السبت ٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

مقبرةُ بيتٍ ترابيٍّ

كانَ منزلُ جارِنا العمِّ بدرٍ يتألَّفُ من بيتٍ ترابيٍّ كبيرٍ خُصِّصَ للدَّوابِّ والمؤونةِ، وغرفةٍ صغيرةٍ جدرانُها من الإسمنتِ، وسقفُها من الخشبِ والتُّرابِ، وأمامَه حَوْشٌ مسوَّرٌ بالحجارةِ تعلُوها الأشواكُ سِياجاً، وإلى جانبِه يتربَّعُ بيتُ جدِّي التُّرابيُّ القديم الّذي تحوَّلَ إلى إسطبلٍ للحيواناتِ وأمامَه فِناءٌ واسعٌ تُزرعُ فيهِ بعضُ الخضراواتِ كالبصلِ والبقدونسِ والطَّماطمِ.

وكانَ منزلُنا الّذي تسكنُه الأسرةُ بجوارِ المنزلينِ التُّرابيّينِ، وقد عشْتُ فيه طفولَتي وكانَ أيضاً منَ الحجارةِ والتُّرابِ، لكنّني حينَما شببْتُ عن طوقِ الطُّفولةِ أدركتُ نهضةً عمرانيَّةً في القريةِ تحوَّلَت معظمُ المنازلِ التُّرابيَّةِ إلى بيوتٍ عصريَّةٍ منَ الإسمنتِ والحديدِ.

كانَ أبي يعملُ في الزِّراعةِ وتربيةِ المواشِي والأبقارِ والاتِّجارِ بِها، إذْ قضَى شطراً واسعاً من حياتِه، وهو يكدُّ ويشْقَى في الفلاحةِ والتِّجارةِ. ولذلكَ كانَ يستيقظُ باكراً ليتفقَّدَ حيواناتِه، ويقدِّمَ لها التِّبنَ والعلفَ ويزوِّدُها بالماءِ، ثمَّ تتولَّى والدتِي وأخواتي تنظيفَ الحظيرةِ من الرَّوثِ وتهويتَها وتشميسَها نهاراً.

ذاتَ يومٍ أيقظَ القدرُ أبي منَ النَّومِ قبلَ الموعدِ المعتادِ، وحاولَ النَّومَ، لكنَّ أجفانَه لم تعُدْ تعرفُ طعمَ الرَّاحةِ، فنهضَ من فراشِه بعدَ أن شعرَ بأنَّ شيئاً ما يحدثُ في حظيرةِ الدَّوابِّ، فنزلَ بهمَّةٍ ونشاطٍ إلى الزَّريبةِ، كانتِ الدَّوابُّ تغْفُو وتحلمُ بالصَّباحِ منتظرةً الأياديَ الخيِّرةَ الّتي تجودُ عليْها بخيرِ العيشِ، وكانتِ الزّريبةُ في هدوءِ المغاورِ، لا شيءَ يُعكِّرُ صفاءَ سكونِ الصَّباحِ قبلَ أنْ بنبلجَ النُّورُ من خلفِ التِّلالِ الّتي تحيطُ بقريتِنا من كلِّ صوبٍ وتؤخِّرُ وصولَ أشعَّةِ الشَّمسِ إلى ربوعِ القريةِ في الواديْ.

وفي هُنيهاتِ السُّكونِ المُطْبقِ يتناهَى إلى مسامعِ أبي صوتُ خبطةٍ وقرقعةٍ غريبةٍ، وكان بفطرتِه وبداهتِه قد أدركَ مصدرَ الصَّوتِ ومكانَه، لم يتشتَّت ذهنُه، وأوَّلُ ما خطرَ على بالِه بيتُ جارِنا بدرٍ، كانَ بابُ دارِه مُغلقاً، ليسَ ثمَّةَ وقتٌ للتَّفكيرِ بآدابِ الجيرةِ، فالمخاطرُ تُبيحُ المحظُوراتِ والأعرافَ، فقفزَ فوراً من فوقِ السِّياجِ إلى دارِ الجارِ، وراحَ يدقُّ البابَ ويصرخُ، لم يرُدَّ أحدٌ على النِّداءِ، وأدركَ أنَّ الجارَ وزجتَه في خطرٍ، نظرَ منْ ثقبِ البابِ، فلمْ يرَ نصفَ السَّقفَ التُّرابيِّ، بلْ رأى السَّماءَ، وكانَ النِّصفُ الآخرُ على حالِه، فأدركَ أنَّ نصفَ السَّقفِ قدْ هوَى على رأسيّ الزَّوجينِ اللّذينِ حُرِمَا من نعمةِ الأبناءِ.

في هذهِ اللَّحظةِ الحاسمةِ لا يُجْدي العملُ مُنفرداً، وإنّما لا بدَّ من جهودِ الرِّجالِ حتّى يرفعُوا الأخشابَ والتُّرابَ من قبرٍ صنَعَهُ الفقرُ والقدرُ، فوثبَ أبي كالأسدِ إلى بيوتِ الجيرانِ طارِقاً الأبوابَ بالحجارةِ معَ صُراخٍ يُوحي بشدَّةِ النَّازلةِ، فهبَّ الجيرانُ من رُقادِهم هبوبَ الرِّياحِ، واتّجهُوا لنجدةِ البيتِ المنكوبِ، خلعُوا الأبوابَ والنَّوافذَ وراحُوا يتنافسُون في رفعِ الأتربةِ والأخشابِ حتّى تكشَّفَت أجزاءُ من جسدِ الزَّوجِ، ونادَوهُ وكأنَّه كانَ في حُلمِ الرَّدى.. أنا بخيرٍ أنقذُوا زوجتِي..

وبعد قليلٍ انكشفَ وجهُ الزَّوجةِ، وكانتْ تلفِظُ أنفاسَها الأخيرةَ، لكنَّ القدرَ دفعَ بأبي ليكونَ سبباً في ردِّ المنيَّة وإنقاذِ حياةِ آدميَّينِ، وبعدَ أن تمَّ إنقاذُ حياةِ الزَّوجينِ، راحَا يرْويانِ كيفَ هوَى السَّقفُ إذْ لم يشْعُرا إلّا بشيءٍ أطبقَ عليهِما، وقد حمَاهُما اللهُ بلطفِه، إذْ هوَتْ عارضةُ الخشبِ الكبيرةُ الّتي تحملُ جزءاً من السَّقفِ على حاملِ السَّريرِ الحديديِّ وكانَ يعلُو الرَّأسينِ بقليلٍ، فجاءَت قوَّةُ الصَّدمةِ على حافّةِ السَّريرِ، ومنعَت دفنَ الحيَّينِ، وتركَت ثغرةً بسيطةً للتَّنفُّسِ، ولولا إرادةُ اللهِ في ذلكَ لكانَتْ نهايةُ القصَّةِ مُختلفةً!

وعقِبَ سنواتٍ طوالٍ عاشَها الزَّوجانِ في نعيمٍ بعدَ أن تحوَّلَ السَّقفُ التُّرابيُّ إلى سقفٍ مسلَّحٍ بالإسمنتِ والحديدِ، تختطفُ يدُ المَنونِ روحَ الجارِ بدرٍ وقدْ بلغَ من العمرِ عتيَّاً، وتعيشُ الزَّوجةُ وحيدةً، فتملُّ إقامةَ الوحدةِ، فتحملُ متاعَها؛ لترحلَ إلى ذويْها في قريةٍ مجاورةٍ (بيت ناطر)، فتخلُو الدَّارُ من سكَّانِها لسنواتٍ، ولا يقطنُها إلّا القططُ والفئرانُ وبعضُ الأفاعي، وما هيَ إلّا بضعةُ أحوالٍ، حتّى يعمَّ خبرُ نعيِ الزَّوجةِ بعدَ أن بلغَت أجلَها المحتومَ..

مضَتْ سنواتٌ أُخرُ، فجاءَ أخو المُتوفَّاةِ -رحمَها اللهُ وجارَنا- وعرضَ منزلَهُما المهجورَ هديَّةً لوالدِي تقديراً لمكانتِه ووفاءً لجميلِه، فأبَى أبي الهديَّةَ، وأعطاهُ ثمنَها، وكان حلُمُ والدي أنْ يبنيَ منشأةً لتبريدِ الخضراواتِ والفواكهِ، لكنَّ العينَ بصيرةٌ واليدَ قصيرةٌ كمَا يُقالُ، فجاءَ القدرُ ليحقِّقَ الأملَ، فحملَني على جناحَيه مدرِّساً في الخليجِ، وها هوَ الأملُ قدْ تحقَّقَ أمامَ ناظرَي والديْ -رحمه الله- حينَما بنيْتُ تلكَ المنشأةَ على امتدادِ دارينِ -دارِ جدّي ودارِ جارِنا بدرٍ -رحمَهُم اللهُ جميعاً- وعلى رميمِ أجداثٍ نهضَت منشأةُ التَّبريدِ وتوَّجَها منزلِي العصريُّ الّذي تزيّى بالحجرِ الحمويِّ بكلِّ فنونِ نحتِه وبالقرميدِ الحمصيِّ بشتَّى حُللِه.. وأثناءَ تسويةِ الدَّارينِ وضمِّهِما في قطعةٍ واحدةٍ تتكشَّفُ أسرارُ قبورٍ كانتْ ترقدُ تحتَ غرفةِ بدرٍ الّتي كادتْ أن تكونَ قبراً، وهنا تنضحُ فلسفةُ أبي العلاءِ في الوجودِ حِكماً ودُرراً تردِّدُها الأيّامُ، حينَما يَرى أنَّ الأرضَ ليستْ إلا أجداثاً فوقَ أجداثٍ:

صَاحِ هَــذِي قُبُورُنا تَمْـــلأ الرُّحْــــــبَ
فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عــادِ
خَفّفِ الوَطْء مــــــــا أظُنّ أدِيمَ الــأرْضِ
إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْســــــادِ
وقَبيـــحٌ بنَــــــا وإنْ قَـــــدُمَ العَهْــــدُ
هَــــوَانُ الآبَاءِ والأجْــــــدادِ
سِرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداً
لا اخْتِيالاً عَلى رُفَاتِ العِبـــــادِ
رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْـــداً مــــــراراً
ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُــمِ الأضْــــــدادِ
وَدَفِـــينٍ عَلى بَقـــــايا دَفِـــــينٍ
في طَـــويلِ الأزْمــانِ وَالآبـــادِ


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى