الأربعاء ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم عبد الرحيم العطري

من القبيلة إلى سوسيولوجيا الدقة والتخصص

دوما يقابلك بابتسامته الطيبة، هادئا حريصا على الدقة في التحليل، يقدم طروحاته وملاحظاته، بعيدا عن التعميم والقطع النهائي، إنه راغب في الفهم لا غير، استنادا إلى معرفة نسبية لا تنتصر لدوغمائية فارغة، هذا هو المختار الهراس، القادم إلينا من قبيلة أنجرة شمال المغرب، مؤسس سوسيولوجيا الأسرة مغربيا، والمنتقل بالدرس السوسيولوجي من خيار العناوين الكبرى إلى التخصص وتخصص التخصص.

يلج المدرج بكلية آداب الرباط، منذ ثمانيات القرن الفائت، ليجيب على أسئلة طلبته بتواضع العلماء الكبار، يحرضهم على المضي قدما في اتجاه السوسيولوجيا العلمية وعدم الاكتفاء بالتلقي، فلا مناص من الدخول في سجل الإنتاج، فمن اختار بالصدفة أو الخطأ أو بقرار وهم وجوديين حرفة عالم الاجتماع، عليه، وبالضرورة أن يكون كاتبا، وأن ينقل معرفته إلى عموم الناس.

فالانتماء إلى علم الاجتماع لا يتوقف برأيه بحيازة شهادة عليا، ولا يتحقق بنشر الأطروحة اليتيمة، إنه انتماء هوياتي، يتأكد واقعيا بالممارسة المستمرة، والكتابة المتواترة، فالسوسيولوجيا معرفة استثنائية لا تقبل بالخمول والاستكانة إلى النوستالجيات الفائتة. لهذا كان الهراس وما يزال ممارسا سوسيولوجيا كتابة وتنظيرا وتأطيرا، بشكل فردي أو جماعي في الغالب، وهو ما يلوح أكثر في إنتاجاته المشتركة مع زميله وأخيه الدكتور إدريس بنسعيد وكذا مع الدكتورة رحمة بورقية.

المختار الهراس يعد من أبرز علماء الاجتماع المغاربة، اعتبارا لمساهمته الفاعلة في التأسيس لمدرسة سوسيولوجية مغربية، وذلك عبر مستويين من العمل الجاد، يتوزعان على الإنتاج المعرفي والتكوين الأكاديمي، فالهراس من السوسيولوجيين الذين أهدوا المكتبة العربية جملة من الكتب والدراسات والمقالات المنشغلة أساسا بأسئلة علم الاجتماع في مجالات السياسة والقبيلة والشباب والأسرة والمرأة والتقليد والتحديث..، كما أنه يواصل تأطير وتكوين طلبة الاجتماع كأستاذ للتعليم العالي بجامعة محمد الخامس أكدال بالرباط، وكرئيس لوحدة التكوين والبحث في التحولات الاجتماعية والتنمية وكعضو مؤسس بمجموعة الأبحاث والدراسات السوسيولوجية بذات الجامعة.
ظهرت أولى أعماله في أمهات المجلات العربية، كالمستقبل العربي والفكر العربي والوحدة، وبحكم تمكنه من الفرنسية والإنجليزية والإسبانية فقد نشرت له أعمال أخرى بمجلات دولية أخرى. فالهراس، وإلى جانب اشتغاله بكلية آداب الرباط، فإنه يحل من حين لآخر أستاذا زائرا بأعرق الجامعات الأوروبية، مقدما الدليل على أن السوسيولوجيا، كما الحب، لا وطن لها، وأنها مجهود إنساني يتوجب تداوله والتفكير فيه بصيغة الجمع لا المفرد.

أعمال الهراس تتنوع بين أعمال فردية ومشتركة وجماعية ك "القبيلة والسلطة: تطور البنيات الاجتماعية في شمال المغرب" و"المرأة وصنع القرار بالمغرب" و"الخصوبة والسلوك الإنجابي" و"المناهج الكيفية في العلوم الاجتماعية" و"التحولات الاجتماعية والثقافية في البوادي المغربية"، و"ويسترمارك والمجتمع المغربي"...و هو بهكذا اختيار فردي/مشترك، وكأنه يجيب عمليا على سؤال العطب الذي يعتور السوسيولوجيا بالمغرب، وهو ذات السؤال الذي أشار إليه أحمد شراك وعبد الفتاح الزين بالقول، بأنها سوسيولوجيا بصيغة المفرد لا الجمع، فنحن نتوفر، مغربيا، على سوسيولوجيا الأفراد لا المشاريع الجماعية، الشيء الذي يمنع من خلق تيارات ومدارس فكرية متعددة داخل المتن السوسيولوجي المحلي.

الاقتناع بجدوى العمل المشترك هو ما سيدفعه إلى المساهمة في تأسيس "الكريس" برفقة رحمة بورقية وإدريس بنسعيد وآخرين، وهو المركز الذي سينتج دراسات مهمة في أكثر من مجال، وسيجرب تقنيات منهجية تستعمل لأول مرة في البحث السوسيولوجي بالمغرب كتقنية المجموعة البؤريةوسيسهم، وهذا هو المهم، في تكوين جيل من الباحثين الشباب، قد يحملون المشعل غدا، ضمانا لاستمرارية هذا النفس المعرفي الشيق والشقي في آن.

يظل البحث عن أفضل الطرق المؤدية إلى المعلومة، انشغالا مركزيا لدى المختار الهراس، فأدوات الاشتغال السوسيولوجي يفترض فيها أن تكون وظيفية وعملية، وأن تقود الباحث نحو عمق الأشياء التي تكتنز المعنى وتؤشر على شروط إنتاج الفعل الاجتماعي، ولهذا يتوجب دوما العمل على الشحذ المستمر لهذه الأدوات، أملا في تجذير السوسيولوجيا العلمية والتمكن أكثر من الظاهرة الاجتماعية.

على درب هذا البحث عن التقنيات الأكثر إجرائية لجمع المعطيات من مجتمع الدراسة، بدأ الانفتاح على تقنية "المجموعة البؤرية"، ولأول مرة، بالمغرب خلال سنة 1996 تحديدا، وذلك في إطار دراسة حول الهجرة الداخلية أنجزها المختار الهراس بمعية إدريس بنسعيد وعبد الرحيم عمران.

فالهراس يقول في أكثر من مناسبة بأن "المناهج الكيفية توفر من المعلومات والتفاصيل حول المواضيع المدروسة ما لا توفره المناهج الكمية"، وهذا ما يتوجب تفهمه جيدا حتى يتم التحرر من ذلك التمثل المعطوب للسوسيولوجيا كعلم لا يكتسب شرعية معرفية بعيدا عن "الاستمارة والأرقام "، فهناك تقنيات أخرى أكثر أهمية وأداتيه في الوصول إلى المعطيات الاجتماعية، لكن متى يتم التحرر من سلطة "سوسيولوجيا الاستمارة والأرقام"؟ ومتى تغدو المجموعة البؤرية وغيرها من التقنيات الكيفية أدوات أكثر شيوعا في خارطة السوسيولوجيا المغربية؟ وكيف السبيل بعدا إلى هكذا وضع علمي؟

المختار الهراس يعترف بأن السوسيولوجيا معرفة فوق العادة تستلزم جودة في الأداء، وأفق انتظار مفتوح على غير المتوقع، فالظاهرة الاجتماعية معقدة للغاية، ولا يمكن التمكن منها بيسر شديد، وهنا بالضبط يلح على تدقيق الأدوات المنهجية وبلورة مفاهيم الاشتغال، فتحديد المفاهيم عنده، ليس مجرد ترف علمي تفرضه خطوات البحث، بل هو ضرورة منهجية ومعرفية لتوحيد لغة التعاطي والتداول.

فالهراس يؤكد دوما بأن المجتمع المغربي "يمر كغيره من المجتمعات العربية، بتحولات جذرية متسارعة، تعمل على تغيير البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهذا المجتمع، وتؤثر على مختلف الأطراف الفاعلة، بدرجات متفاوتة. وضمن هذا الإطار، تتفاوت درجات الاستفادة أو التضرر من هذه التحولات بحسب مدى هشاشة الفئة المعينة أو مدى سيطرتها وتمكنها". والثابت والمتحول في سياق هذه التحولات هو الأجدر بالمتابعة من أجل الفهم والتفسير، لكن بعيدا عن التأويل، الذي يسقط الباحث في فخ الأدلجة، فحرفة عالم الاجتماع، بالنسبة إليه، تستوجب أقصى درجات الحياد والبرود.

سيشتغل الهراس طويلا على القبيلة، كمفتاح لفهم تحولات المجتمع الأنجري والمغربي عموما، فلا يمكن فهم ذات المجتمع بدون الرجوع إلى ثلاثية "المخزن، القبيلة، الزاوية"، فالقبيلة عنده تلوح كمكون مركزي في النسق المغربي، ألم يقل العروي قبلا بأن "تاريخ المغرب هو تاريخ قبائل قبل أن يكون تاريخ دول"، وفي اشتغاله على القبيلة سيحاور العصبية الخلدونية والسوسيولوجيا الكولونيالية وإرث المدرسة الانقسامية، كما أنه سيفتح بابا/ نصا غائبا في التركة الاستعمارية، وهو المتعلق بالمعرفة التي أنتجها الإسبان حول المجتمع المغربي، منتهيا إلى وجود أعمال لا تقل أهمية عما أنتجته المدرسة الفرنسية.

بعد طول اشتغال على القبيلة سيجد الهراس نفسه مسائلا للشباب والقيم والتنمية المحلية والتحولات الأسرية تحديدا، متوجا هذه المساءلة بأطروحة جامعية حول "بروز الفرد في قبيلة أنجرة"، والتي جاءت لتعلن انتماء تخصصيا في قارة السوسيولوجيا تحت مسمى "سوسيولوجيا الأسرة"، وتدعو في الآن ذاته إلى الانعتاق من سوسيولوجيا العناوين الكبرى إلى التخصص أو تخصص التخصص. وهذا ما لاح أيضا في الأعمال التي أشرف عليها بعدا في إطار إعداد أطروحات نيل الدكتوراه، فالتركيز على قضية أو مجال محدد، وإلى أقصى حد ممكن، يسعف كثيرا في الدرس والتحليل، ويقود فعلا إلى بناء سوسيولوجيا علمية، تتمكن من تفاصيل التفاصيل.

المختار الهراس نموذج مائز للأستاذ والمربي الذي لا يمل من تشجيع طلبته على التحصيل العلمي، إنه مستمر في تعليمهم فصول العشق السوسيولوجي، محذرا إياهم من مغبة السقوط في العلم الانطباعي المتسرع، داعيا إياهم إلى الإنتاج بدل التلقي، وإلى الدقة والتخصص بدل العناوين الكبرى، هذا هو المختار الهراس يفرض عليك احترامه وحبه أيضا، بسب معرفته الباذخة وتواضعه الجليل ودماثة أخلاقه العالية، فهنيئا لنا به مربيا ومعلما وإلى غير المنتهى.


مشاركة منتدى

  • لقد دكرتم ان السوسيولوجيا هي معرفة فوق العادة تستلزم الجودة في الأداء وافق انتضار مفتوح على غيرالمتوقع والظاهرة الاجتماعية معقدة. فكيف يمكن لطالب السوسيولوجيا ان يتمكن من حرفته ويصبح قادرا على التحليل وان يمتلك تلك العين الثالتة في الوقت الذي يواجه قمع افكاره وحصره وتقييده بزاوية نظر الأستاذ في حين نعلم ان في العلوم الإنسانية للموضوع قراءات وزوايا عديدة ومختلفة تختلف حسب الافراد وتوجهاتهم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى