الأحد ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٠
بقلم محمد زكريا توفيق

من دفتر الهجرة، لماذ؟

لماذا تهاجر الطيور والأسماك وحيوانات الغابة؟ وما يجعل سمك الثعبان يترك نهر النيل، بعد أن يصوم عن الزاد ويتغير لونه إلى اللون الفضي؟ يسبح قريبا من قاع النهر، تاركا حابي، ويذهب إلى البحر المتوسط ليعبره بالطول، بهدف الوصول إلى الأطلسي.

يظل سابحا في الأطلسي لا يلوي على شئ. ليس له هدف آخر يغريه عن قصده أو يثنيه عن عزمه. حتى لو وفرت له الغذاء الوفير في الطريق، فإنه يرفضه بإيباء، إلى أن يصل هو ورفاقة، القادمين من كل أنهار العالم، في نفس الوقت، إلى مكان بالقرب من جزر "بهامز".

ليست هناك إجابة واحدة على هذا السؤال. كل الإجابات صحيحة ومتنوعة. هناك من يهاجر هربا من الصقيع وزمهرير الشتاء، أو لشح الماء وندرة الغذاء، أو للتناسل وإنجاب الأبناء، أو لأي سبب آخر.

عظيم، لكن ما يمنع سمك الثعبان من التناسل في المياه العذبة الدافئة في عقر داره، في وطنه بين أقرانه ومحبيه وخلانه؟ بدلا من هذه البهدلة والشحططة، والسفر خلال هذه الرحلة المضنية التي تهد الحيل، والتي يظل فيها عائما صائما مسافة تصل إلى أكثر من 7000 فرسخ؟

لا أحد يعلم بالتأكيد. ربما يكون السبب هو اختلاط الأنساب ومزج الجينات والصفات. التهجين واختلاط الجينات ينتج عنه سلالات أقوى وأقدر على مواصلة الحياة ومقاومة الأمراض. هكذا تقول نظرية التطور.

في أوائل الستينيات، ذهب الأستاذ أنيس منصور، الكاتب المصري الراحل، إلى أندونيسيا. رجع منها ومعه حكاية تحضير الأرواح بالسلة أو بالفنجان المقلوب. سرعان ما أصبحت هوجة وموضة لم يخل منها بيت، ولم تسلم منها أسرة.

الكل قد انتابته نوبة تحضير الأرواح هذه. بهدف استحضار أرواح الأموات وسؤالهم: هل هم فى الجنة أم فى جهنم؟ أو لسؤال الأرواح عن حال الحبيب والمستقبل والمخبي والمكتوب.

كنت في ذلك الوقت طالبا أدرس في الجامعة، وأسكن في المدينة الجامعية. أصابتنا أيضا هوجة تحضير الأرواح، فقمت أنا ورفاقي بتحضيرها بالسلة والفنجان. شقاوة وحب استطلاع.

في البداية، أعتقدت فى صحة تحضير الأرواح هذه. عندما كنا نحمل السلة أو نضع أصابعنا على قاعدة الفنجان المقلوب ونحضر روح أحد الموتى، ثم نسألها عن أشياء لا يعرف إجابتها غيرنا، لاحظت أنها كانت تجيب بدقة وصواب مذهلين. الفنجال كان يتحرك وسط دائرة من الحروف الأبجدية. الحروف التي يلامسها الفنجان هي الكلمات، ومن الكلمات تتكون الجمل.

لكن، عندما نسأل الروح عن أشياء لا يعرفها أحد، كانت تخفق فى الإجابة. وبما أنني من النوع الذي لا يقبل شيئا غير منطقي بسهولة، حاولت ربط الإجابات الصحيحة التى أعرفها وحدي بحركة الفنجان.

وجدت عندها أنني من حيث لا أدري، أقوم بتحريك الفنجال وقيادة حركته نحو حروف الإجابة الصحيحة لا شعوريا. لقد اكتشفت أن عقلي الباطن هو الذي يحرك الفنجان.

العقل الباطن هو الذي يحرك الفنجان أو السلة، وليست الأرواح. ليس هناك أرواح ولا يحزنون. الموضوع لا يزيد عن كونه قراءة للعقل الباطن لمستخدمي الفنجان أو السلة، مثل قراءة الكف، والطالع عن طريق المندل والودع، إلخ.

لكن، ما علاقة هذا بموضوع الهجرة؟ أيوه أنا جاي لحضرتك. عندما سألنا أحد الأرواح عن حالة مصر والعالم العربي في ذلك الوقت، أجابت الروح: "اهربوا، فسوف تقوم في المنطقة حروب وقلاقل وثورات، يموت فيها الكثير من الناس، وستكون الدماء للركب. أي والله.

"اهربوا وهاجروا." هكذا جاءت النصيحة. في ذلك الوقت كان عبد الناصر في قمة مجده. لم يكن هناك أي شئ يشير من قريب أو بعيد إلى حروب وقلاقل في الأفق أو في المستقبل.

كانت مصر في وحدة مع سوريا. المستقبل وردي مشرق والأمل مرتفع وكله تمام. أحمد سعيد، مدير صوت العرب، صوته يجلجل في الفضاء الفسيح مناديا "يا عرب".

قبل حدوث الانفصال وفشل وحدة مصر وسوريا، وقبل حرب اليمن، وحرب 67 وحرب 73 ،وحرب الاستنزاف، والحرب الأهلية في لبنان، ودخول إسرائيل بيروت، وحرب العراق وثورات الربيع العربي في كل مكان. كيف تسني للعقل الباطن، ولا أقول الأرواح، معرفة الحروب والقلاقل القادمة، مما جعلها تنصحنا بالهجرة من بلادنا إلى غيرها من بلاد الله لخلق الله؟

لقد تذكرت هذه القصة وأنا أكتب عن الهجرة. ولا أعتقد أنها السبب الرئيسي أو الدافع لقرار الاغتراب وترك الأوطان والابتعاد عن الأهل والأحباب.

حقا الهجرة تنتقي المهاجر كما يقول رجال الإحصاء. بمعنى أن معظم المهاجرين من الشباب والأصحاء والقادرين على العمل والكفاءات والطموحين والمغامرين، أكثر من غيرهم من القابعين الصابرين المستكينين.

إلا أنها قاسية صعبة، بسبب ألم الفراق، تعتبر نصف موت أو أكثر بالنسبة للأب والأم والأهل والأحباب. لا أنسى ما حييت بكاء والدتي وأخواتي يوم مغادرة منزل العائلة للذهاب للطائرة.

سبب هجرتي الحقيقي لا أعرفه. هل هو الفشل في الحب؟ لا أعتقد ذلك، فالبعاد يزيد الألم والشجن، ولا يمحوه أو يخفف من ألمه. لم يكن لدي مشكلة مالية. أكملت تعليمي الجامعي. وظيفتي كمساعد خبير إكتواري في التأمين كان لها مستقبل باهر ومرتب مجزي.

أسكن بمفردي في شقة وسط القاهرة، مركز الثقافة والفنون في ذلك الوقت. قريبة من دور السينما ومسارح العاصمة. أعيش بحرية الشباب بالطول والعرض، بالقرب من الوالد والوالدة والإخوة والأخوات، والصحبة والخلان، أي في عزوة. فلماذا أهاجر إلى المجهول؟

لست كسمك الثعبان مبرمجا بالجينات. ولست من الطيور التي تهاجر بالليل وهي تهتدي بالنجوم، هربا من صقيع الشمال. ولا من الفراشات التي تعبر الأطلسي. ولا الأسود والنمور التي تتبع الفرائس وهي تهاجر طلبا للكلأ والماء. ماذا إذن؟

إنها الحاسة السادسة يا سادة. العقل الباطن، يأمرنا ونحن له مطيعون. وكما يقول "كارل يونج"، مؤسس علم النفس التحليلي: "العقل الباطن يعرف المستقبل".

قرار الهجرة اتخذ بعد هزيمة 67 مباشرة، بعد أن وجدت أن أهل الثقة، ونفس الوجوه التي تسببت في الهزيمة، مستمرين في حكم البلد. نفس السياسة، ونفس أسلوب كبت الحريات والاعتقالات، والتأميمات ومصادرة الممتلكات.

كان أمامي الهجرة إلى كندا أو الولايات المتحدة المريكية أو البرازيل. لم أفكر في الهجرة إلى أستراليا. قدمت طلب هجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لماذا أمريكا وولاية نيويورك بالتحديد، لأنها الأقرب في المسافة لمصر، وفرص العمل هناك أحسن.

كانت أمريكا في ذلك الوقت تقبل هجرة المؤهلات الجامعية من الكليات العملية مثل الهندسة والطب والعلوم والزراعة والتجارة. الطالب حتى يتخرج من الجامعة، يكلف أمريكا مئات ألوف الدولارات. لكنها تأخذه ببلاش من الدول الطاردة للكفاءات.

تأخذه بمؤهله وخبرته الوظيفية. تبتلعه وتشرب عليه ميه علشان تهضمه لكي يصير جزءا من جسدها. تعطيه الجنسية وتساويه بشعبها وناسها. منتهى الذكاء وحسن الإدارة.

عندما أجبر المسلمون شعب الأرمن على المغادرة أو الدخول في الإسلام، اعتقادا منهم أن هؤلاء الكفار يلوثون البلاد، جعلهم هذا يفرون إلى الهند الشرقية. مما حرم البلاد من شعب جاد نشيط. هذا هو الغباء والتعصب الأعمى الذي يتسبب في تدمير الصناعة والزراعة والاقتصاد، ومن ثم باقي البلاد والعباد.

بلادنا السعيدة كانت ترحب بمغادرة هؤلاء المهاجرين المشمئزين غير الراضين. لسان حالها يقول، "لو موش عاجبنكم، تفضلوا مع السلامة". كانت بلادنا السعيدة لا تسمح للمهاجر إلا بمبلغ 200 دولار فقط لا غير.

مرت سنة كاملة على تقديم طلب الهجرة. جاء الرد بالموافقة من ولاية نيويورك. كان لا بد من موافقة القنصل بالسفارة الأمريكية بالقاهرة بعد مقابلة شخصية.

سألتني السيدة مارجريت، متوسطة السن، بجسمها الممتلئ، وبياض بشرتها الناصع، وشعرها الأصفر الذهبي، وعيناها الخضراوتات:

هل تعرف أحدا بمدينة نيويورك؟
لا.

كم معك من النقود؟

200 دولار.

"هل تعرف كم تكفيك هذه النقود في نيويورك؟

لا أعرف.

إذا بوجه السيدة مارجريت، من الغضب، يتغير من اللون الأحمر إلى البمبي إلى الأصفر ثم الأبيض. كأنها كانت على سطح صفيح ساخن. ثم ألقت بالملف الخاص بي في وجهي، وهي تطردني من الغرفة.

أخذت الملف وذهبت للسيدة عايدة الإبراشي مسؤولة الهجرة في السفارة وأنا أقول لها: "لماذا رفض طلبي؟ أريد معرفة السبب". نظرت عايدة إلى تأشيرة السيدة مارجريت، ثم لي شذرا وهي تتعجب: "تقول إن طلبك رفض؟ مبروك. لقد وافقت القنصلة على هجرتك".

أعطتني عايدة تأشيرة الدخول للولايات المتحدة، وأخبرتني أنهم هناك في المطار، سوف يعطونني الكارت الأخضر الذي يسمح لي بالعمل والإقامة الدائمة. ثم طلبت مني استوفاء باقي إجراءات الهجرة اللازمة من المصالح والدواووين الحكومية المصرية.

وللحديث بقية فإلى اللقاء


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى