـــيث توجهوا
بعزيمة الأبطــــــال حين نقاتل
ونظل نحفــــــــــــظ عاهلنا كما
أمر الإله فـــــلا نخون ونخذل

وثمة أسلوب الشرط الجزائي كما في هذا البيت الشعري:

فإذا المعمر لا يطيق إقامــــــــــة

ببـلادنا وإذا به متخــــــــــاذل

وهناك أيضا أسلوب النفي لخلق مطابقة سلبية:

فسار إلى العيون بلا سلاح
كما أمر الإمام مشى الحشود
فلم يجد المعمـــــــر أي بد
سوى جمع الرحيل ولا يعود

ويتم توظيف أسلوب النداء أيضا لتحقيق خاصية الإبلاغ والتواصل بين المرسل والمرسل إليه أو بين المنادي والمنادى عليه، وذلك في سياق الدعاء للممدوح:

فيا ملك البلاد رعاك ربـــي
ودام علاك والعمر المديد
إلى قمم السعادة سر عزيزا
ومنتصرا يحالفك الســداد
ويا وطن الأباة فذاك شعب
يقوده للعلا الحسن المجيد

ويوظف الشاعر الأمر للدعاء للممدوح بالسداد والنصر والظفر والحفظ كما في هذا البيت الشعري:

فيارب سدد خطـــــــاه وأمره

ويا ربنا انصر سليل الأمــــــــاجد

وهناك الاستفهام التعييني كما في هذه الأسطر الشعرية، والذي يراد منه التوسل والاستعطاف والرجاء، والرغبة في تحقيق الوصال بدل الفصال والبين والهجر:

أين مني؟

ذاك الوصال الجميل؟

يا زهوري

يا منيتي

يا رجائي

أين مني

ذاك الجمال الأصيل؟

أين مني؟

ياحُلوتي

يا ضيائي
وثمة أساليب إنشائية أخرى طلبية وغير طلبية تساهم في خلق الوظيفة الشعرية رسالة وتنويعا، وتحقيق الإيحاء والتضمين قصد تفادي التقرير والتعيين والمباشرة.

q المســتوى البلاغــي:

يعتمد الشاعر سعيد الجراري في ديوانه الشعري على مجموعة من الصور البلاغية والفنية كصورة المشابهة القائمة على عنصر التشبيه، والذي من بين وظائفه البيان والتوضيح والتصوير كهذا التشبيه الموجود في هذه الأبيات الشعرية:

أنوار طلعته كالشمس إذ طلعت
تحيي المرابع من بعد وعن كثب
أو كالهلال بدت أنواره سطعت
فوق الهضاب سناه غير محتجب

ويستعمل الشاعر أيضا الاستعارة المجازية تصريحا أو تكنية، تشخيصا أو أنسنة كما في هذه الأبيات الشعرية:

هو الهمام الذي يحمي حمى وطن
أرجاؤه انعتقت من غي مغتصب
يعلي المفاخر في حزم وفي ثقة
جلــت عزائمه بالعلـــــم والأدب
يبني لنا وطنا بالعلم في زمــن
تسمو البلاد وتجني حسن مكتسب
أعلامنا رفعت في الجو زاهية
جذلانة رفرفت في الأفق والشهــب

كما يشغل الكناية الدالة عن الموصوف، فالحسن المشار إليه في البيت كناية عن ملك المغرب:

موحد شملنا الحسن المجيد

إمام بـــــــلادنا الملك الرشيد

ويوظف الشاعر كذلك المجاز العقلي القائم على العلاقة السببية، حيث أسند فعل بناء البلاد إلى غير صاحبه الحقيقي، وذلك من باب المجاز العقلي ليس إلا كما يظهر ذلك جليا في هذا البيت الشعري:

يبني لنا وطنا بالعلم في زمــن

تسمو البلاد وتجني حسن مكتسب

ويشغل الشاعر المجاز المرسل المبني على العلاقة الجزئية (الإبهام دال على الإنسان عامة):

كل قطعان الحي تثغو

إذا الإبهام

حك سبابة البذل حكا

والرؤوس الجوفاء

تنقاد كالقطعان

للوهم المعشب

للسراب

ويستعمل الشاعر أيضا رموزا موحية سواء أكانت رموزا دينية (مثل الرميم. مثل أصحاب الكهف، أولى الرقيم)، أم رموزا طبيعية (الليل، والنور، والصباح...)، أم رموزا صوفية عرفانية كما في هذين المقطعين الشعريين:

رحيق الليالي

ينير الحنايا

ينساب في الأعماق

جمرا من الأشواق

حنينا إلى

حضرة العاشقين

حيث الهوى أنوار

إشعاعه مِدرار

يداوي فؤاداً

به الوجد طار

.....................

يامالك الأسرار

يسِّر لي الأسفار

سبيلاً إلى

روضة العارفين

في حضنها أرتاح

من شرِّ ما يجتاح

ويعمي البصائر

ويدمي الضمائر

كما أن ثمة رموزا مكانية (مورسية/ الأندلس...)، وهناك أيضا رموز أدبية وتاريخية( أبو البقاء الرندي):

انهيار صومعه

احتفال توأمه

مورسية والبوسنه

............................

وليد بوسنه

حفيد مورسيه

سليل معلمه

قتيل شرذمه

..............................

منذ أبي البقاء الرندي

حتى أبي الفناء البوسني

خمسمائة عام

من طوفان رنده

إلى إعصار بوسنه

كما طعم الشاعر قصائده الشعرية بمجموعة من المحسنات البديعية العفوية الوظيفية كالطباق الموجب: الليل والنهار لتأكيد جدلية الظلمة والنور:
ينمحي ليل الناس

عند الصباح

يحتوي جنحُ الليل

صُبح الجريح

يختفي فجري

كلما همت فيها

أهتدي بالنور الَّذي

في هواها
ووظف الشاعر كذلك خاصية المقابلة للإحالة على جدلية الصراع بين الصليبية والإسلام:
قرع الناقوس

صمت المؤذن

صعد الصليب

طمس الفانوس
كما وظف الشاعر سعيد الجراري محسن الجناس الناقص لخلق نوع من التوازي الصوتي والدلالي:
ورد ذوى

علج غوى

عرض هوى
وعليه، فالصور الشعرية التي وظفها الشاعر في ديوانه صور فنية لم تخرج عن صورة الرؤية وصورة الوثيقة المرتبطتين بالذاكرة التراثية والحس المرجعي والبيئة المألوفة والعالم المادي الذي يحيط بالشاعر. ولم تنتقل هذه الصور البلاغية كذلك فنيا وجماليا إلى ما يسمى في النقد الحديث بالصورة الرؤيا القائمة على الاندهاش والخرق والجنون والانكسار والحداثة والتحول والمواجهة والـتأسيس كما نجد ذلك في شعرنا الانزياحي المعاصر عند أدونيس، وعبد الوهاب البياتي، وخليل حاوي، والماغوط، وأنسي الحاج، ومحمد بنيس... بل كانت صور الديوان حسية الطابع، وواقعية المقصد، ومألوفة الملمح، وتراثية المرجع. ويعني هذا أن الشاعر لا يستعمل صورا شعرية مجردة تتسم بخاصية الغموض والإبهام والانزياح الخارق، بل يقف عند صور شعرية مادية محسوسة تتأرجح بين التعيين والتضمين أو التقرير والإيحاء. كما يستوحي صورا شعرية مستهلكة في الشعر العربي القديم عن طريق المعارضة والتناص والاستدعاء والتضمين والاقتباس...
qالمستوى التناصــي:

يلتجئ الشاعر سعيد الجراري إلى خاصية التناص في بناء قصائده الشعرية، والتناص عند مشيل أريفي هو:" مجموعة من النصوص تدخل في علاقة مع نص معين....وأقصى حالاته، بدون شك، المعارضة".12

ومن هنا، يمكن الحديث عن كثير من المستنسخات التناصية في هذا الديوان الشعري سواء أكانت صوتية إيقاعية أم تركيبية أم دلالية أم معرفية ثقافية.

ومن هذه المستنسخات نستدعي الإحالات الدينية(الإشارة إلى طوفان نوح وقصة أصحاب الكهف):
مركبي في أحشاء

بحر الركام

يرتدي بُرْدَ الليل

مثل الرميم.

مثل أصحاب الكهف

أولى الرقيم

ويمكن لنا أيضا أن نعد قصيدة أبي تمام البائية في فتح عمورية:

السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
بمثابة طرس ومرجع وصدى تناصي لقصيدة سعيد الجراري " أنوار طلعت كالشمس إذ طلعت":

سبط الرسول رفيع الأصل و الحسب

تعلو مناقبه شوطا عن السحب

ويمكن اعتبار قصيدة الخنساء السينية مرجعا وصدى لسينية الجراري، حيث تقول الخنساء في رثاء أخيها صخر:

يؤرقني التذكر حين أمسي

فأصبح قد بليت بفرط نكس

بينما الشاعر سعيد الجراري يقول في قصيدته السينية من ديوانه الشعري:

غابت شموس الهدى عن قلب منغمس
في حضن ساحرة بالأعين النعس
تسقيه من جفنها سحرا ومن كأسها
سكرا يغيبه عن وعيه الأخــرس
ليلاه تأسره باللمس والرشـــــف
والكأس تحشره في الرجس والدنس
يفني لياليه في سكر وفي سفـه
لا يستفيق ولا يصحو من الهـــوس

وتعد قصيدة حسان بن ثابت الهمزية في مدح الرسول (صلعم) مرجعا متناصا لهمزية الشاعر:

عدمنا خيلنا! إن لم تروها

تثير النقع، موعدها كداء!

يقول الشاعر سعيد الجراري في همزيته في مدح الملك صاحب العرش:

سلوا وطن العلا لمن اللِّواء؟

تعانقه و تحرســه السماء

و ربما تأثرت ميمية الشاعر في مدح الإمام:

أنت الإمام بحبل الله معتصــــمُ

في كل أمر عظيم،أنت معتـزمُ

بقصيدة أحمد شوقي في مدح الرسول(صلعم)، والتي مطلعها:
ريم على القاع بين البان والعلم

أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

أو قد تكون قد تأثرت أيضا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بقصيدة البوصيري الميمية في مدح خير البرية:

محمد سيد الكونين والثقلين والفريقيــن من عرب ومـــــــن عجم

هو الحبيب الذي ترجى شفاعته
لكل هول منم الأهوال مقتحـــم
فاق النبيين في خلق وفي خلــق
ولم يدانـــوه في علــم ولا كرم
فمبلغ العلـــــــــــــم فيه أنه بشر
وأنه خير خــــــــلق الله كلهــم
دعني ووصفي آيات له ظهرت
ظهور نار القرى ليلا على علم

وهناك أيضا تأثر واضح بقصيدة جبران خليل جبران" المواكب" كما في قصيدة:" زورقي في جمر الرجاء غريق":
ليس في سرِّ الزهر

زورٌ أو حَيْفٌ

أو تزويق

من خداعٍ وَزَيْف.

كما تتناص قصيدة:" الطين الأشقر" لسعيد الجراري مع قصيدة:"الطين" للشاعر اللبناني إيليا أبي ماضي:

نسي الطين ساعة أنه طين

فصال في التيه وعربد

كما تتناص قصيدة:" رقصة الموت" لسعيد الجراري مع قصيدة أبي البقاء الرندي:

لكل شيء إذا تـــــــــم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان

هذا، ويقول الشاعر سعيد الجراري في داليته في مدح الملك صاحب العرش معارضا دالية المتنبي في مدح سيف الدولة:

إذا ما عظيم الشأن رام المحامدا

خطا نحوها خطوا حثيثا مسددا

ويقول المتنبي:

لكل امرئ، من دهره، ماتعودا

وعادة سيف الدولة الطعن في العدا

ويعارض الشاعر سعيد الجراري في رائيته المدحية أو العرشية قصيدة أبي فراس الحمداني:

عم فضل الله واستحكم النصـــــــــر

وهذا أوان العيد فليهنأ الحـــــــــــر

ويقول الشاعر العباسي أبو فراس مستعطفا سيف الدولة:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر

أما الهوى نهي عليك، ولا أمــــر

وقد تأثر الشاعر كذلك في داليته في وصف مدينته: " الناظور" بدالية ابن الرومي في رثاء ابنه الأوسط أيما تأثر على مستوى القوافي والمعاني، وذلك على الرغم من تغير المعنى والغرض:

يا سائلا عن رُبى الناظور جُل تجد

أخبار من وهبوا الأرواح للبلـــد

ويقول ابن الرومي راثيا واسطة العقد:

بكاؤكما يشفي، وإن كان لا يجدي

فجودا، فقد أودى نظيركما عندي!

ويعني كل هذا أن قصائد الشاعر سواء أكانت ذاتية وجدانية أم قصائد مدحية عرشية مبنية على الذاكرة التراثية، ومحاكاة الصورة المرجعية، مع تشغيل آليات الاستيحاء كالتناص و التضمين والاستحضار والاقتباس...

q المستوى التــداولي:

نلاحظ على مستوى التداول أن ثمة أنواعا ثلاثة من المقصدية 13 في الديوان: مقصدية التحسين كما في قصائد العرشيات، حيث نجد الشاعر يشيد بالممدوح ثناء وتبجيلا وتعظيما وتنويها، ومقصدية المطابقة وأسميها كذلك مقصدية التذويت، والتي تتجلى في قصائد الذات والوجدان، حيث يهدف الشاعر إلى رياضة الخواطر والملح، واكتساب البراعة في وصف الشيء ومحاكاته. أما مقصدية التقبيح في الديوان، فتظهر في قصيدة: " أطفال العامرية"، حيث يندد الشاعر بسلوك الأعداء الذين سفكوا أرواح الصغار ظلما وبطشا وعدوانا، فيقبح تصرفاتهم المشينة المتقززة، والتي تتنافى في عمومها مع قيم الحضارة الإنسانية:
أين السلام، الذي قالـــوا:

بأنهـــم
لبوا نِداه؟...فهل، بالحرب والشغب؟
أين الحقوق، التي للناس٠في خُطَبٍ
تتلى مرارا؟...فهل باللغو والكــذب؟...
في العامرية، أطفال،عظامهــــــــم،
صارت رمادا... كفعل النار في الحطب
ماوزرهم؟.حين ماتوا في ملاجئهم،
قصفا، وحرقا، بلا ذنب، ولا سبـــــب
هلا رحمتم نساء،ما لهن سوى،
رعي الصغار،ومسح الدمع و الكُرَبِ.

وإذا تمثلنا آراء رومان جاكبسون، فالديوان يحمل في طياته وظيفة تعبيرية انفعالية تتضح ذلك بكل جلاء في قصائد الذات والوجدان، ووظيفة مرجعية تتعلق بمدح الممدوح والإشادة بمنجزاته الخارقة.

وعليه، فقد التجأ الشاعر إلى مجموعة من المبادئ التداولية بغية التأثير على القارئ المتقبل، وإقناعه ذهنيا ووجدانيا وحركيا. لذا، وظف الشاعر مجموعة من صور التشبيه والاستعارة الواضحة والقريبة والمألوفة، فلم يوغل في التجريد والغموض والإبهام والالتباس. ويعني هذا أن الشاعر أخذ بمبدإ التعاون التداولي، مع احترم عقدة التواصل بينه وبين المتلقي، وذلك عبر تمثل مجموعة من القواعد التداولية كقانون الصدق، وقانون الاستقصاء(الكمية)....

وعليه، فلقد اختار الشاعر مبدأ الصدق، فرفض كما قلنا سابقا الإحالة والتناقض والتدافع، فاختار الحقيقة والتعيين والصدق والقرب من الذات والممدوح تعبيرا واسترسالا. أما الصفات الخارقة والكاذبة التي أسبغها الشاعر على الممدوح فلا تخرج عن الاختلاق الإمكاني. ويعني أن أصدق الشعر كما قال أفلاطون أكذبه.

كما يتمثل الشاعر قانون الاستقصاء أو قانون الكمية في قصائد العرشيات، وذلك عبر الاستقصاء والاستقراء والاستطراد، وتقديم معلومات وافية وكافية عن الممدوح، مع رصد أعماله، وذكر منجزاته وأعماله الخارقة بأسلوب تصويري واضح يجمع بين التعيين والتضمين. ويسمى هذا بالمحاكاة التامة في الوصف، أي:" استقصاء الأجزاء التي بموالاتها يكمل تخييل الشيء الموصوف... وفي التاريخ استقصاء أجزاء الخبر المحاكى(المحكي) وموالاتها على حد ما انتظمت عليه حال وقوعها".14

ويقول ديكرو Ducrot في هذا السياق بأن هذا القانون:" يحتم على المتكلم أن يعطي، على الموضوع المتحدث عنه، المعلومات الأساسية التي يمتلكها والتي من شأنها أن تفيد المخاطب".15

هذا، ويستعمل الشاعر سعيد الجراري مجموعة من الضمائر تنويعا وتداولا والتفاتا، كالانتقال من ضمير التكلم (الحضور) في قصائد الذات والوجدان إلى ضمير الخطاب والغياب كما في قصيدة" شراع فوق حوض الجزيرة" ومجموعة من قصائد العرشيات. ويعني هذا أن الديوان مبني على ثنائية الذات والآخر إبلاغا وتواصلا.
ب- مرحلـــة التركيـــــــب:
ينتهي التحليل السيميائي كما هو معهود دائما باستقراء النتائج الكلية، وتحديد القوانين الوصفية لعملية التحليل والتشريح والتفكيك. وغالبا ما تكون نتائج التركيب بمثابة خلاصات واستنتاجات تنصب على قراءة الشكل وانبثاق المعنى، وتفسير آليات العمل التي تحكمت في توليد النص على مستوى العمق، وتشكيله على مستوى السطح، وبنائه على مستوى التمظهر النصي.

نتائـــج القــــراءة:

يقوم ديوان سعيد الجراري:" من بروج الذاكرة" على الجمع بين قصائد الذات والوطن، والجمع بين قصائد عمودية خليلية وقصائد الأشطر والأسطر الشعرية انطلاقا وتحررا.

وقد لاحظنا أن الشاعر ينوع من تيماته الموضوعاتية وحقوله الدلالية والمعجمية، والتي تتأرجح في الغالب الأعم بين المعجم الرومانسي ومعجم المدح. كما يجمع الشاعر بين خاصية التقليد ( قصائد المدح) والتجديد (قصائد الشعر الحر والمنطلق). ويزاوج الشاعر كذلك بين قصائد غنائية وقصائد قصصية سردية، بيد أن القصائد الغنائية هي الأكثر تواترا وترددا في الديوان.

أضف إلى ذلك، فلقد استطاع الشاعر أن يتحكم في لغة الأصوات تشكيلا وبناء ومماثلة ومعادلة، و استطاع كذلك أن ينوع على مستوى الإيقاع الخارجي والداخلي وزنا وتقفية وتصريعا.

كما استعمل الشاعر في ديوانه الشعري تراكيب وأساليب وجمل تنتقل بين الثبات والحركية، وتتأرجح بين التعيين والتضمين. علاوة على توظيفه لصور بلاغية موحية، بيد أنها قريبة التناول والألفة على مستوى التقبل والتلقي.

وفي الأخير، يمكن القول بأن ديوان شعر سعيد الجراري، وذلك على مستوى البناء والتشكيل وهندسة الإيقاع، يتموقع بين شعر الوثيقة وشعر الرؤية. كما يحمل في طياته جدلية الماضي والحاضر، وثنائية السعادة والشقاء. وبالتالي، فهو يتضمن على مستوى الدلالة الكلية والعامة رؤيتين متداخلتين إلى العالم، وهما: الرؤية الذاتية الوجدانية (قصائد الذات والرومانسية) والرؤية الوطنية ( قصائد المدح وشعر العرشيات).

الهوامش:

1 - سعيد الجراري: من بروج الذاكرة، مطبعة الأنوار المغربية، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2010م؛

2- انظر: جوزيف كورتيس:مدخل إلى السيميائيات السردية والخطابية، ترجمة: جمال حضري، تقديم: د. جميل حمداوي، مطبعة الجسور بوجدة، الطبعة الأولى سنة 2007م، ص:73 وما بعدها؛

3 - سعيد بنكراد: السيميائيات السردية، منشورات الزمن، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2001م، ص:55؛

4 - د. محمد مفتاح: في سيمياء الشعر القديم، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1989م،ص:42؛

5 - إبراهيم أنيس: موسيقى الشعر، مكتبة الأنجلو المصرية، مصر، طبعة 1965م؛

6 - علي حلمي موسى: إحصائيات جذور معجم لسان العرب، باستخدام الكمبيوتر، الكويت، طبعة 1972م؛

7- د. محمد مفتاح: في سيمياء الشعر القديم، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1989م،ص:32؛

8- حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، مطبعة تونس، الطبعة الأولى سنة 1966م، 259؛

9 - د. محمد مفتاح:في سيمياء الشعر القديم، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص:68؛

10- د. محمد مفتاح:في سيمياء الشعر القديم، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص:68؛

11- R.Jakobson: Essais de linguistique générale, paris, Minuit, 1963, p.220 ;

12-Catherine Kerbrat – Orecchioni: la Connotation, paris, P.U.L, 1977, p: 130 ;

13- نقلا عن جابر عصفور: الصورة الفنية، دار المعارف، القاهرة، مصر، بدون تاريخ للطبعة، ص:367؛

14- حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص:105؛

15- O.Ducrot: Dire ne pas dire, Herman, paris, 1972, p134.

للشاعر المغربي سعيد الجراري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى